الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إفريقيا بين الأمن الغذائي المفقود والإصلاح الزراعي المنشود

مرتضى العبيدي

2020 / 5 / 15
الصناعة والزراعة


مع انتشار جائحة الكورونا، وجدت معظم البلدان الإفريقية نفسها في مواجهة جائحتين: جائحة كوفيد ـ 19 المستجدة وجائحة الجوع الدائمة، وهي الأكثر فتكا بالإنسان في هذه البلدان. إذ أن المنظمات الدولية المختصة مثل منظمة الأغذية والزراعة، ومنظمة الصحة العالمية وحتى المنظمة العالمية للتجارة سارعت بإرسال نداءات استغاثة للمجتمع الدولي لتقديم المساعدة للبلدان المنكوبة لتجنّب الكارثة، باعتبار النقص الفادح في المواد الغذائية في عديد البلدان الإفريقية واستحالة التوريد نظرا لتعطل حركة النقل عبر كبرى المواني العالمية. وهذا هو إحدى نتائج عولمة التجارة التي جعلت تغذية مئات الملايين من البشر في شتى أنحاء العالم مرتبطة بمسالك التجارة العالمية وعمّقت بذلك تبعية هذه البلدان الى الدول المصدّرة والشركات العابرة للقارات.
ومعلوم أن انعدام الأمن الغذائي كان أحد أسباب اندلاع النزاعات في القارّة السمراء، خاصة وأن الأنظمة القائمة في معظمها بحكم طبيعتها ، فضلت الانخراط في السياسات المسطّرة والمملاة من قبل الدول الامبريالية ومؤسساتها المالية. علما وأن جميع الأحزاب الإفريقية التي قادت حركات التحرّر الوطني في منتصف القرن الماضي كانت واعية أتمّ الوعي بمحورية القطاع الفلاحي وضمّنت في برامجها ودساتيرها ضرورة إنجاز إصلاح زراعي جذري حال حصول بلدانها على الاستقلال.
وعلى سبيل المثال، فقد تضمّن "ميثاق الاستقلال" وهو عبارة عن دستور المؤتمر الوطني الإفريقي بجنوب إفريقيا بندا ينصّ على الإصلاح الزراعي بما فيه استرجاع الأراضي من الأقلية البيضاء التي كانت ومازالت تمتلك أكثر من 95 ℅ من الأراضي الصالحة للزراعة وإعادة توزيعها على أصحابها الشرعيين، أي سكان البلاد الأصليين. ونظرا الى أن الحكومات المتتالية لم تتقدم خطوة واحدة نحو إنجاز هذا المطلب الشرعي، فقد أدى ذلك الى توترات داخل حزب المؤتمر الحاكم، نتج عنها انسلاخ بعض مكوّناته وبحثها عن صيغ جديدة للتنظم المستقل. وكان عدم الإيفاء بهذا التعهد، الى جانب استشراء الفساد لدى الحكّام الجدد، أحد أسباب انسلاخ "نقابة عمال المعادن"، كبرى نقابات البلاد، من المركزية النقابية (كوساتو) سنة 2013 وهي إحدى المكوّنات الأساسية للمؤتمر الوطني الإفريقي.
وفي نضاله ضد الاستعمار البرتغالي من أجل تحرير غينيا بيساو وجزر الرأس الأخضر، اهتم أميلكار كابرال، وهو المهندس الزراعي، بمسألة الإصلاح الزراعي لا من الناحية النظرية فحسب بل شرع في تطبيقه على أرض الواقع على جميع الأراضي التي يتمّ تحريرها، من أجل توفير الاكتفاء الذاتي لسكان الأرياف التي كانت الحاضنة الأساسية للقوات الثورية التي خاضت حرب التحرير الوطني على مدى 10 سنوات (1963 ـ 1973). وكان يقوم بنفسه بتعليم قوات جيش التحرير التقنيات الزراعية، الذين كانوا ينقلونها الى المزارعين حتى يتمكّنوا من الزيادة في الإنتاج والإنتاجية لضمان إطعام أسرهم وكذلك إطعام المتفرّغين منهم في صفوف جيش التحرير ، وكان هؤلاء يساعدون المزارعين في كل الأعمال الفلاحية من حراثة، وسقي، وجمع المحاصيل...
أما كوامي نكروما زعيم حزب المؤتمر الشعبي في "خليج الذهب" (التي ستُسمّى غانا بعد الاستقلال)، ومنذ استقلال البلاد على العرش البريطاني سنة 1957، فقد أعلن غانا بلدا اشتراكيا، وشرع في تثوير الهياكل الاقتصادية التقليدية من أجل إقامة نظام بديل يضمن لغانا استقلالها الفعلي عن المستعمر، وخاصة سيادتها الغذائية. وقد أدرج الإصلاحات التي قام بها تحت مسمّى "الاشتراكية الإفريقية" التي من أبرز مقوّماتها الإصلاح الزراعي. وهو من الأسباب التي جعلت بريطانيا تسارع بتدبير انقلاب عسكري ضدّه سنة 1966 لمّا كان في زيارة رسمية الى الصين، لإجهاض التجربة. ومازالت غانا الى حد اليوم ، رغم ما توفّر لديها من ثروة نفطية، تعاني تخلفا رهيبا في المجال الزراعي حيث تواصل المزارع التقليدية المملوكة لمزارعين صغار الهيمنة على مجمل الزراعة، وغالبا ما يكون هؤلاء المزارعين، بمن فيهم النساء والفتيات، من بين فقراء الريف والذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي.
وعلى خطى نكروما وأميلكار كابرال، سار توماس سانكارا في بوركينا فاسو (1983 ـ 1987)، ولقي نفس مصيرهما إذ تم اغتياله في انقلاب عسكري من تدبير المخابرات الفرنسية وتنفيذ بعض العملاء، وتعطلت برحيله ما أطلق عليه اسم "الثورة الزراعية".
فحالة الهشاشة التي عليها النُظُم الزراعية في إفريقيا اليوم هي متأتية أساسا من تدمير المنظومة الزراعية التقليدية من قبل الأنظمة الاستعمارية وتوجيهها لخدمة حاجيات المستعمر، وزادها حدّة في العشريات الأخيرة نظام العولمة بربط الإنتاج بحاجيات السوق العالمية، ضاربا عرض الحائط بحاجيات أهل البلد. وهكذا فإنّ معظم البلدان الإفريقية رغم ما تتوفّر عليه من إمكانيات، تبقى مرتبطة ارتباطا مذلاّ بالخارج في أبسط حاجياتها الغذائية. فإنتاج القمح على سبيل المثال لا يغطي سوى 10℅ من حاجيات سكان القارّة. وعموما، فإفريقيا عاجزة في الظرف الراهن على إنتاج حاجياتها من المنتوجات الفلاحية من ناحية، ومن ناحية ثانية فهي تصدّر كميات هائلة من المواد الفلاحية التي تعجز على تحويلها محليا والتي يتمّ تصديرها لتصنع ثروة المؤسسات أو المستثمرين الأجانب مثل مادّة الكاكاو.
إن تعطل حركة التجارة العالمية من جرّاء الجائحة وضع مجددا القارّة الإفريقية أمام تحدّي الأمن الغذائي. ففي منتصف شهر أفريل كانت كميات الأرز المخزنة في بلدان غربي إفريقيا لا تغطي إلا حاجيات شهرين من الاستهلاك، وهو ما يطرح بصفة ملحّة مسألة ضرورة مراجعة السياسات الزراعية مراجعة جذرية.
ومما يزيد الأمر إلحاحا التطوّر الديمغرافي الرهيب الذي سيجعل عدد سكان القارّة يتضاعف في حدود سنة 2050 ، إذ تتوقع التقديرات أن يمرّ من 1,2 مليار نسمة حاليا الى 2,5 في التاريخ المذكور. لذا فإن مواصلة تجاهل المسألة الزراعية من قبل الأنظمة القائمة يُعتبر جريمة في حق شعوبها وأجيالها القادمة بالخصوص. ورغم النموّ الاقتصادي التي تشهده بعض البلدان الإفريقية خاصة البترولية منها أو الغنية بالمعادن النفيسة، فإن الزراعة تبقى في أغلبها مهمّشة، بينما يرى عديد الخبراء أن خلاص القارّة وإعادة التوازن الى نموّها الاقتصادي يكمن في النهوض بالقطاع الزراعي، الذي بمقدوره لا فقط تأمين الأمن الغذائي لبلدان القارة بل وكذلك توفير الملايين من مواطن الشغل.
وهكذا يتضح أنه، رغم التضحيات الكبيرة التي قدمتها الشعوب الإفريقية من أجل الحصول على استقلال بلدانها، فإن الأنظمة المنبثقة عن تلك الحركات التحررية في خمسينات وستينات القرن الماضي لم ترتق في معظمها الى مستوى المسؤولية التاريخية التي كانت ملقاة على عاتقها، واختارت أن تتخذ موقعا ما في المنظومة الاستعمارية الجديدة لا يؤهّلها في الإيفاء بالوعود المقطوعة في التحرر الوطني والسيادة على المقدّرات. وهو ما ترتّب عليه الكارثي الذي عليه الفلاحة اليوم، وهو ما يحتّم على القوى الثورية اليوم في هذه البلدان إيلاء الأمر ما يستحقه من أهمية وإدراجه ضمن برامجها النضالية دون تأخير أو تردد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ظل التحول الرقمي العالمي.. أي مستقبل للكتب الإلكترونية في


.. صناعة الأزياء.. ما تأثير -الموضة السريعة- على البيئة؟




.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا


.. تصاعد ملحوظ في وتيرة العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل




.. اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة الخليل لتأمين اقتحامات