الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دروع من البراميل

جلال الصباغ

2020 / 5 / 20
الادب والفن


حدق في طويلا وكأنه يراني للمرة الأولى، بعدها طلب مني ان اجلب له لتر من العرق، وبعد ذهاب الجميع وبقائنا نحن أصدقاؤه المقربون. أبدى عدم رغبته بالشرب مع احد منا، بعد طلبي الانضمام إليه في تلك الليلة.
في طريق العودة إلى المنزل عبرت جسر محمد القاسم وهو الطريق الذي يخترق المناطق الشمالية الشرقية من بغداد وتقع ساحات التحرير والخلاني بموازاته من جهة الغرب.
تذكرت عصر ذلك اليوم الذي ذهبنا فيه أنا وحسن للمرة الأولى منذ سيطرة مجاميع من الشباب على الجسر، ونحن نسير مندهشين ومذهولين من إصرار شباب صغار لا تتجاوز أعمار اغلبهم العشرين عاما...كيف استطاع هؤلاء الذين لم يدخلوا حربا أن ينتظموا بهذه الطريقة، ويقيموا الحواجز ويتبادلوا الواجبات، كنا نعتقد إن هذا الجيل غير قادر على القيام بشيء، لكن قناعاتنا بشأنهم كانت غير واقعية.
عبرنا الحاجز الأول بعد ساحة الطيران وكانت آثار الإطارات المحترقة منتشرة على الطريق بسبب غزارة الأمطار يوم أمس، وقد جرفت ما نتج عن الحرق لتغطي مساحات واسعة من الشارع، كانت وجوه وملابس اغلب من نلتقيهم قد تحولت إلى اللون الأسود بفعل الدخان الناتج عن الإطارات.
كل ما حولنا من طرق وناس وبنايات كأنها مشاهد من أفلام ...كلما تقدمنا باتجاه الجسر تزداد آثار المعارك بين الشباب والقوات الحكومية، لم نر هذه المشاهد سوى في نشرات الأخبار أما الآن فهي حية أمامنا... تملكني شعور غريب بالمكان، فلا يمكن عيش هذه الحالة ألا بالتواجد داخلها، لان إحساس المقاتل يختلف جذريا عن إحساس من يشاهد المعركة عبر التلفزيون، فالنظر من بعيد وخارج الملعب لا يعطيك إلا مقاطع مجتزأة.
اقتربنا كثيرا من جسر محمد القاسم وكنت أتحدث مع حسن عن ضحايا يوم أمس ففي المكان الذي نقف فيه، كانت شاشات التلفزيون تنقل مشاهد من هذا الموقع، حيث قتل أربعة وجرح آخرون.
كان فم حسن مفتوحا وعيناه لا ترمشان، ونحن نصعد الجسر الذي يحتشد عليه المئات من الشباب والشابات ...تبدو على ملامحهم علامات الثقة والشجاعة بشكل غريب، فرغم الموت وقلة الطعام والطقس البارد، إلا أنهم خلقوا لأنفسهم أجواء من الفرح والرقص والغناء .
أصبحنا مثار ضحك لمجموعة شباب تقيم حاجز تفتيش فوق الجسر وهم يتندرون ويصيحون، يبدو أنكم ذهبتم إلى الحمام قبل المجيء إلى هنا...بدأوا الهتاف: كلا كلا للحمّام.... كلا كلا أبو الشغب.... كلا كلا عبد المهدي ... وقهقهاتهم تشق سماء بغداد الملبدة بالغيوم.
عبرنا الحاجز الرابع ولم يبق سوى واحد يفصلنا عن قوات مكافحة الشغب أمسكت بذراع حسن وهمست في أذنه:
- أين نذهب الم يخنقك مسيل الدموع ؟!... توقف لحظة ثم واصل السير.
أحدثت رشقه رصاص عند الحاجز، ضجيجا وصراخا وركضا في مختلف الاتجاهات، بعدها لم نعرف من أين أتت عربات التكتك وهي تطلق الصفارات، تراجعنا وقد جاءت خلفنا بسرعة فائقة عربات تكتك ثلاث، كانت الدماء تقطر من أحد هذه التكاتك، والآخر كانت تتدلى من بابه المفتوح يد عارية، رسم عليها وشم على شكل قلب باللون الأزرق وتضرب في الإسفلت مع كل مطب يواجه عربة التكتك.
الجميع كان يصرخ افتحوا الطريق شهداء ... افتحوا الطريق... لم نتحدث حتى وصولنا إلى الحاجز الأول... كانت الأجواء هناك شبه اعتيادية فالشباب أدمنوا مشاهد الدم أو ربما لم يعد يعني لهم الموت شيئا.
على الحاجز الأول قبل نزولنا من الجسر كان هنالك صحفي يُجري بعض اللقاءات مع الشباب وقفنا بالقرب منهم وقد احتشد حوله العشرات ، كان احدهم يصرخ
- يجب أن يفهموا... عليهم الرحيل لن نتراجع، كلنا مستعدون للموت، قتلوا منا اليوم خمسة وجرحوا أربعين ... لن نترك الجسر.... بعدها كشف عن بطنه التي كانت مربوطة بالشاش الأبيض... واصل الشاب حديثه طالبا من الصحفي تصوير جرحه... أرجوك صور... قبل شهر أصبت في مجزرة الخلاني، واليوم أنا هنا لم أشف بعد، لن أغادر المكان إلا شهيدا.... طلب الصحفي من الشباب الهدوء بعد الصياح والفوضى التي عمت المكان.
- أنت ماذا تعمل، ما هو عملك ؟
- حمال في الشورجة
- من أي منطقة؟
- إنا من الحلة، توفي والدي عندما كنت في الأول الابتدائي ومنذ ذلك الوقت تركت المدرسة لأعين أمي وأخواتي الثلاث والشغل هذا ليس عيبا. انتقل الصحفي إلى شاب آخر..
- ماذا تريد لماذا تتظاهر ما هي مطالبكم ؟
- أريد وطنا أعيش فيه بكرامة، أنا طالب في كلية الهندسة ، أريد العمل بعد التخرج ، لا أريد أن أكمل الجامعة لالتحق بملايين العاطلين عن العمل.
- كيف تضمن إن لا يصيبك طلق من قناص أو رشاش أو قنبلة دخانية؟
- هل تعلم يا عزيزي إننا لا نخاف من أطلاقاتهم... قتلوا بالأمس صديقي وهو لم يطلب سوى وطن يعيش فيه بكرامة مثل بقية البشر... ربما أموت اليوم ولا فرق لدي فانا ميت بكل الأحوال... قطع حديث الشاب الذي لم يتجاوز السبعة عشر عاما إطلاق قنبلة مسيلة للدموع سقطت بالقرب منا كنا قد ركضنا بالاتجاه الأمن انا وحسن بينما ركض الشباب باتجاه قوات الشغب التي كثفت إطلاق القنابل التي تزامنت مع هطول وابل من المطر.
بعد دقائق وصلنا ساحة الطيران، لم نتحدث إلى بعضنا بعضا منذ تركنا الشباب عند الجسر، قطعت صمتنا موسيقى هاتف حسن ... اخرج الهاتف من جيبه... انه صفاء
- الو أهلا صفاء ................ ساد صمت متقطع ثم بدأ يتحدث بكلمات تنبئ أن صفاء ليس بخير .... نعم ..... أين ...... أي مستشفى ...... أغلق الخط.
- ماذا حدث ، ماذا حصل لصفاء؟ تجمد الدم في وجه حسن وعصف به الذهول وكأنه على وشك الموت.
- مات صفاء.
سرنا بسرعة عاتية من اجل عبور الحواجز واستأجرنا سيارة إلى المستشفى، لم يتكلم حسن، منذ ركبنا سيارة الأجرة، وصلنا المستشفى وقبل دخول قسم الطوارئ فقد حسن وعيه، حملته بصعوبة ومشيت نحو قسم الطوارئ،سألني الطبيب.
- ماذا حصل له ؟
- غاب عن الوعي بعد سماع خبر إصابة ابنه.
- وأين هو ابنه؟
- في هذه المستشفى ... رن هاتف حسن مرة أخرى أخرجته من جيبه
- نعم نحن في الطوارئ .... أنا في الزاوية القريبة من الصيدلية...دخل شاب عشريني طويل بشعر أشقر ولحية طويلة...
- عمو صفاء مات واخذ يبكي .... عمو صفاء مات .... أنت أبو صفاء أليس كذلك؟ ..... أخرجت اسمك من هاتفه ... لم استطع الكلام... بكيت كما لم ابك من قبل ... حتى عندما توفيت أمي لم ابك بهذه الطريقة.
منذ أن دفنا صفاء وحسن لم يتحدث لأحد ، كان صامتا طوال الوقت، ثلاثة أيام مرت وهو جامد الملامح، لا يأكل شيئا فقط يحتسي الشاي ويدخن السجائر ، حاول الكثير من أصدقائه ومعارفه التخفيف عنه، لكن دون جدوى ، لم يحضر لمجلس العزاء إلا مرة واحدة، ولم يستقبل أو يسلم على احد من المعزين في المنزل، كنت خائفا جدا عليه.
زرته بشكل يومي وكان يسألني في كل مرة، هل لا يزال الشباب مستمرين؟ فأجيبه بأنهم كذلك، ويسأل عن جسر محمد القاسم ، الم يستعيدوه مرة أخرى؟ فأقول له ربما في الأيام المقبلة ...
بعد أيام قررنا الذهاب مع الشاب الذي اتصل بنا عند مقتل صفاء إلى المكان الذي مات فيه، كان بالقرب من وزارة المالية حيث وصل الشباب إلى هنا... كان رفيقه يشرح لنا، كيف أن صفاء على مدار خمسة أيام يقود مجموعة من الشباب ليقتحم حواجز الشغب بالحجارة والملوتوف والدروع التي هي عبارة عن أنصاف براميل، كان يلح على رفاقه الوصول إلى وزارة المالية، ويقول لهم: من هذا المكان ينهبنا اللصوص... من هذا المكان يأخذون أموال النفط ليؤسسوا الشركات في الخارج، ويرموا لنا القشور، أنهم لا يعلمون إننا سنصنع من هذه القشور دروعا ترميهم في مزابل التاريخ... من هذا المكان تنهب خيرات الوطن، وإذا وصلنا وسيطرنا عليه فسوف نسترجع حقوقنا المنهوبة، كانت هذه كلمات صفاء العالقة في ذهن رفيقه وهو يرويها لنا.
وصلنا إلى المكان المحدد، جلس حسن على ركبتيه واخذ يبكي بطريقة جنونية صارخا لماذا؟... لماذا أيها العزيز... أما كان الأجدر أن يعصف بي الموت ويبقيك أنت على قيد الحياة؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي