الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
مزدرون ونفتخر. (ح1)
زاهر رفاعية
كاتب وناقد
(Zaher Refai)
2020 / 5 / 11
الادب والفن
بينما كان الحوار يحتدم على إحدى القنوات حول ملابسات وفاة الشاب "شادي حبش" في سجن طرّة المصري الذي يقبع فيه "حبش" منذ أكثر من عامين دون تهمة معتبرة, كانت قناة تلفزيونيّة أخرى تتحدّث عن الحالة الصحّية للمعتقل المحكوم بالجلد والسجن سبع سنوات في المملكة العربيّة السعودية بتهمة "الهرطقة والتجديف", وأقصد المدوّن المعتقل "رائف بدوي"
لم تكن إحدى تلك القنوات المذكورة أعلاه هي التي يتابع أبو محمّد برامجها في هذا المساء الرّمضانيّ الكورونيّ بجانب زوجه "أم محمّد" وابنه "محمّد" ذا الخمسة عشر ربيعاً.
(اقرصيني يا أم محمّد!!! هل قال الفنّان "هشام سليم" للمذيعة أنّ ابنته "نورا" قد أصبحت ابنه "نور"؟.). سأل أبو محمّد زوجه..
(أي والله يا أبو محمّد أنا كمان سمعت نفس الشيء) أجابته أم محمّد.
استدار أبو محمّد وسأل محمّداً ابنه إن كان قد سمع الشيء ذاته, فأخفض محمّد عينيه أرضاً ونظر موضع قدميه ثم أجاب على استحياء: (أيوة يا بابا, أعتقد أنك أنت والماما سمعتوه كويس) ...
أجاب أبو محمّد مستغرباً: (يعني معقول اتولد لهشام عن جديد ابن صبي وقرر يسمّيه "نور"؟ ده هيبقى "نور هشام سليم" ... والله مبارك لك يا هشام يا حبيبي, أنا بحب أدوار الفنّان ده, أصل مرّة فاتن حمامة....)
قاطعته أم محمّد : (اسمع أبو محمّد لا.. ما تولدش له صبي, اسمع أهو هشام بيقول للمذيعة... أن بنته اللي كانت "نورا" ايوا.. عملت عمليّة جراحيّة وصارت ولد وصار اسمها "نور").
( أه فهمت يا أم محمّد, مهو أنا سمعت بأمور زي دي من صحابي عالقهوة, ده قال لنا "أبو عبد الله" أنّ الطب تطوّر خلاص وصار الدكتور بأمريكا يقدر يعمل عمليّات جراحيّة للواد اللي يجي الدنيا لا حول الله "مخصي".. فهمتيني يا أم محمّد؟ .. أصل أهل الواد يفتكروه أوّل ما يتولد أنه بنت.. بس بعدين يكتشفو أنه لأ, هو ولد اه بس مخصي, ومحتاج عمليّة زراعة "بضان" بين رجليه... عشان كده يفضلو أهله منتظرين أي شب يموت بحادثة مثلاً ويتبرعولهم أهل الميّت ببضانه.... بعدين يجي الدّكتور ياخد بضان الواد ده اللي مات خلاص, أه ويروح يزرعهم مرّة تانية بين رجلين الواد المخصي اللي لسه عايش.. أيوة كدة, عشان ربّنا بيقول الحيّ أبقى من الميّت يا أم محمّد.. بس الحمد لله ربنا كرمنا وجاب لنا "محمّد" ابننا عالدنيا راجل من ضهر راجل, كامل مكمّل سبحانك يا ما انت كريم يا رب.. عارفين لو لاسمح الله غير كده..ده كان لازم ناخد قرض بفلوس آآد كده وندفع لمحمد بأميركا أجرة عمليّة زي دي ..... بس متخفش يا حمادة , ده أنا كنت هجبلك بضان أسد من عينيّ وحياتك يا حبيبي, ولا يا حوووودة ... هاهاهاهاها .. تعال اقعد جنب ابوك..)
جلس محمّد بجانب والده وأجاب بصوت خفيض تعمّد أن يبرزه بخشونة مبالغ فيها: ( أيوه يا بابا, ما أنا عارف ان انت كنت مش هتقصّر)
تابع أبو محمّد: ( ده "هشام سليم" ممثّل فنّان كبير ومعاه فلوس كتير وربنا مباركله ويقدر يدفع لأبنه تكاليف عملية الزرع, مش ده كان اسمها... أنا فاكر آه ده كان اسمها, زي ما قال لنا "أبو عبد الله"... المهم بس و عزّة ربنا وجلاله لو كانت العملية هتكلّف ملايين, مكنتش هاترك ابننا يعيش حياته بدون بضان, لا ده انا كنت هاعمل المستحيل عشان اخليه يعيش نعمة الرّجولة اللي ربّنا سبحانه خلقها له... بس مين عارف مش يمكن ربّنا سبحانه أراد يختبر صبر "هشام" وابنه وشكرهم لمولاهم عالنعمة.... مش يمكن ربّنا عايز يشوف اذا كان "هشام" ده هيروح يدوّر على علاج لابنه ويعمل له عملية, أو هيهمله ولا يسأل بيه ويتركه يعيش راجل بس مستحي وخجلان من اللي بين رجليه كأنّه بنت لا سمح الله)
نهض محمّد واقفاً وأراد أن يتجه نحو غرفته, حين استوقفه أباه وسأله عن رأيه في ذلك, فتقدّم محمّد ووقف أمام والديه باحترام, ثم انحنى وأخذ يد أباه فقبّلها ثلاثاً ثمّ وضع جبينه عليها, ثم مثل ذلك فعل بيد أمّه. حينها انحنت أمّه وقبّلت جبين ابنها الذي اعتدل في وقفته قائلاً بما معناه: ( أنا متيقّن أنني لو احتجت لمثل تلك العمليّة الجراحيّة فلن تبخل بفلسٍ واحدٍ يا والدي, ولن تحرمني من نعمة الرّجولة كما تفضّلت ووصفتها يا بابا. شكراً على كل شيء, وتصبحون على خير) ثم انصرف إلى غرفته تلاحق مسامعه دعوات أمّه له بالتوفيق والنجاح وأن يحفظ الله عليه صحّته ويرزقه الزوجة الصالحة الجميلة التي تسعد قلبه, وأن يكون له منها عشرة أولاد.
قام أبو محمّد وأغلق التلفاز ثم انصرف يتوضّأ لصلاة سنّة الوتر قبل النوم, بعد أن أوصى أم محمّد أن توقظه على السحور بارك الله فيها من زوجة وأمّ لابنه الذي لم يرزقه الله إلّاه في هذي الحياة الدّنيا.
دخل "محمّد" إلى غرفته, وما إن أغلق الباب خلفه حتى دفن رأسه في الوسادة وأجهش في البكاء كما تفعل الفتيات حين يجرح أحدٌ ما مشاعرهنّ بكلمة. ما إن انتهى بكاؤه, لا يدري أم أن دموعه هي التي انتهت, قام وركل كرة القدم الملقاة أرضاً بحنق وتفّ تفّة قويّة على قفازات الملاكمة التي أهدتهم إيّاه خالته في عيد ميلاده السنة الفائتة, ثمّ أخرج هاتفه المحمول وقام بتسجيل الدّخول لموقع "الفيسبوك" واتّجه مباشرة للمجموعة المغلقة التي يطلقون عليها اسم "مزدرون ونفتخر" . وهي مجموعة مغلقة على مواقع التواصل الاجتماعي كانت قد أسستها فتاة عربيّة بحساب مزيّف تسمّي نفسها "سأكون ما أريد". وهناك شروط لتصبح عضواً في هذه المجموعة التي تضمّ حسابات كثيرة تفوق العشرة آلاف, بعضها بأسماء وصور غلاف تعود لأصحابها الحقيقيّين, ذلك أنّ أصحابها مواطنون أو يعيشون في مجتمعات ودول تحترم حريّة الفرد. بينما معظم هاته الحسابات هي بأسماء مزيّفة لأنّ أصحابها يعيشون في مجتمعات وبلاد لا تحترم الحريّات ولا تقيم للفرد وزناً. ولكن في جميع الأحوال فقد كان خلف شاشات تلك الحسابات في مواقع التواصل الاجتماعي أناس بشر حقيقيّون يضغطون الأزرار على لوحات المفاتيح ويكتبون منشورات وتعليقات يتواصلون من خلالها مع بعضهم البعض, ويتبادلون الهمّ المشترك بينهم. هذا الهم المشترك هو أنّهم جميعهم متّهمون في أفكارهم وأفعالهم وأقوالهم سواء من المجتمع أم من الدّين أم من الحكومات بتهم تبدأ جميعها بكلمة "ازدراء".
بعضهم متّهم بازدراء الإله, وآخر متّهم بازدراء الحاكم, وهذه متّهمة بازدراء شرف أبيها, وهنا نجد مجموعة متّهمة بازدراء شهر رمضان , ومجموعة أخرى متّهمة بازدراء شهر يوليو. أيضاً قد نجد ثلاثة أشخاص مشاكسين متّهمين بازدراء أكل لحوم الحيوانات, وثلاثة من مثلهم متّهمين بازدراء الحسّ البشري السليم لأنّهم يستمتعون بمشاهدة أفلام العنف والدماء, وبعضهم متّهم بازدراء قوانين وأعراف تحريم وتجريم الخمور والحشيش... وغيرهم متّهم بازدراء التّاريخ أو الجغرافيا... المهم .. أنّك يجب أن تكون "شخص تزدري" حتى يتم قبولك في هذه المجموعة. أما إن كنت من أولئك الذين لا يزدرون شيئاً, فعلى الأرجح سيكشف أمرك من أوّل تعليق أو منشور وسيتم طردك خارج المجموعة.
وقد كانت مجموعة "مزدرون ونفتخر" تمثّل ما يشبه مجتمع "المطاريد" في مجتمعات العرب القديمة, حيث يهرب من قام بجريمة ويختبئ في الجبال مع مجموعة من المجرمين الهاربين خوفاً من انتقام قبائلهم منهم. الفارق الوحيد هو أنّه لم يكن في مجموعة المطاريد الفيسبوكيّة هذه أيّ مجرم حقيقي قام بفعل جرم نال غيره منه أذى وضرر, إنّما كانوا -أعضاء المجموعة- هاربون بأفكارهم أو ميولهم من الجهات والمجتمعات التي تضطهد وتلاحق حاملي الأفكار والميول والرّغبات المغايرة للسائد. وعليه انطبقت على أعضاء المجموعة صفة المطاريد.
ابن "أبو محمّد" كان من الذين انضمّوا لقافلة الازدراء هذه مؤخّراً حين تشجّع وأرسل طلب انضمام من حساب وهميّ باسم فتاة سمّى نفسه به "زينة" ووضع في صورة الغلاف بدلاً من صورته, صورة فنّية مرسومة بالفحم لفتاة تبكي بدمع أسود اللون. ولكن كل من في المجموعة يعلم أنّ "زينة" هذه هي فتاة ولكنّها تشعر أنها حبيسة في جسد شاب اسمه "محمّد" ولا أحد بالطبع يعلم شكل محمّد الحقيقي هذا ولا اسم عائلته.
كان "محمّد" ينتمي في قافلة المطاريد لمجموعة المتّهمين بازدراء الجندر, أو بازدراء الدّور الاجتماعي. وهي تهمة تلحق الغير راضين عن الجسد الذي يلبسونه في هذه الحياة, ويرون أنّه لا يعبّر عن الجانب الوجداني من وجودهم في هذا العالم, فالإنسان في النهاية ما هو إلّا "شعور وجسد"
"جندر" المرء يا سادة يا كرام هو ليس "جنس" المرء كما يرينا إيّاه شكل أعضائه الحميمة, بل إنّ الجندر هو "الدور الاجتماعي" المطلوب من المرء أن يؤدّيه بناءً على الجنس الذي ينتمي له بالفعل, حتى لو كان ما بين فخذيه يشير لجنس آخر.
فمثلاً: "محمّد" ابن "أبو محمّد" جاء إلى هذه الحياة وبين فخذيه عضو ذكري مكتمل وتحته خصيتين, وعلى هذا الأساس صار الجميع يعاملونه كذكر, وينتظرون منه أن يكبر ويصبح رجلاً مكتمل الرّجولة ويقوم بأفعال الرّجال . في الوقت ذاته الذي يتعامل فيه محمّد مع عضوه الذكري وخصيتيه على أنه تشوه جسدي يخفي تحته فتحة مهبل. لا بل إنّ محمّداً كان يشعر بوجود رحِم ومبايض أسفل بطنه. هذا الرّحم وهذا المهبل هما اللذان يعتقد محمّد أنهما يجسّدان شخصيّة "زينة" .. زينة التي تمثّله في هذا العالم من أول يوم فتح عينيه على هذه الحياة. هذه الـ"زينة" لم يستطع محمد أن يكونها سوى بينه وبين نفسه, أو من خلف حساب فيسبوك وهمي. ذلك أنّ محمّداً كان مضطراً لدفن "زينة" في وجدانه كما يدفن فرجها تحت قضيبه.
بالعودة لمجموعة "مزدرون ونفتخر", كتبت "زينة" في المجموعة منشوراً تعبّر فيه عن سوء حالها من الحوار الذي دار مع أبيها, إذ أنّ الحد قد وصل بأبيها هذا المساء أن يعلن لها, لو أنّها جاءت إلى الحياة الدّنيا كفتاة بفتحة مهبل لأغلقه والدها وقام بتركيب "زب" في مكانه, كي يجعل منها "محمّد" الذي هي عليه الآن!!
جاء التعليق الأوّل من شاب في المجموعة يسمّي نفسه "مسلم كيوت" وهو حساب وهميّ لشابّ حقيقي مسلم متّهم بازدراء العنف المقدّس. حيث أنّ هذا المسلم يقول بأنّ العنف وإراقة الدماء لا أصل له في دين الإسلام, بدليل أنّ القرآن يشتمل على آيات كثيرة تحضّ على التسامح واحترام الآخرين بغضّ النظر عن معتقدهم... المهم .. كتب هذا المسلم الكيوت لزينة تحت منشورها تعليقاً يقول فيه:
( أستطيع تفهّم مشاعركَ تماماً يا أخ محمّد, وليكن بمعلومك أنني مسلم ولكنني لا أوافق على اضطهاد المثليّين جنسيّاً, واؤمن أنّ لكل أمرئ الحقّ في استعمال جسده كيفما شاء, فالله هو الذي خسف بقوم لوط الأرض ولم يوكل المهمّة لأحدٍ من خلقه, فالله هو الذي يحاسب النّاس على فعالها ولا يجوز للإنسان أن ينصّب نفسه مكان الله)
فكتبت له "زينة" ردّاً تقول: ( شكراً على تعاطفك يا سيّد مسلم, بس الحقيقة أنا مش واد لوطي زي ما حضرتك اتفضّلت ووصّفت, أنا بنت عاديّة مسجونة في جسد راجل مقدرش أكونه, عارف "انتَ" لما حدّ يناديك "إنتي" طول الوقت زي ما تكون بنت, عارف الشعور ده؟ آه طب خلاص هو ده اللي انا بعيشه كل ثانية من حياتي من أول يوم)
دخل خلف تعليقها تعليقٌ لشابّ يسمّي نفسه باسمه الحقيقي ويضع في صورة الغلاف صورة حقيقيّة لوجهه عند بوابة براندنبورغ في برلين عاصمة ألمانيا, كتب هذا الشاب مخاطباً المسلم الكيوت:
( وحياة أمّك تسدّ بوزك, انت ما انتاش فاهم حاجة, أصل نبيّكم نكح عقولكم خالص, مش قادرين تفكّروا إلّا بالسكس. يا جاهل دي زينة من العابرين جنسيّاً, فاهم ايه يعني انسان عابر جنسيّاً؟ لا طبعاً مش فاهم, أصل انتو ناس ملكمش دعوى غير بالنكاح وشرب بول البعير)
كتب له المسلم كيوت ردّاً يقول فيه: ( انت بتبلطج على أفكاري زي ما تكون بتشتم كده ليه؟ ما كلّنا عارفين أنّ زينة ده هو محمّد, ومحمّد ده هو شابّ مثلي الجنس, يعني بيحبّ ينام مع رجّاله مش مع ستّات, انت متعرفش تقرا يالا؟ أهو بيقولّك أنا بنت محبوسة جوّا راجل! يعني خلاص يبقى هو محمّد ده راجل عاوز ياخد دور الستّات في السرير, مش كده يا محمّد ولا أنا فهمتك غلط؟)
أغلقت "زينة" هاتفها, أطفأت النور, أقفلت الباب بإحكام, أخرجت دبّاً قطنيّاً ناعم الملمس من تحت السرير وضمّته بحنان, ثم غاصت في بحر أحلام من الشيكولاتة)
يتبع..
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مخرجة الفيلم الفلسطيني -شكرا لأنك تحلم معنا- بحلق المسافة صف
.. كامل الباشا: أحضر لـ فيلم جديد عن الأسرى الفلسطينيين
.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص
.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة
.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس