الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليلة قدر

حامد تركي هيكل

2020 / 5 / 20
الادب والفن


كان أولُ رمضانٍ لي، لم يكن هناك رمضانٌ قبله على ما أظن. الوقتُ كان فجراً، المكان حوش بيتنا القديم، كنا أنا وأخواتيَّ الثلاث اللائي يكبرنني.
حوش بيتنا كبيرٌ تحيط به غرفٌ وأماكن أخرى. كلُّ غرفةٍ، وكلُّ زاويةٍ عالمٌ خاصٌ مختلفٌ ومثيرٌ للدهشة. تعيش عشراتُ الخفافيش في تجويفٍ سريٍّ في سقف المجاز، تنطلقُ من ثقبٍ هناك كلَّ يومٍ قبيل غروب الشمس، ولا تعودُ أبداً. تأتي الدبابيرُ إلى بيت الماء الذي يقع بعد المجاز لتشرب، حيث تعشعشُ ثلاثةُ أزواجٍ من طيور الخطّاف التي تحظى بالاحترام في السقف. يحتوى سقف المطبخ المهجور الذي يقع بعد بيت الماء على شق سريّ يؤدي إلى السماء! يخفي السلمُ تحتَه وخلفَه فضاءاتٍ تنتمي إلى الظلام. وتكثر العصافيرُدائمة الحركة في الأواوين المطلّة على الحوش. بينما تُخفي الغرفُ المغلقةُ عوالمَ مختلفة. تحيطُ بالحوش من الخارج رؤوسُ النخيل التي تقف مثل كائناتٍ عجيبةٍ تراقبُ وتُصدر حفيفاً ليلَ نهار دون تعب.
وشششششششششششششششششششششششششششششششششش
كان الفصل شتاءً، والوقت فجراً، السماء صافية، والنجوم لامعة بشكل عجيب، وكان البرد قارساً. خفَّتْ الحركةُ في الحوش، بل لم يعد هناك أحدٌ يتحرك. فقد تسحَّر الجميع وإنسحب كلٌّ إلى غرفته. أُغلقتِ الأبوابُ، وعمَّ الصمتُ. أستطيع التخمين أن أبي هذه الساعة كان يقرأ القرآن، وجدتي كانت تسبِّح، أما الآخرون فقد هجعوا. أنا وأخواتي الثلاث اللائي يكبرنني كنّا عند باب الغرفة ننظر إلى السماء. ننتظر قدوم الملائكة.
عرفت أن لأخوتي خبرةً في هذا المجال، فهنَّ قد شهدنَّ ليال مماثلة. وكنَّ يتجادلن حول عدد المرات السابقة لكل منهنَّ. الكبيرة تضطهد الصغيرتين لأنها شهدت ثلاث ليالٍ، فيما شهدت الوسطى ليلتين فقط، أما الصغيرة فلم تكن متأكدةً بخصوص عدد ليالي القدر التي شهدتْها. أما أنا فلم أشهدْ سوى هذه الليلة فقط. كان حوارهنَّ عن عدد المرات يزعجني كثيرا ويشعرني بالضآلة. وكنتُ أتصنَّعُ عدمَ الإصغاء لهذا الحوار السخيف. لكنني كنت مضطرا للإستماع من أجل الحصول على معلومات إضافية.
عرفت منهنَّ أن لاشيء مؤكد. فقد يحصل شيءٌ الليلة، وقد لايحصل.عرفتُ منهنَّ أن هذه الليلة ربما ليست هي الليلة المقصودة، فقد تكون الليلة القادمة، أو التي تليها أو التي تليها، وربما كانت البارحة حين كنّا نائمين. ولكننا كنّا نأمل أن نشهدَ الحدثَ الليلة.
إستمعت إلى أخواتي الخبيرات بمثل هذه الأمور بخصوص رؤية الملائكة الليلة. قالت الكبيرة ستظهر على شكلِ عمودٍ مضيءٍ يبدأ من السماء وينتهي وسط الحوش. عمود من كائنات نورانية صغيرة تتوهج بنور أبيض يشبه نورالقمر. تدور مثل ذرات مضيئة. وعرفتُ منهنَّ أننا يمكن أن نرى ملائكة أكثر وضوحاً في حال إقتربنا أكثر. يمكن أن نرى أجنحتها البيضاء، ويمكن أن نرى الدفاتر التي تحملها وتصعد بها إلى السماء. شعرت بالغيرة من أخواتي تلك الساعة لأنهنَّ يعرفنَ أكثر مني، ولأنني لم أخض هذه التجربة من قبل. لكن فكرةً خطرتْ ببالي جعلتني سعيداً. سأحكي العامَ القادمَ لأخي الذي مازال يرضع، وسأظهركخبيرٍ أمامه، وسأنتقم لنفسي . طال انتظارنا، وشعرنا بالبرد ، لذا جلبتْ أختي الكبيرة بطانية من الغرفة، تقاربنا معاً نحن الأربعة، وتدثرنا بالبطانية، جلسنا على الأرض لا نخرج إلا وجوهنا وعيوننا التي كانت تشخص إلى السماء المتلألئة بالنجوم. وشعرنا بالدفء.
لست متأكدا ما الذي حصل تلك الليلة، فقد إختلطت الأمورُ عليَّ. ولم أعدْ قادراً الآن أن أتذكر بوضوح. فقد مرَّ أكثر من ستين سنة على تلك الحادثة. ولكنني أستطيع القول أن ما حدث تلك الليلة ربما كان أحدُ الاحتمالات التالية.
إذ ربما بدأ رأسي يسقط بشكل متكرر تحت تأثير النعاس والدفء والتعب ، ولكنني كنتُ أقاومُ النومَ.كان عليَّ أن أشهدَ اللحظةَ التي بقيتُ من أجلها محتملاً كلِّ ذلك البرد، وكلِّ ذلك الأذلال الذي تعرضتُ له من أخواتي الخبيرات اللواتي حسدتهنَّ كثيرا تلك الليلة. لاحظتُ أن لمعان النجوم بدأ يخفت. وبدا أن ضوء الفجر بدأ يتسلل . شاهدتُ عشرات الخفافيش تعود من رحلتها التي بدأتها ساعة الغروب. تحوم في سماء الحوش على شكل دوامات، وتتسلّل إلى المجاز بصمت، ثم تدلف واحداً تلو الآخر خلال ذلك الثقب في سقف المجاز إلى تجاويف سريّة داخله.
أو ربما غفوتُ بفعل الدفء الذي شعرتُ به بعد تلاصقنا تحت البطانية تلك. غفوت في حضن أختي التي تكبرني. وحلمت بمشهد الملائكة كما وصفته أخواتي الخبيرات. ما يؤكد ذلك أنني وجدتُ نفسي في فراشي عندما صحوت ضحى اليوم التالي. وأتذكر أنني شعرت بالخجل، لذلك تعمّدت تحاشي مناقشة الموضوع لئلا تُذكر تلك النهاية المخزية التي أنتهيت إليها.
وأغلب الظن أنني بدأتُ أشعر بالتعب والنعاس والدفء بسبب تلاصق أجسامنا الصغيرة تحت تلك البطانية. كنا نحملق بالنجوم البرّاقة على صفحة السماء حالكة الظلمة. وفي لحظة من اللحظات، رأيتُها تنزل ببطء. كان هناك صوت أشبه بصدى عميق يتردد من مكان بعيد وبشكل مستمر، صدى خافت ومهدهد يبعث على النوم.
همممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممم
ذرات فضيّة لامعة تدور حور محور عمود هائل ينتصب فوق مركز الحوش، ولكنه لا يلامس الأرض. عمود من نور رأسه في السماء هناك، وقاعدته معلقة على بعد قامة من أرضية حوشنا. تنطلق بعض الذرات ببطء ووقار نحو أبواب الغرف الموصدة، تنفذ منها إلى الداخل، ثم تخرج حاملة أعمال أهلي على ما أظن. تلك خرجت للتوِّ من غرفة أبي، وتلك خرجت من غرفة جدتي، تعود إلى العمود تنتظم بالحركة الدورانية. بعضها يهبط وبعضها يصعد. ويستمر الصوتُ العميقُ المهيبُ.
هممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممم
مشهد لا زال جلدي يقشعرُ من ذكراه. أعودُ طفلاً غرّاً كلَّما تملكَني، وأشعر بالرضا لأنني رأيتُ ما لم يره غيري في ليلة من ليالي القدر العظيمة. تنهمر دموعي بغزارة ، وأبدأ بالبكاء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين


.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ




.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي