الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهوية الحجازية

لطيفة الشعلان

2006 / 6 / 18
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية


الدراسة ليست أنثروبولوجية نقية، وفي الوقت ذاته فنفسها التاريخي السياسي لايضفي عليها اعتبارات القراءة السياسية الواقعية حتى وصاحبتها أحد الوجوه المعروفة في الأوساط الإعلامية والأكاديمية، أما مقاربتها للواقع السياسي المعاصر ففيها من انفعالات الوجدان (الصوفي) وزخم العاطفة أضعاف ما فيها من السياسة، ذلك طبعا لاينفي أنها (أجادت) في توظيف مسألة ثقافية كالهوية توظيفا سياسيا قد يُؤجج مخيلة البعض أو يُلهب وجدانه لكنه لن يقدم تصورات عملية، فمثالية التنظير على اعتبار مثاليته ليست المحك بقدر ما هو امكانياته الواقعية. هذا ينطبق بشكل أو بآخر على الوجهة المعارضة لطروحات مي يماني في كتابها الجديد "مهد الاسلام: البحث عن الهوية الحجازية"، فلا قيمة ولا نُبل في تشكيك البعض في انتماءات من يخالفهم الرأي أو في ولائه الوطني، والذين تناولوها ساخطين من منطلقات حماسية ينسون ان مسألة الاختلاف والتنوع الثقافي مقابل التجانس الخادع أو القسري أصبحت قضية محسومة في عالم اليوم. طبعا سيدخل في خانة الشغب لا العاطفة لو سألتُ هنا بحسن نية: هل كانت السيدة يماني ستؤلف كتابها المثير وتهديه إلى: " أبي أحمد زكي يماني الساكن دائما في قلبي" حين كان يسكن في منصب وزير البترول لأكثر من عشرين عاما، الجواب معروف بداهة، أما المراد فهو أن كل الكيانات الممتدة جغرافيا قديما وحديثا عرفت اشكالات الهويات الفرعية، كما أن القول بالهوية المختلفة للحجاز أو الإيمان بتمدين الحجازيين وتحضرهم وغناهم الثقافي مقابلة بالنجديين قضية لامراء فيها ، لكن بيت القصيد هو كون يماني عمدت إلى توظيف هذه القضية سياسيا مما أوقعها في مزالق عديدة أولها النبرة الإقليمية والخطاب المتعنصر.
فمن الواضح أن ليماني وجهة نظر سياسية وهذا حقها، لكن هل كان النزوع نحو الإقليمية هو الخيار الأمثل للتعبير عن وجهة النظر هذه؟! فرغم كل مجهودات أساتذة أكسفورد فإن تفكير يماني ظل محتفظا ببنيته العروبية السجالية، فهي لم تكن قادرة على رؤية تميز الحجازي ثقافيا إلا من خلال وضعه في ثنائية يكون قطبها الآخر النجدي الذي لايستمتع بالموسيقى ولايحتفل بالمولد النبوي ويأكل بيده مقابلة بمن يستمتع ويحتفل ويستخدم الشوكة والسكين منذ الخمسينيات، لابأس مع أن الأنثربولوجيين الغربيين الذين درسوا قبائل الزولو لم يستحضروا :(كيف نتصرف نحن في لندن وكيف يتصرفون هم في الأحراش)!، ولم تكن النظرة الدونية للثقافات الأخرى في الرؤية الاستشراقية خليقة بمستشرقي الصف الأول، لكن هذه النغمة التي تُصنم الهوية الفرعية وتُعلي من تفوق أفرادها العرقي أو الثقافي مقابل الحط من شأن غيرهم، إنما تأخذ من الحيادية أو العلمية لصالح الهدف الموجه أو لصالح النعرة الضيقة. فيماني تضع حتى الممارسات الخرافية في موضع الحفاوة كشكل من الرهافة الحضارية لمجرد كونها متبناة من قبل العوائل الحجازية، فاجراءات كالحماية من العين الحاسدة مثلا تجيء في فصل (التعلق بفنون اللباقات الاجتماعية)! ثم إن ماتسميه بالروحانيات كالتصوف قد لايكون عند غيرها أكثر من دروشة وتغييب للعقل وبذات سوء ما تنعته بالتزمت الديني النجدي. إنها النعرة أيضا التي تجعل الأشراف الذين حكموا الحجاز محاطين بهالة رومانتيكية فهم: "يفضلون نمط العيش المتفتح ويتقنون لغات عديدة ويتبعون الطرق الصوفية ويستمتعون بأنماط موسيقية مختلفة". مع ذلك فالتاريخ لاينسى أحدا، فالتصوف والموسيقى لم يمنعا الأشراف من ممارسة السياسية بكل فضائلها وموبقاتها وموازناتها وإرغاماتها شأنهم في ذلك شأن سواهم، فالسياسة هي السياسة في أي زمان ومكان، لكن سياق يماني ليس هذا طالما هي مأخوذة باستمرار بمسألة الهوية المتفوقة المقصاة والهوية الأدنى المتغلبة، محصية حتى حكايا النساء، فالحجازية إذا قابلت صاحبتها تسألها: "أوحشتك يا فلانة"؟ فتأتيها الاجابة أكثر نعومة، ثم يأتي صوت يماني الجهوري مُعقبا ليشد آذان النجديات ورجالهن: "الحجازيون يتميزون بهذا الأسلوب المنمق عن النجديين الأكثر خشونة والأقل تعبيرا عن مشاعرهم".
تفطن يماني إلى تمايز المجتمع الحجازي بين حاضرة وبادية ونخبة وعامة ..الخ بينما نجدها تُحيل على النجديين باستمرار بوصفهم وحدة واحدة، خالطة بين عامة الناس الذين لا علاقة لهم بالوقائع التاريخية والسياسية وبين النخبة صانعة القرار، ربما لتصب غضبها مرة واحدة وتستريح، كما تحيل على المجتمع النجدي بوصفه وحدة متجانسة اجتماعيا وثقافيا، رغم ان هذا التقدير إن كان صحيحا قبل خمسين عاما فإن عوامل كالسكنى في المدن والتعليم والسفر قد أضفت تنويعات داخل نسيج هذا المجتمع بشكل لايستقيم معه التعميم، خاصة ونحن في سياق علمي لا في جلسة دردشة غير منضبطة، كما أننا بصدد طقوس اجتماعية وثقافية كطرائق الطبخ والأكل والكلام والترفية واستقبال المواليد ومجالس العزاء، وهذه كلها عرضة بالمثاقفة لتحولات دراماتيكية مستمرة لأنها لاتمس عمق البنية الثقافية ومن ثم فهي لا تستثير مقاومة شديدة في وجه التغيير. فلو سلمتُ مثلا ليماني بأن المظاهر الباذخة في استقبال المواليد وحفلات الزفاف أحد التمثلات الحضارية المرهفة للهوية الحجازية، فإنني سأعتقد بأنها لم تخالط النجديين منذ زمن، فقد صاروا يعكسون رهافة بهذا المعنى تضاهي رهافتهم.
إن حديث الهوية بالشكل العقائدي والمسيس الذي تتبناه يماني لايساهم في شرعنة ثقافة الآخر المختلف كأحد أهم مطالب الحياة الحديثة، ولا أظنه يساعد في حل الاشكالية التي تراها يماني، لكن الأهم من ذلك هو أن هذا الخطاب يتحول من آداة لتعزيز التنوع الثقافي إلى وسيلة لشحذ العنصريات والإقليميات، فكأنه في حقيقته ينقض جوهره الحداثي المفترض. ففي سجال آخر لشجاع المطرفي ومحمود عبدالغني صباغ على سبيل المثال ستسمع بالهوية المكية أو هوية حاضرة مكة مقابل باديتها، فالنجدي ليس هو الطرف المقابل هذه المرة لأن السجال يدور في هوية فرعية (مكية) داخل الهوية الفرعية الأكبر (الحجازية) فيكون الأقربون أولى بـ (المعروف)، أو من: "جاور حاضرة مكة ولم يسهم في تكوين شخصية وهوية مكة ثم يدعي أنه الأحق بتمثيلها".
من جهة ثانية فإن يماني في تشديدها على هوية حجازية نقية ثابتة تجاهد المؤثرات النجدية إنما هي تغفل أن أي هوية ليست كينونة أو نسقا مقفلا بل هي بطبيعتها متحركة ومُشرعة على التفاعل مع الروافد الثقافية الخارجية التي تشكلها الهويات الأخرى، فالهوية الحجازية مهما برعت يماني في تصوير فرادتها وخصوصيتها هي في المحصلة امتزاج هويات فرعية مصرية وبخارية وهندية وافريقية وتركية ومغاربية إلى جانب هوية سكان الحجاز الأصليين.

لطيفة الشعلان








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار


.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟




.. يديعوت أحرونوت: إسرائيل ناشدت رئيس الكونغرس وأعضاء بالشيوخ ا


.. آثار قصف الاحتلال على بلدة عيتا الشعب جنوب لبنان




.. الجزائر: لإحياء تقاليدها القديمة.. مدينة البليدة تحتضن معرض