الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف الانتهازي

محمود عباس

2020 / 5 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


بدراسة لمدى تأثير المثقف على المجتمع، يقول (سينيكا) الفيلسوف الشاعر الروماني (4 ق. م. 65 م) "نحن بالفعل الذين نقول إن كلاٌ من زينون وخريسيبوس حققا إنجازات أكبر مما لو كانا قد قادا الجيوش أو تقلدا المناصب أو سنا التشريعات. لأن السنة التي سناها لم تكن لدولة ما بعينها، وإنما للبشرية أجمعين" يلاحظ وعلى عتبة هذا الوصف لفيلسوفي المدرسة الراقية اليونانية، أن مهمة المثقف لا تقف على حدود جغرافية معينة، أو طرف حزبي دون الأخر، وهو خارج من يمكن وصفه بالانتهازي.
وبالإمكان تجاوزا، إسقاط هذا الوصف على المثقف الكردي قبل الأخرين، فهو الذي يتوجب عليه أن يبحث عن الطرق المناسبة لتغيير الثقافة الشمولية التي رسختها الأنظمة الدكتاتورية في مفاهيمنا، والعمل على خلق الثقافة الحضارية الديمقراطية بين المجتمع، وعدم التوقف في محاولاته لتصحيح مسارات حراكنا السياسي والمثقف السياسي؛ وإرضاخه لتعلم ثقافة قبول الآخر، والتعامل بمثل ما يريد الأخر أن يعامله.
المثقف الانتهازي؛ مقولة خاطئة، تحتضن جملة من المغالطات وتخلق العديد من الإشكاليات، في الوسط الاجتماعي قبل الثقافي والسياسي، كما وتضعف الثقة بالحركة الثقافية، خاصة في أوساط الحركات التحررية، كالواقع الكردستاني، وتقلل من مكانة الشريحة الواعية والواعدة، وتخدم السياسيين الانتهازيين ضمن الأنظمة الشمولية أو الأحزاب، وتضعف تأثير سلاح النقد.
تسقط عن التهمة نسبيتها، عندما لا يتم التمييز بين المثقف والمثقف السياسي أو بالأحرى السياسي المثقف، وشريحة من المجموعة الأخيرة هم الذين بالإمكان إدراجهم ضمن خانة المثقف الانتهازي، لأن الحقيقي هو المبدئي، لا يمكن استغلاله، ولا يسمح لذاته السقوط في خانة الابتذال مع الأنظمة أو الأطراف السياسية أمام قرائه.
وللابتعاد عن المطلق في الحكم؛ كثيرا ما تفرض على مثقف ما ظروف فيسقط في الهوة، ولكن ولكونه يحمل هموم المجتمع والشارع، سيؤنبه ضميره وسيحاول التعويض وتبرئة الذات، بعكس المثقف السياسي، والذي يجد في الانتهازية حنكة، وعوضا عن تنحية نفسه من الإشكالية، سيبحث عن البيئة الملائمة للاستفادة الشخصية بكل الأساليب الممكنة.
المقولة، وإلصاقها بالمثقف، بشكل عام، من المفاهيم الخادعة التي روجت لها الأنظمة الشمولية الدكتاتورية، لتمرير أجنداتها كسلطة، من خلال إضعاف ثقة الشارع بالكلمة والقلم، فالسياسي هو من يعرف خفايا الانتهازية، وهو الممتهن للحالة، وبخباثة، بعكس المثقف الذي لا يرى سوى الكلمة الصادقة يقدمها للمجتمع بنقاء نية وصفاء فكر.
برزت كمفهوم في المراحل التي حاولت السلطات الاستبدادية تحريف الثورات وتشويهها، وأرادت تسيير المجتمع على منهجيتها، فأتهمت المثقف المعارض بصفات متعددة منها الانتهازية، وكانت لهذه التسمية محاورها النسبية. فقد يكون المثقف انتهازي في نظر نظام ما أو طرف سياسي، لكنه بالنسبة لأطراف أخرى صاحب مبدأ.
فتنقله من بيئة إلى أخرى، دافعه قناعات يريد بها خدمة المجتمع، وبما أن البنية الواقفة عليها والتي ينطلق منها راسخة، فمن الصعب تبدل مفاهيمه، حتى عندما ينتقل باستمرار من نقد جهة إلى أخرى، أو يوصف جهة اليوم وجهة أخرى أحيانا أخرى.
فالانتقال حسب الظروف من بيئة إلى أخرى، الموصوف بالانتهازية، جلها ليس نابع من بحث عن الأجواء الملائمة لذاته أو لمعيشة أفضل، بل لأن البيئات تختلف حسب المصالح وأجندات القوى المهيمنة، وعندما تتعارض مع بنيته الفكرية ومفاهيمها لا يجد مانعا من الانتقال إلى الضفة المقابلة، وكثيرا ما فعلها المثقف الكردي، وغير من قناعاته، إلى درجة الاعتذار عن ماضيه، ونقد وبقوة ما كان يدافع عنه سابقا، وأصبح من كان يهاجمه البارحة من بين المتفقين معهم.
حدثت مثل هذه بين الحراك الثقافي الكردي وفي كل الاتجاهات، وهي نابعة إما عن تراكم معرفي، أو على خلفية الوعي، المؤدي إلى تغيير في القناعات الشخصية. وهنا لا يحكم على أي من منهم، بالانتهازي بقدر ما يمكن إدراجهم ضمن خانة المثقف العضوي والذي يحاول أن يكون قريبا من القضية التي يؤمن بها، وهنا لسنا في مجال من المخطئ أو الصح، وهي جدلية نسبية مرتبطة بالكثير من العوامل.
فالمثقف الحقيقي، بعكس المثقف السياسي، لا يقف عند أحد الأطراف لمصلحة ذاتية، في مفهومه الكل يخطأ، لا أحد معصوم، إنها النظرية النسبية. فمواقفه المتعددة، والتي قد لا يكون لها حدود؛ إلا مصلحة المجتمع والشعب، تدرج ضمن خانة التنوير، وللتنوير درجات، بعكس مواقف السياسي المتنقل إما لمصلحة ذاتية أو لمنظمة ما له منها غاية، وفي الواقع الانتهازية هي من السمات التي يقيمها السياسي كحنكة، وبغيابها قد يخسر المثقف السياسي صفته كسياسي.
علينا ألا ننسى أنه متى ألتزم المثقف بموقف حزب معين أو سلطة، يكون قد خان مبدأه التنويري، ودخل خانة المثقف السياسي، الذي قد لا يجدي نفعا للمجتمع بقدر ما سينفع منظمته وذاته، بل سيصبح بوقاً لذاك الحزب أو للسلطة، ولكنه حتى هنا لا يمكن وصفه بالانتهازي بل ربما المبدئي حتى ولو كان مبدأ فاشيا عنصريا، أو إجراميا.
وتظل الجدلية الضحلة، المنشورة من قبل الأنظمة الشمولية، إما معي أو ضدي، مجال حوارات وخلافات حادة عند شريحة واسعة بين المثقفين الكرد، بعكس أشباههم، حيث الانتماءات عندهم محاطة بالمطلق، يتقبلون الفكرة دون تحليل ودراسة ويدعمونها كما يسقط عليهم من قبل أطراف كردستانية، وهنا يضيع عندهم، ليس فقط منطق توعية المجتمع، بل توعية الذات، قد يفيدون طرفا سياسيا، لكنهم سوف لن ينقذوا المجتمع، ولا الشعب والأمة، ولا قضيتهم الكردستانية. فبدون معرفة أو إدراك جدلية الصح والخطأ ونسبيتهما، وعلى أن المثقف الكردي الواعي قد يكون لا معه ولا مع ذاك، وليس ضده أو صديقه، بل هو صوت الشارع، ومعاناة المجتمع وحامل لقضية شعبه كما يفهمها، لن يستطيع الخروج من ساحة الخلافات والصراعات الداخلية المستفيدة منها قوى خارجية قبل الأطراف الكردستانية.
أحيانا وضمن خضم هذه الخلافات الفكرية، والسياسية الكردستانية، تدرج قضية صراع الشعب الكردي مع الأعداء، والتي هي جدلية مغايرة، هنا لا حياد ولا استقلالية، مهمة المثقف في هذه الحالة ليس فقط تنوير المجتمع، بل تجميع قوى الأمة لمواجهة الأعداء، ومن الخطأ تناسي هذه القضية، وتوسيع الشرخ بين القوى الداخلية، ففي هذه الساحة لا حياد عند المثقف الكردي، حتى ولو اختلفت أساليب الموجهة، وكثيرا ما يظهر انتهازية المثقف السياسي الكردي والسياسي بكل وضوح، حتى ولو كان يتم التغطية عليها تحت حجج انتهازية الظروف أو العلاقات أو المواقف السياسية.
فلو نظرنا للتاريخ الكردي، القريب أو البعيد، سنجد كيف سقطت بعض الشخصيات الكردية، العشائرية أو السياسية، في هذا المطب، وجلهم خارج أبعاد أشباه المثقفين، بل درجوا جدلا تحت صفة أشباه المثقفين السياسيين، انتهزوا الفرص بشكل فاضح، لمصالحهم الشخصية والعائلية، وتمت تغطيتها فيما بعد، تحت حجج متنوعة، وصفت تجاوزا بالوطنية أو انتهاز العلاقات السياسية، أو الحنكة في انتهاز الفرص، لكن في الواقع عند دراسة تاريخهم يلاحظ الانتهازية أكثر من فاضحة في علاقاتهم وأفعالهم، وقد برزت مثل هذه الحالات كثيرا ضمن المؤتمرات الحزبية، ودرجت ضمن خانة السياسة، وهي في الواقع نوع من أنواع الخدع الحزبية والتي أبدع فيه العديد من المثقفين السياسيين والحزبيين الكرد، ومررت تحن خانة انتهاز الفرص حنكة، فتناسوا سؤال ذاتهم، لمصلحة مَنْ كانت تلك الخدع والتلاعب: الشعب أو الذات، ألم تكن متاجرة بقضية الأمة، أو سابقا بالعشيرة لمصلحة ذاتية.
وبعيدا عن الانتهازية كتهمة نابعة من عدم إدراك، أو لضحالة فكرية سياسية، تبقى أزمتنا كحراك ثقافي أو المثقف الكردي، في عدم التمييز بين استقلالية الرأي عن مفهوم المستقل، عند مواجهة حركتنا السياسية، وإشكالياتها، وفي ديمومة أساليب بحثنا عن الحلول بنفس الطرق الكلاسيكية السابقة، والتي لم تجد نفعا لأمتنا، ولا لحراكنا السياسي، على مدى أكثر من نصف قرن من العمل.
فالمأمول منا، لإزالة هذه التهمة، إحداث تغيير في المجتمع، دون تنازل لأي طرف سياسي، والحذر من الانحياز الذي قد يغرقه في الالتزام بالإملاءات الحزبية، فيتهم بالانتهازية من قبل المثقف السياسي أو الحزبي السياسي، وبها يتم التغطية الانتهازي الحقيقي المضر للقضية والمجتمع.

الولايات المتحدة الأمريكية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة ايريك سيوتي عضو اليمين الفائز بمقعد البرلمان عن نيس|#عا


.. قراءة عسكرية.. محور نتساريم بين دعم عمليات الاحتلال و تحوله




.. تفعيل المادة 25 قد يعزل بايدن.. وترمب لا يفضل استخدامها ضد خ


.. حملة بايدن تتعرض لضغوطات بعد استقالة مذيعة لاعتمادها أسئلة م




.. البيت الأبيض: المستوطنات الإسرائيلية تقوض عملية السلام والاس