الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يومَ ضعتُ في واحَة -تُودْغَى-

ادريس الواغيش

2020 / 5 / 17
الادب والفن



كنت أعرف أن الجنوب قَصِيٌّ عليّ والطريق إليه طويل صعب وشاق، والرّجوع إليه سيكون أكثر شقاوة وصعوبة، لذلك حاولت أن أزور ما أمكنني من مُدنه ومناطق وأماكن فيه قبل الرجوع إلى قواعدي في الشمال. طلب مني أحد أصدقاء الدراسة ذات جلسة في أحد مقاهي مكناس أن أزوره في "تنجداد" قرب الراشيدية في الصحراء، حيث كان يقوم بمهام إدارية هناك، لم أتردّد يومها في قبول الطلب، وعدته أن أفعل، لكن تركنا تفعيل الزيارة إلى الظروف والمُمكن من الزمن. كنت يومها في سنتي الثانية من التدريس بتارودانت سنة 1985م.
في رحلتي عبر الحافلة بين تارودانت وورزازات، كانت الطريق صعبة وفيها الكثير من الحفر والمنعرجات، شاءت الظروف أن تصاب الحافلة بعطب تقني غير بعيد عن منعرجات "تالوين" حيث بدأت الأرض تنبسط أمامنا قليلا. كانت الفرصة مناسبة للركاب كي يأخذوا بعض أنفاسهم قريبا أو بعيدا قليلا عن الحافلة. بدأ مساعد السائق يصيح بما يملك من صوت محلي واضح باللهجة "السُّوسِيَة" ما مفاده أنه سيترك كل من يتخلف وأن "لا تبتعدوا كثيرا، سنقلع قريبا". نزلنا جميعا من الحافلة في أرض جرداء قاحلة إلا من بياض يكسو قمم جبال الأطلس الكبير التي تتراءى لنا من بعيد. كانت فرصتي أن ألتقي مع بعض السياح القاصدين ورزازات، رغم أننا كنا نستقل نفس الحافلة، بحكم كوني الوحيد الذي يتقن إلى حدود ما الإنجليزية في تلك السفرية، كما كان يتواجد معنا أيضا بنفس الحافلة رجل بشوش ومرح يحمل بعض شارات فناني المنطقة أو يسمى "الرّْوَايْس".
ذكّـرني بأحد الشبّان من جيراني في المدرسة الذي كان في مثل عمري تقريبا، لم يكن يعرف العربية وكنت أنا بالكاد أرَكّـب بعض الجُمل باللغة الأمازيغية أو اللهجة "السّوسية"، وبالتالي حدث ان اتفقنا أنا وهو بشكل سرّي على أن أعلمه العربية ويعلمني هو الأمازيغية، كان هذا الصديق وسيما مرحا ومهووسا بالغناء، وحضور رقصات الأحواش التي كانت تقام في ركوح الدواوير ليلا بدءا من فصل الربيع إلى أن ينضج الزرع في الحقول وتبدأ عملية الحصاد في الحقول. كان يردّد بشكل دائم أغاني بعض "الرّوايس" مثل الدّمسيري الذي كان يومها أكثرهم شهرة كما آخرون من الجنسين، وهي أغاني كانت تُغنّى في المناسبات وتبثها الإذاعة الجهوية في أغادير بشكل يومي كل مساء.
كان هذا الصديق السّوسي يحكي لي عن هيامه بتلك الفتاة القاطنة في إحدى الدواوير القريبة، ولذلك كنت أرافقه أحيانا ونحوم معا حول بعض الجنان من باب جبر الخاطر علنا نلتقي بحبيبته، واللقاء بفتيات أخريات في المنطقة وكان الحديث إليهن مُباح ولا خوف من جهة أقاربهن كمرور أخ أو أب، وهذا يدخل في صميم عادات تلك المنطقة الجميلة، رغم كون سكانها محافظين جدا. وللتخفيف من وضع مشكلته الغرامية، كان يحكي لي وبشكل درامي أيضا عن حكاية حب الفنان الدّمسيري لإحدى الفتيات من بلدته، وكيف أخذها غصبا منه أحد المهاجرين بفرنسا، لأنه يمتلك مالا وسيارة وعملا وأيضا يسكن في أرض الفرنسيس، وهذه كلها مؤهلات كانت تصنع الفرق في تلك الفترة الزمنية، وينهي الحكاية متأثرا بموت العروسة والعريس في حادثة سير تراجيدية مؤلمة وهما في طريق العودة إلى فرنسا، بعد أن انقلبت بهما السيارة في الطريق. لا يهم صدقية الرّواية هنا في عمومها ولا ما كان يرويه لي صديقي السوسي، لكن الناس وبعض الشباب في الدوار كانوا يحكون لي عنها كذلك وبتفصيل مُمِل أحيانا، والحكايات الشعبية كما نعرف تأخذ في كثير من الأحيان منحى كرة الثلج وهي في طريقها إلى السفح من أعلى الجبل، إذ كلما تدحرجت أكثر كبُر حجمها وزاد ثقلا، لكن الحكاية انتشرت كأغنية أداها وأبدع فيها الدمسيري شعرا ولحنا وأداء، وبدأت أسمعها بعد ذلك في محلات بيع الكاسيت التي انتشرت كالفطر وفي الأسواق الشعبية في مدن إنزكان وأغاير وتارودانت وصولا إلى إمنتَنوت وتزنيت وبويزكارن.
كنت قد تعرفت على الدمسيري دون أن أدري بحكايته في رحلتي، وإن لم يدم حديثنا طويلا، لأن رجلا تأبط به سريعا وأبعده عنا حين تجمهر حول بعض المسافرين، فيما انشغلت أنا عنه أيضا بالحديث مع بعض السياح الذي أكملت معهم الرحلة إلى ورزازات نتكلم في قضايا عامة مثل التقاليد والعادات والسياحة في المغرب وجماله. عند وصولنا إلى مدينة ورزازات كانت الشمس الربيعية بدأت في الاحمرار، قضيت تلك الليلة في أحد فنادق المدينة بشارع محمد الخامس، وربما كان الفندق نفسه يحمل أيضا نفس الاسم. هناك، كنا أنا وأربعيني جلوس حول طاولة في غرفة الاستقبال، ننتظر من يملأ لنا الاستمارات، التقيت بالسائق الشخصي لبوب مارلي، سألته في فرح:
- هل بوب معك؟ أين هو؟
استحضرت كل ما جمعته من معلومات عن بوب مارلي، من كونه متواضع لا يحب الفنادق الفخمة، وبالتالي كان اعتقادي أنه موجود في الفندق أو سيلتحق بنا بعد قليل، وقلت هي فرصة الالتقاء بفنان عالمي لن يجود بها الزّمان إلا في مدينة مثل ورزازات بوصفها موطنا للسينما العالمية، وكان أحد أفلام بوب مارلي يومها يملأ الدنيا وضارب بقوة في القاعات السينمائية بالمغرب كما في باقي العالم.
قال لي السائق ونحن نتناول العشاء بأحد المطاعم:
- كنت أرافقه دائما في رحلاته، بوب يذهب لآسيا حيث يكثر الفقراء في بعض المناطق، لأنه يعشقهم ويُحب مساعدتهم. لكن بالنسبة لي، قلت أغيّر الوجهة هذه المرّة، وهكذا قصدت بلدكم الجميل...!
شكرته بدوري على إطرائه الجميل كذلك، وعند العودة إلى الفندق اتجه كل منا إلى غرفته.
في الصباح قصدت مدينة تنغير مرورا بقلعة مكونة، تصادفت هناك مع الاستعدادات لموسم الورود، أخذت وجبة غذائي عبارة عن طاجين مغربي مزيّن بوُرُود محلية في أحد المطاعم على الشارع الرئيسي للمدينة، وتابعت الطريق بعدها إلى تنغير عبر بومالن دادس ومناظرها الطبيعية الخلابة. حين وصلت إلى تنغير كانت الشمس قريبة من المغيب أيضا، فكرت في الفندق أولا من باب الاحتياط قبل أن أواصل إلى تنجداد، ربما لن يكون الطريق إلى صديقي سهلا في منطقة لا أعرف عنها شيئا، رغم أن الأمر يتعلق بقرية صغيرة في الصحراء. لكن الصدفة ستجمعني فيها أيضا بصديق دراسة آخر يزاول مهنة التدريس بإحدى الإعداديات في المدينة، أقسم أغلظ إيمانه إلا أن أكون ضيفا عنده، وكنا لم نلتقي منذ العطلة الصيفية. عندما قصد عمله في الصباح، كان عليّ أن أتدبّر أمري في المدينة، كأن أرى شيئا جديدا أو مختلفا فيها وأن لا أضيع الوقت، نصحني أحد أصدقائه بأن أحسن ما يمكن فعله هو زيارة مضايق "تُـودْغى" مادامت المسافة إليها قريبة والمواصلات متوفرة وسهل تدبيرها، واعتذر عن عدم مصاحبتي إليها، لأنه متابع بالعمل.
وأنا واقف أنتظر في مفترق الطرق، قصدني سائح فرنسي مع زوجته وطلب مني أن أدله على طريق المضايق، قلت له ضاحكا:
- أنا بدوري جئت سائحا لأراها، هي فرصة لنراها معا...!!
كان يسوق سيارة الرّونو 4 بعصبية شديدة، في كل مرة يتشاجر مع زوجته على أبسط الأشياء، ولا يلبي لها طلبا حتى لو تعلق الأمر بتخفيض السرعة لالتقاط صورة مثلا، فلا يقف إلا وقد ابتعدنا عن المكان المطلوب قليلا، وكأنه يفعل ذلك نكاية في زوجته، مع العلم أن الطريق من مركز مدينة تنغير إلى المضايق كان في حدود العشرة كيلومتر أو تزيد بقليل. هناك في المضايق كان لا بد أن أفترق معهم على وقع خلافاتهما المتكررة، وقد أثارت حتى حفيظة السياح الموجودين هناك ومستخدمي المقاهي على طرفي الوادي. هناك بدأت لعبة جديدة لم يكن لي عهد بها، وهي الانصات إلى الصدى الرّاجع مع بعض السياح الأجانب، كان شاب شديد الشمرة يصيح ونلتقط نحن صدى صوته الشبيه بصوت الذئب بشكل جميل، في كل مرة يكرر صيحته المعروفة يعطيه السياح بعض البقشيش، بدأنا نصيح بدورنا ونسمع إلى صدى أصواتنا وهي تتكرر لأكثر من مرة، كان لا بد أن أتناول هناك الـ"طاجين" بلحم الماعز وأشرب براد شاي صحراوي بأكمله تحت خيمة تقليدية عربية مصنوعة من وبر الإبل وشعر الماعز.
فضلت أن أرجع راجلا، لأن طريق العودة مُمتعة للناظرين بمناظر نخيلها وطبقات صخورها الجميلة، وهي فرصة للمصورين من ممتهني التقاط ما يكفي من الصور، في الطريق وجدت "عين السمك المُقـدّس" العجيبة، بها سمك صغير ملوّن يدخل ويخرج بحيوية العفاريت من تحت صخرة كبيرة حيث منبع الماء. بعض السياح والزوار من الرجال والنساء يرمون بأرجلهم في الماء وهو يأكل الجلود المريضة والمتآكلة أو من هم مصابون بأمراض جلدية مثل "الأكزيما" وأمراض في الأرجل، ويقولون بأن ذلك "السّمك المُقـدّس" يداويها بشكل لا رجعة فيه كما قال لي الزوار والأهالي هناك.
عند العودة، قلت لماذا لا أنزل إلى الوادي وأتبع مجراه حتى أصل إلى مدخل المدينة من الجهة الشرقية، في حقول الواحة الخضراء المسقية بمياه الوادي القادم من المضايق وأشجار النخيل مع أشجار أخرى تغطي السماء بكاملها في بعض الأماكن، أضعت البوصلة ذهابا وإيابا بحثا عن مخرج، ولم أعد أعرف جهة الشرق من الغرب في منطقة مستوية تماما ومغطاة بظلال الأشجار وخالية من الناس إلا من أصوات تسمع من بعيد، شعرت بهلع ورُعب شديدين، رغم علمي بأن الناس هناك من ألطف قوم الله على وجه الأرض، ومع ذلك أحسست بخوف رهيب. تردّدت في أن أصرخ بأعلى صوتي أو أن أصرّح بمشكلتي لأحدهم إن وجدته، ومن يكون في هذا الخلاء والصمت الرهيب غيري إلا من أصوات تسمع من بعيد، فإما يتهكم عليّ أو يبتزّني أو يقودني إلى جهة لا أرغب فيها، خصوصا وأنا لم أتجاوز الإثنين وعشرين ربيعا بعدُ رغم تجاربي المتعددة في التجوال. وفي الأخير، قصدت شيخا جليلا كان مارا بالصدفة يركب بغلته:
قلت له: يا سيدي، أنا لم أعد أعرف الجهة التي أقصدها...!
ضحك في لطف، وقال لي لست أوّلهم، كثير من السياح الأجانب الذي يمرّون من هنا يقعون في نفس المشكل الذي وقعت فيه.
رشدني إلى وجهة تظهر لي منها الطريق العابرة إلى تنغير، ومنها أكملت الطريق إلى مركز المدينة. في المساء حكيت لصديقي ما وقع، كاد أن يموت من الضحك مع أصدقائه في المقهى. قالوا لي:
- نحن أيضا وقعنا في نفس الفخ في عامنا الأول هنا، قبل أن نحفظ مسالك دروب تلك الواحة بكاملها وصولا إلى القنطرة في مدخل المدينة وما تحتها...!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل