الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوظيفة العيادية لبطل -الطيب صالح-، سايكولوجيا الإبداع في -موسم الهجرة إلى الشمال-

ميرغنى ابشر

2020 / 5 / 19
الادب والفن


(إلى محمد يوسف الدينكاوي،كم كنت صَبّ بغور الإبداع)


(لا..لست أنا الحجر يلقى في الماء،
لكنني البذرة تبذر في الحقل)
"راوي الموسم"


مايشبه المقدمة:
مائزة النص الإبداعي ،أن يدعوك أبداً الى إعادة قراءته ،أنه يكشف لك بإستمرار عن دلالات منوّعة تقرأ فيها ماهو غير مطروق قبلاً، ويعد كينونة يمارس حضوره الميّز من خلال صيغ الكتابة المثيرة للفاكرة .وهو شيء تفعله ماتعة الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال)،إذ يمتلك هذا النص المحكي طاقة سردية مستدامة لإفتراع أنساق ابستيمية (معرفية) وانطولوجية (ظاهرية) متداولة عبر منصات النقد ،ومكنونة بإنتظار الواعية النقدية المفكرة. لذلك لا تعد (الموسم) مجرد عمل مروي لبادعة رؤيوية قاصة ،أو مخيال لكاتب قصصي خلاق ،بل هي حياة معيشة تأخذ صدقيتها وواقعيتها من خلال مستوياتها السردية التي يفرضها واقع الإفهام. وهو واقع عقلي يتوسل اليه من خلال شرطيه العملي والعلمي ،وفق مكنيزمات تجريب، ومنهاج طحينه مقاصد السرد الواعية وغير الواعية (المموهة)،في عملية دائرية. وكينونة حياة حاضرة بوجودها المتداول الذي يستدعي الجدل النقدي لإستكشاف فواعله المتعددة والمتشابكة،ومطوياته الغائمة. وبذلك تكون (الموسم) أكثر حضوراً وملموسية من كثير من الوقائع اليومية العابرة .
تأسيس (1)
ليس بدع من الإستشهاد أن يكون "بطل الطيب " حالة سريرية نستكشف عبرها مفازات علم النفس الإبداع، إذ أن غالبية فرضيات حقلي الفلسفة وعلم النفس، تستمد شواهدها المعملية من النصوص الروائية الخالدة. واجهر الفرضيات الممارسة علاجياً في مجال علم النفس الفرويدي،على سبيل المثال يتأسس بنائها من شخصيات محكية،نحو عقده وعصاباته السايكولوجية (اوديب) ،(الكترا). وتفرض عنونتنا (الوظيفة العيادية لبطل الطيب صالح،سايكولوجيا الإبداع) منحى بعينه في الاشتغال ،فهي هنا معكوس نهج الفلسفة وعلم النفس، لانها تنهض على فرضيات ومقولات علم النفس الإبداعي لاستكشافها في مسارات بطل الموسم ، بينما تبحث فرضيات ونظريات علوم الاٌناسة عن براهين عيادية في شخوص النص الإبداعي. أي أننا ننحو في مقالنا منحى تفسيري و(علاجي) ،بينما تنحو ضروب علوم الاُناسة منحاً استقصائي إستكشافي. وبمعنى أكثر وضوح أننا نملك العرض لنبحث عن مايطابقه من مرض في النص الإبداعي،بينما فرضيات علم النفس ممسكة بمرضها لتبحث له عن عرض في نصوص الأدب .
تأسيس (2)
إحتكمنا في مدخل مقالنا هذا الذي نكتب لتوصيفات نقدية مشاعة في تسكين ماتعة الطيب صالح (الموسم) في خانة الابداع الروائي، ولكن حان الوقت في هذا الجزء من مسطورنا ،أن نسترشد بمباضع علم نفس الإبداع ،وبمنظوره المعرفي ، الذي يحدد ابداعية عمل ما. يذهب "روبرت ج "و"تود" (** ) الى أن هنالك ثلاثة قدرات لها أهمية خاصة في تحديد إبداعية عمل ما :
(ا) القدرة التركيبية لرؤية المشكلات بطرق جديدة ، وتجنب قيود التفكير التقليدي المعتاد.
(ب) القدرة التحليلية للتعرف على اي الافكار هي التي تستحق المتابعة والمعالجة وأيها لايستحق.
(ج) والقدرة العملية السياقية لكسب أنصار لها أو نغري الاخرين بقيمتها.
ليتبادر التساؤل التالي ، هل تضمنت (الموسم) هكذا قدرات؟وبتلخيص غير مخل ، نمضي في الإجابة على هذا التساؤل، لنقول، تنهض ماتعة "الطيب صالح" ،لا بل ندعي لنقول كل اعماله الروائية، على ثلاثة قواعد وهي مرجعية كوزمولوجية،وقضية وموضوعة ،وفي الموسم تمثل الفرشة الصوفية للمجتمع السوداني مرجعية صالح الكوزمولوجية ليؤسس متخيله ويقيمه على واقعية صوفية (حدسية) ،ليمنح عمله طاقة غير محدودة ،ويفتح شخوصه وامكنته على إحتمالات مفتوحة ، (هكذا في لحظة خارج حدود الزمان والمكان، تبدو له الأشياء هو الأخر ،غير حقيقية. يبدو له كل شيء محتملاً. هو أيضاً قد يكون ابن مصطفى سعيد،أو اخاه أو ابن عمه.العالم في تلك اللحظة القصيرة،بمقدار ما يطرف جفن العين، احتمالات لاحصر لها ،كأن آدم وحواء سقطا لتوهما من الجنة)(الموسم:72)،والشواهد التى تدلل على المرجعية الصوفية للنص لا حصر لها إذ أن العمل برمته يستأنس بسبينوزية فلسفة وحدة الوجود،(وقفزت الى ذهني صورتان فاضحتان في آن واحد . ولشدة عجبي اتحدت الصورتان في ذهني ، وتخيلت حسنة بنت محمود ، أرملة مصطفى سعيد ، هي المرأة نفسها في الحالتين فخذان بيضاوان مفتوحتان في لندن ، وامرأة تئن تحت ود الريس الكهل ،قبيل طلوع الفجر في قرية مغمورة الذكر عند منحنى النيل) (الموسم:107)،(وأنا الأن تحت هذه السماء الجميلة الرحيمة أحس أننا جميعاً اخوة . الذي يسكر والذي يصلي والذي يسرق والذي يزني والذي يقاتل والذي يقتل. الينبوع نفسه. ولا أحد يعلم ماذا يدور في خلد الإله . لعله لايبالي)،(الموسم:137). وإقتناصنا لشواهد من النص لندلل بها على فرشته الصوفية ،لهي من باب الإستحقاق العلمي لمبحثنا الذي نناقش، إذ ان العمل برمته كما اسلفنا ينهض على هكذا فلسفة.
اما القضية ،فهي الإستعمار الغربي لافريقيا،وان شئت القول هي جدلية العلاقة بين الشمال والجنوب،وهي نافلة في القول وهتاف بما هو بيّن وظاهر للعيان وواضح . اذ أن عنونة الرواية تضمنت موضوعتها بإمتياز،(..أنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرمان في قرجاجة، وقعقعة سنابك خيل اللنبي وهي تطأ أرض القدس . البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز،وسكك الحديد أنشئت أصلاً لنقل الجنود...إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الاوروبي الأكبر ..) (الموسم :117) ،هذا هو تصور المستعَمر(بفتح العين) لوظيفة الإستعمار ،أما تصور المستعمِر(بكسر العين) لنفسه فيبسطها "صالح" على لسان برفسور "ماكس فستركين" الماسوني ،وعضو اللجنة العليا لمؤتمر الجمعيات التبشرية البروتستنتية في افريقيا،وهو يخاطب تلميذه في أوكسفورد:(أنت يا مستر سعيد خير مثال على أن مهمتنا الحضارية في افريقيا عديمة الجدوى، فأنت بعد كل المجهودات التى بذلنها في تثقيفك كأنك تخرج من الغابة لأول مرة)،(الموسم:116) ،هذه هي القضية جدلية الشمال (الواهب الناهب)، قبالة الجنوب (المنهوب وجاحد).
ولكن "صالح" يتخير مبضع غير مطروق وقتئذ ،يسرد من خلاله حكاياته التى يطرح في ثنائها "موضوعته"،( نعم يا سادتي، إنني جئتكم غازياً في عقر داركم. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ. أنا لست عطيلاً. عطيل كان أكذوبة) (الموسم:117)،ولكن غازياً باي سلاح؟ومن هو هذا الإستراتيجي الذي يستهدفه بطلنا؟وماهي الجرثومة التي يريد بغزواته إعادة إنتشارها في هذا الشمال الناهب؟ . هي أسئلة غير حاضرة حتى عند القُراء غير النوعيين لسذاجتها وبداهة إجابتها ،ولكننا نبسطها هنا لضرورة موضوعية ،يقول "الطيب صالح" على لسان أحد الوزراء الافارقة التقاه الراوي في مؤتمر لتوحيد اساليب التعليم في القارة:(الدكتور مصطفى سعيد ...ياله من رجل. إنه من أعظم الافريقيين الذين عرفتهم.كانت له صلات واسعة.يا إلهي،ذلك الرجل كانت النساء تتساقط عليه كالذباب.كان يقول سأحرر أفريقيا ب...ي،وضحك حتى بانت مؤخرة حلقه)،(الموسم:146). في هذا النتف من حكي الراوي،يكشف لنا بطل الموسم عن سلاح غزواته اللعوب ومستهدفه الوديع ،فحين نقول الحرب نعني بذلك غرض وقاتل ومقتول وسلاح،وأيضاً عندما نقول الجنس وهو "موضوعة" سردية "صالح" ،نعني ما تكون به الحرب ، ولكن هنا بفاكرة "مصطفى سعيد"، وهي مبضع صالح الميّز. ويحدد لنا منقذ ومخلص تلميذه من حبل المشنقة، الماسوني "ماكسول فستر كين" طبيعة الجرثومة المعاد تصديرها من حقائب الإستعمار وهو يدافع عن "مصطفي سعيد" :( مصطفى سعيد يا حضرات المحلفين إنسان نبيل، استوعب عقله حضارة الغرب، لكنها حطمت قلبه. هاتان الفتاتان لم يقتلهما مصطفي سعيد ولكن قتلهما جرثوم مرض عضال أصابهما منذ الف عام)،(الموسم:43).وفي هذا النتف يتحد تشريح "ماكسول" لإزمة الحضارة الغربية مع استنتاجات تلميذه "مصطفى سعيد" وينتهيان لمسلمة (العنف الاوربي). وهي الجرثومة التي تسيدت فاكرة "الطيب صالح" والتي تعاطى في معالجتها قصصياً تحت تأثير التأويل الفرويدي للحضارة . ويبسط لنا "صالح" على لسان راويه هذا المشترك الإنسانوي والعصاب الفرويدي الجمعي :( إنني، بشكل أو بأخر أحب حسنة بنت محمود، أرملة مصطفى سعيد.أنا ، مثله ومثل ود الريس وملايين آخرين، لست معصوماً من جرثومة العدوى التي يتنزى بها جسم الكون)،(الموسم:128) . وقبيل ان نغادر مسألة الجنس هناك نكتة عرضت لنا على هامش تبصُرنا في بنية الرواية النفسية. وهي تماهي (الغرب الثقافي) مع (الغرب الجغرافي) السوداني،في انفتاحهما على تابو الجنس،فبطلات السرير في ماتعة "الطيب صالح" ،وبلا إستثناء من هذا الغرب، "بت مجذوب" على سبيل المثال (يقال إن أمها كانت ابنة أحد سلاطين الفور)(الموسم:95) زوجات ود الريس المحكي عنهن،يقول:(من لم يتزوج فلاتية لم يعرف الزواج. وأثنا حياته معها تزوج بامرأة من الكبابيش،عاد بها في زيارة له الى حمرة الشيخ )،(الموسم:99) ،فمن المعروف أن (حمرة الشيخ) هي عامرة من عمائر غرب السودان، وضمنياً يحضر الغرب في حكاية البنت من جواري بحري التي نزل بها ود الريس وسط الذرة(الموسم:93) . وبصورة غائمة نجد ظلال لهذا الغرب عند قبيلة "حسنة بت محمود". وهنا إستنطق "صالح" وبفرادة ذكية يحسد عليها مسكوتاً مجتمعي سوداني،قد يقُتل من يجهر به غِيْلَة .
***
تأسيساً على هذا الذي سطرنا آنفاً ،نكون قد اكملنا إجابة التساؤل المدخل ،في اشتمال الموسم على قدرات "ربورت ج" و"تود"، التى يُحدد بموجبها ابداعية عمل ما،فقد اعادة الموسم تعريف الإستعمار وفق لمخيالها الفرويدي،كما قاربت سردياتها من منظور وجودي حدسي وصوفي إستطاعت من خلاله إشارك القاريء وجدانياً في وقائعها،محققة بذلك الإشتراطات الثلاثة التي فرضها العالمين(أ) رؤية المشكلة بصورة جديدة،(ب) اي الخيوط يستحق المتابعة، (ج) واخيراً إبتداع فكرة واسلوب سردي، جذبا لمنتجه الإبداعي جمهرة عالمية عريضة من القراء .
***
قبيل أن ندلف لطبائع الإبداع النفسية عند بطل "الطيب صالح" ، يُفرض علينا التساؤل التالي ،اذا كانت مرجعية الموسم الفلسفية هي اسبينونزية معاصرة ((وحدة الوجود))، اذن اي من شخوص الرواية هو بطل الطيب صالح؟. وفقاً لفرضية الدراسة ، تنهض الموسم على ثلاثة شخصيات رئيسة ، تتحرك كل منها في ثلاثة أحواز مكاني، وزماني، وثقافي، لتتخلق منها شخوص الرواية المتعددة ،تتمايز ،وتتماذج،بتقنية السرد على لسان الراوي،والشخصيات الثلاث هم:"مصطفى سعيد" ،"مسز ربنسون"(المرأة)،"مستر ربنسون- ماكسول" (الخواجة). في الموسم يستنطق صالح ذاكرة المجتمع ليستدعي "حاج احمد" جد الرواي ،و"ود الريس" ثم "محجوب"،ثم "الراوي" صعوداً بالزمان من الماضي النسبي الى الحاضر النسبي، ،فيحضر الغريم (أوقدت ثقاباً. وقع الضوء على عيني كوقع الانفجار. وخرج من الظلام وجه عابس زاماً شفتيه أعرفه ولكنني لم اعد أذكر. وخطوت نحوه في حقد .أنه غريمي، مصطفى سعيد. صار للوجه رقبة ، وللرقبة كتفان وصدر ثم قامه وساقان ووجدتني أقف أمام نفسي وجهاُ لوجه. هذا ليس مصطفى سعيد إنها صورتي تعبس في وجهي من مرآه)،(الموسم:161)،وبعبقرية شفيفة يبني "صالح" المرآه للمجهول ،لينفي كثرة شخصياته الظاهرة ويعزوها أنعكاسات متعددة لصورة واحدة تنبثق من مرآة الوجود. لتمتذج في هذا المشهد السحري شخصية "الراوي" ب"مصطفى سعيد". وامعاناً من "صالح" في المماهاة بين بطليه ،لم يكتب سطراً واحد عن السنوات السبع التى قضاها "الراوي" في اوروبا،بوصفها نتفاً عن حياة سابقة عاشها "مصطفي سعيد"هذا المصطفى الذي ترك أوراق مذكراته خالية ليكملها الراوي :(إنني أبتدئ من حيث أنتهى مصطفى سعيد)،(الموسم:160). الذي وجده الراوي قد رسم وبمهارة فائقة،وجه ود الريس (ثمانية رسوم لود الريس في تعابير مختلفة. لماذا أهتم بود الريس كل هذا الاهتمام؟)،(الموسم:180) . وببساطة لان "ود الريس" هو نسخة الريف السوداني لعصاب المتمدن الغربي "مصطفى السعيد" . لم يكن "ود الريس" غير الإنعكاس الريفي لشخصية "مصطفى" الاوربية. لتكون رسوماته بكل التعابير الممكنة، هي مرآة عبسة في وجه الغريم. ففي مرآة الجدار راء" الراوي" نفسه "مصطفي سعيد"، وفي مرآة الورق راء "مصطفي سعيد" نفسه "ود الريس". وقبيل أن نمضي بعيداً عن اوراق مذكرات "مصطفى سعيد" ،والتى تركها خالية بتأويل أن يكملها "الراوي"، هذا الأوراق الخالية تمنحنا مصداق جديداً،من منظور علم النفس الإبداعي على( أن الابداع المتميز يبدو متعارضا مع الحياة العائلية السوية ،أنه اذا كان لدى هؤلاء المبدعين زوجات وعائلات فإن إنجازاتهم سوف تصبح مستحيلة )، مابين القوس هذا ،فرض علمي خلص اليه عالم النفس "ستور"( 1988)،إذ لم يستطع بطل الموسم في خضم حياته العائلية الجديدة معاقرة الإبداع الذهني مرة اخرى ،ولا حتى على مستوى التوثيق لحياته الماضية.
عوداً لسياق وحدة الشخصيات،في ماتعة "صالح"الموسم ،لم يكن نساء "مصطفى سعيد" الاوربيات على كثرتهن ،"جين موريس"،آن همند"، "ايزابيلا سيمور"،"شيلاغرينود" ،الا التجسيد المتكرر لرائحة مسز "ربنسون" ،يقول:( ...شعرت وأنا الصبي ابن الاثني عشر عاماً بشهوة جنسية مبهمة لم اعرفها من قبل في حياتي،وأحسست كأن القاهرة ،ذلك الجبل الكبير الذي حملني إليه بعيري،إمرأة أووروبية،مثل مسز روبنسن تماماً،تطوقني ذراعها ،يملأ عطرها ورائحة جسدها أنفي..كانت مسز روبنسون ممتلئة الجسم،برونزية اللون..كنت أنظر الى شعر إبطيها وأحس بالذعر ..لعلها كانت تعلم أنني أشتهيها)،(الموسم:34،35) ولن نحتاج لكثير جهد حتى ندلل على مصداق فرضنا ،فلنستمع لبطلنا يحدثنا عن أول عهده بايزابيلا سيمور:( وقفت عن بعد أستمع إلى خطيب من جزر الهند الغربية يتحدث عن مشكلة الملونين، أستقرت عيني فجأة على امرأة تشرئب بعنقها لرؤية الخطيب..وسرت إليها،..شممت رائحة جسدها،تلك الرائحة التي استقبلتني بها مسز روبنسون على رصيف محطة القاهرة)،(الموسم:48)،لن نمضي كثيراً لتبيان إنسلال شخصيات الموسم من عند ثلاثة نماذج رئيسة،إذ ليس غرض هذه الدراسة طرح رؤية نقدية ،تنضاف للركم النقدي الميّز الذي سطر في ماتعة "الطيب صالح" الموسم . إنما جاء هذا الإيضاح من باب تشييد قاعدتنا النفسية والفلسفية التي سننتكي عليها لتبرير خيارتنا في تتبع شواهد العقل الإبداعي لبطل الموسم،والذي تعينه هذه الدراسة في شخصيتي (الراوي ،ومصطفى سعيد)،وتأتي أهمية هذه الدراسة في تنسيب عبقرية البطل لمواضعات علمية منتزعة من الحياة اليومية لسيرته السردية ،دللت على ابداعيتها مقولات علم نفس الإبداع المعاصر. ومن هنا فقط يتكشف مطوي جاذبية البطل عند الناس ،جاذبية تنهض على أساس معرفي لا على عموميات أعتباطية قررها ظاهر النص ومتبادره سار بها النقاد بشتغالهم على المنحى النقدي لجماليات النص.وبالتالي يتوضح الغرض من هذه الدراسة بإحضارها لمقولات علم النفس الإبداعي ،وإقتناص صورها من السيرة السردية للبطل.

***
يقيناً ما كان "جروبر" قد اهتدى بعد لملاحظته العيادية ،وقت أن نشر "صالح"،الموسم في سبتمبر من العام 1966م على صفحات مجلة (حوار) البيروتية ،فقد أنتهت بحوث "جروبر" عالم النفس المعروف ،الى أن معظم المبدعين (عند سن الاربعين أو الخمسين يكونوا قد نفذوا أفضل اعمالهم) وهو فرض علمي خلص له ،ونشره في العام1981م . وعجبي أن إطلاقيته العلمية هذه تحكينا عن "الطيب" و"بطله" ،فقد أنجز "الطيب صالح" الموسم وهو في سن السابعة والثلاثين ،ويصف لنا الراوي ،"مصطفي سعيد" هكذا:(فجأة تذكرت وجها رأيته بين المستقبلين لم أعرفه. سألتهم عنه. ووصفته لهم. رجل ربعة القامة، في نحو الخمسين أو يزيد قليلاً..)،(الموسم:6) وكان وقتها قد أكمل "مصطفى سعيد" غزواته النسائية و مشروعه الفكري المناهض للإستعمار ، وعاد من هجراته في الغرب ليتوطن قرية وادعة على منحنى النيل. ونعد هذه الواقعة تزيين لمصداقية قولنا المدخل ،في أن للموسم حضور أكثر رسوخ ومثال من مشاهد الحياة اليومية العابرة. وتكمن عبقرية "صالح" في إرتياده لعوالم جوانية الجهاز النفسي، واقتناص احوال تقدم فيها وسبق نتائج بحوث علم نفس الإبداع المعاصر ،والتي نشرت فروضه وشروحاته وتطبقاته ،جلها مابين منتصف السبعينيات الى خواتيم القرن العشرين . وانسرب منها نُذر يسير ليسبقه ويكون في اوخر القرن التاسع عشر. واعني بهذا النذر الأخير توصيف "لمبروزو" للمبدع . والذي قال به في خواتيم سنة 1895م،حين راح يدلل على أن المبدع يتصف دوماً ب(اللامبالاة وإنعدام الحس الأخلاقي)، وهي سمات بطل الموسم ،والتي يحدثنا عنها بنفسه في أكثر من موضع بلغة ماتعة، وشاعرية مثقفة ،تحيل كذبه وغرضه الغرائزي لافعال نتقبلها دون ما يصطرع فينا وازع قيمي. ويشهد على نفسه بإنعدام المعيارية الاخلاقية الثابتة عنده ،يقول(..دخلت غرفة نومي بتولاً بكراً ،وخرجت منها تحمل جرثوم المرض في دمها .ماتت دون أن تنبس ببنت شفة.ذخيرتي من الامثال لا تنفد . ألبس لكل حالة لبوسها شنى يعرف متى يلاقي طبقه)،(الموسم:46)، ويمضي مؤكد على تلك (النهلستية) التي يجهد في أن يلبسها ثوب العادية والقبول بنمق الكلم ،وتصويره الثاقف واسع الشوف والمخيال: (ثلاثون عاما. كان شجر الصفصاف يبيض ويخضر ويصفر في الحدائق ،وطير الوقوق يغني للربيع كل عام .ثلاثون عاما وقاعة البرت تغص كل ليلة بعشاق بيتهوفن وباخ، والمطابع تخرج آلاف الكتب في الفن والفكر . مسرحيات برناردشو تمثل في الرويال كارت والهيماركت،كانت ايدث استول تغرد بالشعر ، ومسرح البرنس اوف ويلز يفيض بالشباب والالق. البحر في مده وجزؤه في بورتمث وبرايتن، ومنطقة البحيرات تزدهي عاماً بعد عام. الجزيرة مثل لحن عذب سعيد حزين ، في تحول سرابي مع تحول الفصول. ثلاثون عاماً وأنا جزء من كل هذا ، أعيش فيه، ولا أحس جماله الحقيقي، ولا يعنيني منه إل ما يملأ فراشي كل ليلة)،(الموسم:47).لامبالاة معيبة، تتحدر بالوصف الى (كوميديا سوداء)، عندما يصف نهاية (المأساة) على سرير "إيزابيلا" :(..وأنفجرت هي ببكاء ممض محرق، واستسلمت أنا إلى نوم متوتر محموم)،(الموسم:57). وتتمد عند بطل "صالح" اللامبالة لتصل حد عبثي،يقول:(في قاعة المحكمة الكبرى في لندن ،جلست اسابيع أستمع إلى المحامين يتحدثون عني،كانهم يتحدثون عن شخص لايمهني أمره..كان المدعي العام..يعتصر المتهمين في قفص الاتهام إعتصاراً..ورأيت متهمين يبكون ويغمى عليهم ،بعد أن يفرغ من استجوابهم.لكنه هذه المرة كان يصارع جثة)،(الموسم:42) وهكذا رسم "صالح" شخصية بطله، مجسداً اللامبالاة لحد اللإعتنى بصورته حتى في واعية ولديه :(..وليس هدفي أن يحسنا بي الظن، حسن الظن هو آخر ما ارمي إليه) ،(الموسم:83) ،وقد قال كثر من شخوص الرواية بمقالة "لمبوروزو" في توصيف المبدع ،عندما يتحدثون مع أو في "مصطفى سعيد"،مسز ربنسون،برفسور ماكسول،جين مورس،سير ارثر هغنز ،ويلخص لنا الأخير ،وبصورة جلية إنعدام الحس الأخلاقي لدى بطل الموسم،وهو يوجه اليه اسئلته في قاعة المحكمة:(أليس صحيحاً أنك في الفترة ما بين أكتوبر 1922 وفبراير 1923، في هذه الفترة وحدها على سيبل المثال ، كنت تعيش مع خمس نساء في آن واحد؟،بلى . وأنك كنت توهم كلاّ منهن بالزواج؟،بلى . وأنك انتحلت أسماً مختلفاً مع كل منهن؟، بلى .ومع ذلك كنت تكتب وتحاضر عن الأقتصاد المبني على الحب لا على الارقام؟أليس صحيحاً أنك أقمت شهرتك بدعوتك الإنسانية في الاقتصاد؟بلى).(الموسم:46).ويصل إنعدام الحس الأخلاقي واللامبالاة الى قمة مأساته ،في هذا المشهد الذي نختم به حديثنا في هذه الخصيصة التى تميز غالبية المبدعين،يقول بطل "الطيب صالح":(وتذكرت نبأ وفاة أمي حين وصلني قبل تسعة أشهر،وجدوني سكران في أحضان امرأة.لا أذكر الان اية امراة كانت .ولكنني تذكرت بوضوح أنني لم أشعر بأي حزن، كأن الآمر لايعنني في كثير ولا قليل)،(الموسم:189).
***
ولم يعد عندي من المدهش أن ترسم عبقرية "صالح" صورة لبيئة مهمشة ،واسرة مقطوعة (الطاري) ، لا تملك من نعم الحياة غير صرة من قماش . لينشئ بطله في احضانها ، وهي خصائص مكانية وإجتماعية ضرورية في علم نفس الإبداع، ،فقد أنتهت بحوث كل من "بيري" و"ديفيد فيلدمان" في محاولة استكناه الخصائص المجتمعية للإنسان المبدع الى(ميل الافراد المبدعين لأن يكونوا منتمين الى بيئات عائلية مهمشة(بيري ،1981) ،كما ( اتسمت اسر المبدعين بعدد من الخصائص المميزة لها ،فلم تكن هذه الاسر ثرية ولا فقيرة تعيش غالباً في اماكن بعيدة عن المدن الكبرى).(ديفيد فيلدمان 1999)،ومقولة "فيلدمان" الأخيرة تعد توصيفاً دقيق في صدرها الأول لحياة "مصطفي سعيد"، وفي عجزها الأخير تحكينا عن بيئة "الراوي" .يقول مصطفى سعيد :(نشأت يتيماً،قد مات أبي قبل أن أولد ببضعة أشهر ،لكنه ترك لنا مايستر الحال..لم يكن لنا أهل.كنا،أنا وهي ،أهلاً بعضنا لبعض ..جاءت بصرّة وضعتها في يدي ..وقالت لي ..في هذه الصرة ما تستعين به..جمعت متاعي في حقيبة صغيرة، وركبت القطار.لم يلوّح لي أحد بيده ولم تنهمر دموعي لفراق أحد).(الموسم:32،31)،ويلاحظ علم النفس الأبداع تيمة لازمة في حياة المبدعين ،يقول "إيما بوليكستروا" في دراسة له مشتركة مع "جاردنر"، يقول:( لاشك أننا نعلم أن كثيراً من مرتفعي الإبداع يفقدون أحد والديهم وهم صغار) ،ويشير كل من "جاردنر" و"ولف" الى هذه الحالة بعتبارها انحراف عن المعيار، وتسمى باللاتوافق المثمر . وهي حالة تتحدث بكل وضوح عن بطلنا "سعيد" الذي مات والده قبل أن يولد حتى . وفي هذه الخصيصة على وجه التحديد نجد تناطح جد محير بين علم نفس الإبداع، وما ذهب اليه علم النفس التحليلي الفرويدي. ففي ذكرى مولد "دافينشى" كتب "فرويد": سمح لنا التحليل النفسي بادراك العلاقات المتينة الموجودة بين عقدة أوديب والإيمان بالله. فقد علمنا أن الإله الشخصي من وجهة نظر نفسية ليس سوى صورة لأب مهيب، فهو يتبين لنا كل يوم كيف يفقد الكثير من الشبان إيمانهم بمجرد اندحار السلطة الأبوية، إننا نكتشف في عقدة أوديب أصل كل حاجة دينية). قد وضعنا استنتاج فرويد المتأني في حيثياته، والعجول في حكمه إن جاز التعبير -باعتبار أن ملاحظته جاءت نتاج خبرة عيادية طويلة- وضعنا في حيرة لأنه لم يقم وزناً للفروض المجتمعية الأخرى، والتي تلعب دوراً ميِّزاً في اندحار الشعور الدينى عند الكثيرين ، نحو التقدم المذهل في العلوم والمعارف الإنسانية قبالة انكفاء المؤسسات الدينية على تفسيراتها القديمة للمقدس ، ونقف عند هذا الفرض فحسب دون طرح فروض أخرى يلعب فيها الإعلام الدور المقدر، واضعين في الاعتبار تاريخ كتابة فرويد لرسالته في العام 1910م، والمسرح العالمي يتهيأ لحرب كونية تسببت مقدماتها ونتائجها في عصاب جديد، ولد فرع من التحليل النفسي يعنى بالحروب .والمشهد الأكثر غرابة الذي يزجنا فيه فرويد بتنسيبه فقدان الشباب إيمانهم، إلى اندحار أو غياب السلطة الأبوية ، هو هشاشة هذا الفرض وسقوطه أمام أول محاكمة تاريخية ، تكشف لنا أن منابع الإيمان العالمي ، أي ديانات التوحيد الكبرى، التي مثلنت فيها الفرويدية الأب بالإله، أنشئت على أيدي فتيان لم يختبروا في حياتهم سلطة أبوية مباشرة ،ابتداءً من (..فتى يقال له إبراهيم ) الذي كفله عمه آزر عروجا على موسى ربيب آسيا زوج فرعون، مرورا بالمسيح عيسى بن مريم، والقديس يوحنا الذهبي الفم أشهر معلمي الكنيسة، وأنتهاءً بمحمد اليتيم رضيع حليمة ، الذى كفله جده عبد المطلب. فامتثالا لاستنتاج فرويد ، ما كان لهؤلاء الفتية أن ينهض فيهم حس ديني البتة، وهم الذين لم يحلق في حياتهم طيف سلطة أبوية مستبدة.ومن هنا نجد أن فرويد يقف في الضد مما أنتهى اليه علم الابداع النفسي ،فالانبياء بلا شك يقفون على هرم الإبداع البشري من منظور علوم الاُناسة،وأن منتوجهم القيمي بكل بيانه ومروياته التاريخية يعد إعجازاً خلاق قهر الملايين على إتباعه فإندحار السلطة الابوية تنتج مادة ابداعية عظيمة ،لا عدمية ليس لها من إسهام في التحولات الحضرية الكبرى للإنسان. وهكذا كان مجتمع النشأة لبطل الموسم ،إنموذجاً مثال لنمو "جينوم" الإبداع وفقاً لنتائج دراسات علم النفس المعاصر. وخصيصة اخرى جد محيرة ،وجدها "جاردنر" حالة ميّزت مرتفعي الإبداع،فقد أتضح أن المبدعين السبعة الكبار كما يصفهم "جاردنر"(عاشوا رحلة مغتربين خارج بلادهم)(جاردنر:1993)،(فقد أنتقل اينشتاين من المانيا إلى سيوسرا والولايات المتحدة الاميريكية،ونفي غاندي الى جنوب افريقيا ،وترك سترافينسكي روسيا ،وانتقل اليوت الى المملكة المتحدة، كما انتقلت مارتاغرهام من الجنوب الى شمال كاليفورنيا فتأثرت هناك بالفنون الاسيوية، وعاش فرويد كيهودي في فييينا الكاثوليكية، وترك بيكاسو اسبانيا وسافر الى فرنسا ) . وغادر بطل الموسم" مصطفي سعيد" ايضاً السودان وانتقل الى القاهرة ليستقر به المطاف في لندن ،ليتففن في غزواته الليلية، وحربه الضروس ،كان يعيش مع نظريات "كينز" و"توني" بالنهار،وبالليل يواصل الحرب بالقوس والسيف والرمح والنشاب، وسط رائحة الصندل المحروق بالند. وفي مغتربه الفكيتوري هذا أنجز "سعيد" مشروعه الفكري،وشهرته في الأوساط البوهمية والراقية على حد السواء .ويعذو "جاردنر" ذلك الى أن إستقرار الفرد في موطنه يميت لديه الرغبة في الإبتكار و تغيير الاوضاع. هذا ما لاحظه "جاردنر"في العام 1993م،ولكن ايضاً هذا ماسطره قبلاً عبقري الحكي السردي "الطيب صالح" منذ العام 1966م.
***
في هذا الجزء من المقال نقف على واحدة من اغرب الخصائص المجتمعية المنفعلة بالشخص المبدع ، يقول "جاردنر " مستعرضاً هذه الخصيصة:(ومن ضمن المشاهد المالوفة في حياتهم تعرض المحيطين بهم لمخاطر الصدمات الشخصية (جاردنر1993) ،وذلك لأن المبدع قلما يعتني بأحد. ولكن تأخذ هذه الخصيصة غوراً بعيداً، و بعداً فيه من الصوفية والماورائية ،وماهو اقرب للتابو الفرويدي منه لحقل المواضعات العلمية،عندما نشاهد التصاقات بطلنا "مصطفى سعيد" الإجتماعية من خلال هذه الخصيصة التي اخذها لوسعها ،ومدى في مضمونها حد توصيفنا الآنف،فقد تسبب في إنتحار "آن همند" و"شيلا غرينود" و "ايزابيلا سيمور" وقتل "جين مورس"،بل اضحى تابو فرويدي يتأذى كل من يقترب منه بعاطفة ما، "حسنة بت محمود" والراوي الذي طفق يصرخ في نهاية الرواية (كممثل هزلي "النجدة ،النجدة").
***
اما "غوربر" و"والاس" فيضيفان إنحراف معياري أخر ،يتموضع ضمنياً في قائمة اللاتوافق المثمر،ويعدانه صفة غالبة عند المبدع ،ف(الشخص المبدع غير مريح،إذ أنه بعيد جداً عن المسار المرسوم، فهو متفرد بطرق غير متوقعة)،(جروبر،ولاس:1999) ،وهي صفة قد اشرنا اليها ضمنياً من خلال تناولنا للتوصيفات التي اطلاقها الافراد الذين تعايشوا مع "مصطفى سعيد"،ويمكننا أن نضيف اليها هنا بعض من مما يؤكد إدعاءنا هذا ،كانت مسز "روبنسن" تقول له:(أنت يا مستر سعيد إنسان خال تماماً من المرح) ويعقب هو ذلك بعبارة (صحيح إنني لم أكن اضحك) ،ثم تضحك وتقول له:(ألا تستطع أن تنسى عقلك أبداً؟)،(الموسم:34)،ويصفه القاضي في "الأولد بيلي"قبل أن يصدر حكمه عليه بانه(..منح الذكاء ولكنه حرم الحكمة.إنه احمق ذكي)،( الموسم:136) وتضيف "جين مورس" لهذه النعوت غير المريحة البشاعة ،وتصيح في وجه بطلنا:(أنت بشع.لم أر في حياتي وجهاً بشعاً كوجهك)،(الموسم:40).ولا تنتهي النعوت بانعدام المرح،والحرمان من الحكمة،والحمق والبشاعة ،بل ويضيف لها سير "آرثر هغنز" شيء أخر ،بانه وغد،(كان يقول لي:أنت وغد ولكنني لاأكره الأوغاد،فانا أيضاً وغد)،(الموسم:116). فمن المعتاد أن يرسم للمبدع صاحب المنتج المؤثر وجهير السيرة نسق إجتماعي ايجابي في ذهنية العامة ،ولكن عند الإلتصاقات المجتمعية والتعايش اليومي مع هكذا شخص ،يكتشف المجتمع مفارقة مبدعه، عن ذلك المسار المتوقع أن يسلكه. أما الشطر الأخير من جملة "غوربر ولاس" فتحدثنا عن تفرد المبدع بطرق غير متوقعة،وهي بذلك تنطوي على أن (نسق التطور للشخص المبدع متعدد الأسباب وغير قابل للتنبؤ به ،بمعنى أن المرء لا يستطيع أن يعرف بالضبط ما هو الفعل او العمل التالي الذي سيبدعه) وهي القاعدة التى يمكننا من خلالها فهم أنتقالات بطلنا الكبرى وقفزاته غير المتوقعة عبر محطات الدراسة،القاهرة ،محطة فكتوريا. وتنوع منتوجه الإبداعي ،الرسم،الفكر السياسي،الإقتصاد،التمثيل،الشعر،القانون،وممارسة الفلاحة في مزرعة وادعة في قرية على منحنى النيل. هذا التنوع الإبداعي ، والمشاريع المعرفية المتعددة ،التي فصلها لنا بجلاء ماتع مشهد (الغرفة السّر) ،رسومات متقنة ،مولفات منوعة في الإقتصاد والفكر السياسي ،مقالات صحفية،تحف فنية مجموعة،صور ،مصطفى سعيد يمارس رياضة التجذيف في السيربنتاين،مصطفي سعيد في تمثيلية الميلاد،على راسه تاج. هذا التنوع الإبداعي هو ايضاً سمة أساس أنتهت لها نتائج ابحاث علم نفس الإبداع،اذ وجد "والاس"و زميله"غوربر" (أن المبدع يرتبط باكثر من مشروع في الوقت نفسه .ويعد تزامن المشاريع بمثابة النموذج الشائع للعمل الإبداعي، فكما لوحظ ،مثلاً ،أثناء رحلة بيجل ،كتب داروين بوفرة في الزويولوجيا والجيولوجيا وفي موضوعات اخرى). كما أكتشف "غوربر" اثناء تقصيه لحياة المبدعين وماهية خائصهم الشخصية، الى أن ( هولاء الافراد معروفون بأنهم على نحو واعً أو غير واعٍ ،يأخذون أعمالهم معهم طوال الوقت وفي أي مكان يذهبون اليه (جروبر1981)،وهي الإجابة التى نعدها منطقية لحد كبير على تسأؤل "الراوي":( ماذا في تلك الغرفة؟)، التساؤل الذي يستبطن الإستفاهم الأساس (لماذا تلك الغرفة؟). ولم تكن تلك الغرفة غير الحقيبة التى حمل فيها المبدع "مصطفى سعيد" كل اعماله،ولكن ماذا عن غرفة اخرى؟ تلك التى في لندن،الغرفة الغنية بالتحف والمقتنيات النادرة ، والمعثورات الاثرية .الغرفة التى خلعت فيها "جين موريس" ثيابها وانتصبت امام بطلنا عارية، كانت "جين مورس" هي غزوته الأخيرة في الغرب، وغايته التى ما كان له بعدها من غاية ،الصهوة الامنية ،والمنجز الشبقي الخاتم في سيرته الإبداعية (النسوية).يقول:(تقدمت نحوها مرتعش الاوصال ،فاشارت إلى زهرية ثمينة ..قالت :تعطيني هذه وتأخذني. لو طلبت مني حياتي في تلك اللحظة ثمناً لقايضتها أياها..أشارت إلى مخطوط عربي نادر على المنضدة.قالت:تعطينى هذا أيضاً. حلقي جاف. أنا ظمآن يكاد يقتلني الظمأ..أشرت برأسي موافقاً.أخذت المخطوط القديم النادر ومزقته وملأت فمها بقطع الورق ومضغتها وبصقتها. كأنها مضغت كبدي،ولكنني لا ابالي. هذه المرأة هي طلبتني وسألاحقها حتى الجحيم..) ،(الموسم:187). هذه المقايضة بين ثماينه التى جمع ،وبين هدفه الذي ينشد،هي واحدة من من بعض التوازيات المثيرة للإنتباه وغير المتوقعة في السير الذاتية لعدد من المبدعين ،وقد لخصها عالم النفس "جاردنر" في بروترية المبدع النموذج،ووصفها "جاردنر" بالمقايضة "الفواسيتية" بحيث يبدو المبدع مستعداً للتخلي عن أي شيء في سبيل الوصول لهدفه،أو على حد تعبير "إيما بوليكسترو" المقايضة في سبيل أخذه لعمله بعين الإعتبار.
***
يقول "ميدنيك"،أن المبدعين لديهم تدرجات ترابطية مستوية نسبياً، وهذا يفسر قدرة المبدع على التوصل الى تدعيات بعيدة تمثل اساساً للافكار الإبداعية، (ميدنيك:1962)،ولشرح هذه النقطة ،إذا كانت الكلمة التى تقوم بدور المنبه هي "ترابيزة" فإنه من المحتمل جداً أن تكون الإستجابة هي "كرسي"،وتعتبر كلمة "طعام" استجابة أقل احتمالاً الى حد ما ، وتعتبر كلمة "طائرة" أقل احتمالاً جداً. ومن هنا يمكننا أن نرسم شكل خطي يوضح التدرج الترابطي للمنبه عند كل شخص،فالاشخاص من ذوي التدرج الترابطي المرتفع (كرسي - تربيزة)،أقل ابداعاً من الاشخاص من ذوي الترابط المستوي (كرسي - طائرة). وبمعنى أخر نجد أن الفعل الإبداعي كما يصفه "مارتيندال"يتضمن الكشف عن وجود تشابه بين فكرتين أو صورتين أو أكثر يعتقد أنهم غير مرتبطين أصلاً،وهذا، الكشف لا ينشأ من الاستدلال المنطقي ولكنه ،بالاحرى ينشأ بوصفه استبصاراً مفاجئاً.(..كان القمر الماحق قد ارتفع مقدار قامة الرجل في الافق الشرقي، وانني قلت في نفسي إن القمر مقلم الأظافر.لا أدري لماذا خيل لي أن القمر مقلم الأظافر)،(الموسم:69).(..وتزوجتها.غرفة نومي صارت ساحة حرب..كأنني أمتطي صهوة نشيد عسكري بروسي)،(الموسم:44)،(صوتها الآن ليس حزيناً وليست فيه مناغاة، ولكنه مشرشر الأطراف كورقة الذرة)،(الموسم:113).هذه النتف بعض من كثير يبسطه لنا بطل "الطيب صالح" ،(محميد ،مصطفى سعيد) بمفهومه الاسبينوزي الذي عرضنا له في مدخل هذا المقال.نجد فيها بوضوح شارح لمعنى التدرج الترابطي المستوي عند "ميدنيك"،والفعل الإبداعي بستبصارته الفجايئة كما وصفه "مارتيندال" بصورتين متباعدتين يكشف بينهما المبدع ترابطاً جمالي داهش:
القمر الماحق = مقلم الاظافر.
المضاجعة = صهوة نشيد عسكري بروسي.
صوتها = ورقة ذرة مشرشرة الاطراف.

وبهذه الجمالية مشرشرة الاطراف ،اختم لك قولي هذا ،وهو محاولة منا للمساهمة في الركم النقدي لماتعة "الطيب صالح" (موسم الهجرة الى الشمال) ،مساهمة تستمد تميزها عن سابقاتها من عند إشتغالها على موضوعة علم النفس الإبداعي،والتى غفل عنه النقد المدرسي بحجاب نظرته للموسم كنص إبداعي مسلم به ،من باب متعة سردها واسلوب بطلها في ممارسة الحياة. فعالجها بمباضعه النقدية المعلومة، من غير النظر في ماهية الإبداع فيها ،من خلال وضع الموسم تحت إستبصارات وفروض سايكولوجية الإبداع المعاصرة. إذن ماهو الجديد الذى قدمته لنا هذه الدراسة:
• تٌعد الرواية بسط إبدعي للمبدأ الصوفي(وحدة الوجود) ،وتمظهر فرويدي لمبدأ اللذة.
• النظر للموسم كخبرة عيادية في مجال علم النفس.
• عبقرية الطيب صالح في حقل علم النفس ،والتى سبقت بسنين نماذجه الإبداعية،نتائج بحوث سايكولوجيا الإبداع لكبار أساطين علم النفس الإبداع المعاصر.
• ضرورة مقاربة النصوص السردية الميّزة، من خلال حقول وانساق فلسفية، وعلمية متعددة . لاتقف بالباحث عند حدود مقاربة النقد المدرسي المتداولة،حتى يجلي لنا النص النقدي مساحة معرفية جديدة .



المصادر:
(*) الطيب صالح،موسم الهجرة إلى الشمال،دار الجيل-بيروت.
(**) روبرت ستيرنبرج،المشروع القومي للترجمة،المرجع في علم نفس الإبداع،ط1، 2005م،القاهرة،ص31.
(1) هاوارد،جروبر،والاس،دراسة،منحى لفهم المبدعين المتفردين في العمل،ص191.
(2) كولين مارتيندال،بحث،الأسس البيولوجية للإبداع،ص259.
(3) دافيد فيلدمان،دراسة،ارتقاء الإبداع،ص317.
(4) إيما بوليكسترو وهاورد جاردنر،دراسة،من دراسات الحالة الى التعميمات المتقنة منحى لدراسة الابداع،ص407.
(5) تود اي.لوبارت،دراسة،الإبداع عبر الثقافات،ص647.
(6) روبرت ج،تود لوبارت،دراسة،مفهوم الابداع،آمال مستقبلية ووجهات علمية جديدة،ص19.
(7) ميرغني أبشر،موت وثن ،ط2،امدرمان،الدار البيضاء2019م،ص37.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة