الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات بطعم التعاسة(1)

داود السلمان

2020 / 5 / 20
سيرة ذاتية


السنوات الاربعة الاخيرة من سبعينيات القرن الماضي، كان تلفزيون الاسود والابيض له هيبة كبيرة، وحضور مجيد، على مدينتي الفقيرة (الثورة)، لا سيما على عقليتنا نحن اليافعين يومذاك. فتلفزيون بغداد كان فيه قناتان لا اكثر، هما: القناة التاسعة والقناة السابعة، أما البرامج التي تعرضهما تلك القناتين فهي برامج محدودة جدًا، إلّا أنها لا تخلُ من متعة، لكن الافضل والاهم هو بثها للأفلام العربية يومذاك، والتي تعرض بشكل منتظم، وخصوصًا عصر يوم الجمعة من كل اسبوع وفي تمام الساعة الرابعة بعد الظهر، وهو فلم الاسبوعي الذي ينتظره الجميع كضيفٍ عزيز، ولا اعتقد أن فردًا بغدادي لم يكن يتحرق شوقا لتلك الفترة الذهبية، حيث المتعة الحقيقية التي تدغدغ شغاف القلب، وتعزف على اوتار الفؤاد انغاما طروبة.
الامر الذي أصبح لدى الناس كعادة مستديمة لا يُرجى شفاؤها، لكنها عادة محببة، لا تجد من يتذمر منها أو يستهجنها، بل الكل يفتخر أنه يتابع تلك الافلام ليقتبس منها المتعة والمرح، كأفلام يوسف وهبي ومحمد عبد الوهاب وفريد الاطرش وفريد شوقي ومحمود المليجي وتوفيق الدقن وتحية كاريوكا ونجلاء وسعاد حسني، وافلام اسماعيل ياسين ومحمد عوض، والقائمة طويلة جدًا.
كانت أعمارنا تتراوح، ما بين عشر سنوات حتى أربعة عشر سنة، الى أن حلّ العام الذي دخلت فيه الحرب العراقية - الايرانية، تلك الحرب الضروس التي دمرت العراق كما تدمر النيران حقول الحنطة ايام قطفها، وبدأ حينها المجتمع العراقي يتقوّض ويتفكك، رويدًا رويدًا، وتتغير طبيعة الفرد العراقي بشكل سلبي، وبالتدريج فقد كثير من مقوماته الاجتماعية والانسانية معاً، لأن الحروب وبقسوتها عادة ما تُأثر على نفسية الانسان اينما وُجد، اذ يصبح حاد المزاج قاس الطبع، وتجده أحياناً يتحدث مع نفسه بصوت عال كأنه مجنون، او مصاب بلوثة عقلية.. حتى أن خلال الحربين العالميتين عندما انتهت ووضعت اوزارها، قد خلفت آلاف الضحايا من المصابين بمختلف الامراض العقلية والنفسية، فضلا عن المعاقين والاموات الذين طحنتهم الحربين بفكيها، وهذا هو ديدن الحروب، وهذا هو شرّ النزاعات والصراعات المختلفة لدى مختلف شعوب العالم.
بدأت الحرب عام 1982، وكان عمري لا يتجاوز الرابعة عشرة. أما أسباب هذه الحرب فلستُ أدري، على وجه الدقة واليقين، رغم أني اليوم في عقدي السادس، لا زلت أجهل الاسباب الكامنة، هل العراق هو الذي اطلق الشرارة الاولى، أم ايران هي التي بدأت تتحرش بالعراق خلال قصفها للحدود والمخافر؟. فهذا سر لم يتم كشفه بعد، بحسب وجهة نظري القاصرة.
في هذه الفترة من تاريخ العراق العصيب، كنت في مرحلة المتوسطة، وكنت أداوم في مدرسة مسائية يطلق عليها "ثانوية البحتري المسائية للبنين" (مُحيت فيما بعد هذه المدرسة واصبحت اطلال ينعق على ابوابها الغراب).
كنت في العشرة الاوائل!، لا من الشُطار الذين يشار اليهم بالبنان، بل من الكسالى!، فالحق يجب أن يقال، وفق المبدأ القائل (قل الحق حتى أنْ كان على نفسك). إذ كنت ابغض الفيزياء والكيمياء والهندسة والجبر، لأنّ هذه المواد جافة وعسيرة الهضم، كنت أحب اللغة العربية، والمطالعة والنصوص والمادة الاسلامية، كنت أحصل على أعلى درجة في هذه المواد، أما بقية المواد الاخرى فاحصل على اقل درجة بامتياز!، أما دروس اللغة الانكليزية فحدث ولا حرج، فلم أتذكر أنني أخذت أعلى من خمسين في مئة، وبشق الانفس. وهذا هو السر الذي جعلني اميل الى الدراسة المسائية، فضلا عن جائحة الفقر التي تعصف بأسرتي، ولو كنت شاطرًا لعدلت الى الدوام الصباحي، حالي حال من كانوا بعمري يومذاك، ولأن الحالة الاقتصادية لأسرتي كانت محرجة، وعلى حافة الهاوية في مستنقع العوز والحرمان، حيث كنا لا نأكل سوى وجبتين في اليوم، فوالدي يعمل بقال صغير له بسطة متواضعة على الرصيف لبيع الخضروات والفواكه الرخيصة، (رحمك الله يا ابي كم اتعبتك هذه الحياة التعسة) لا يربح منها سوى فُتات تسد فقط رمق يوم واحد، وفي اليوم الذي يعود به الاب الى الاسرة خالي الوفاض، صفر اليدين، فتقوم قيامة الاسرة، واذكر كثيرًا من المرات أرقد للمنام بدون عشاء، واصحو على امعائي وهي تتصارع كصراع الديّكة.
وحينما كنت اذهب الى المدرسة لا يعطيني أبي مصروفا كعادة الطلبة الذين يتباهون بأن احدهم قد اعطاه اباه زيادة في المصروف، لأنه حصل على درجة عالية في امتحان نصف السنة، والاحاديث كثيرة في هذا الاطار.
وحتى حينما ينتهي الدرس ويقرع الجرس لإعلان الفرصة، ويتجه الطلاب الى الحانوت لتناول العنبة والصمون وشراء بعض الحلويات، كنت انزوي في ركن من أركان المدرسة واصوّب نظري باتجاه الطلاب وهم يقضمون الصمون مع العنبة بشهية وتلذذ، بينما كنت اتحسّر من الداخل، كأنني اندب حظي العاثر والعن الساعة التي وُلدت فيها في العراق ومن ابوين فقيرين، كتب عليهم الشقاء فلحقتني سهام شقائهم، وسرق مني كنز طفولتي. والحقيقة أنه ليس أنا الوحيد الذي كان يذهب الى المدرسة من دون مصروف، بل كان كثيرًا من زملائي يشاركوني المحنة، حيث العزاء واحد، لكننا جميعًا كنا نخفي ذلك، ولم يبح أحدنا للآخر، لكن نظرات العيون تفضح الامر وتكشف السر الدفين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزب الله وإسرائيل.. جهود أميركية لخفض التصعيد | #غرفة_الأخبا


.. مساع مكثفة سعيا للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غز




.. هل قتلت لونا الشبل؟


.. بعد المناظرة.. أداء بايدن يقلق ممولي حملته الانتخابية | #غرف




.. إسرائيل تتعلم الدرس من غزة وتخزن السلاح استعدادا للحرب مع حز