الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن تشابه الأحذية برغم كل شيء، حذاء الجيش و حذاء الباليه

نائل الطوخي

2006 / 6 / 19
الادب والفن


لثقل الحذاء أهميته ايضا. هو ليس ثقلا مجانيا يهدف إلى تعذيب لابسه فحسب، و إنما يرتبط بالسلطة بشكل أو بآخر. في الجيش يصبح الحاء هو "البيادة" التي يحملها الجندي معه أينما سار. لا يمكنه خلعه طوال فترة وقوفه، أو حتى نومه، في دورية حراسة.
حذاء الجيش مثل السلطة في تصلبها. يشتاق جميع الجنود في جميع الجيوش لخلعه و لبس "الحذاء الكاوتش" الذي يتسلمونه مع نوعين من الأحذية، البيادة، و هي الحذاء ذي الرقبة الطويلة المخصص للعمل بالوحدة العسكرية، و الحذاء النصف، و هو الحذاء بدون رقبة المخصص للخروج من الوحدة، أو كما يطلق عليها، "الفسح". و علي الطرف النقيض من البيادة، ذات المظهر الضخم و غير المعتني به، تقف أحذية راقصات الباليه، و المعروفة باسم البوانت، التي تتسم، علي العكس من بيادات الجيش، بالخفة المطلقة، غير أنهما يشتركان في نفس الهدف: تطويع القدم، شدها، بل ربما يمكننا عدها جزءا من النظام الانضباطي الذي يتحدث عنه فوكو، النظام الذي لا يسمح بوجود الجنون في داخله، و الجنون هنا يعني الأقدام الكبيرة، المفلطحة، أو حتي أصابع القدم العريضة، و كلا الحذاءين في النهاية يفرض سلطة الجسد، بالثقل أو بالخفة!!
الحرص علي أن تلبس البيادة بانضباط أساسي في الجيش كما أخبرني بعضهم. فالبيادة ينبغي أن تربط إلي آخر ثقب، و لا يجوز حل ثقوب و ربط الأخري، و هذا لأجل إحكام الربط. أن تكون هي و الجندي شيئا واحدا و أن تكون جزءا من تكوينه كعسكري. و لأن الاعتناء بالبيادة هو من الاعتناء بالجسد، فإن الشيء الغائب عن الوحدات العسكرية كما لاحظ بعض من حادثتهم هو الجزمجية، برغم توافر الترزية و الحلاقين و المكوجية. حيث اعتناء الجندي ببيادته هو أمر يشابه اعتناءه بنفسه أو بجسده، فكما أن لا أحد يحممه، فلا أحد يصلح حذائه إذا انقطع. و مثلما يتم النظر إلي جسد الجندي، الذي لا ينبغي أن يزيد علي وزن معين مثلا، يتم النظر إلي بيادته. يروي صديق لي عن فترة خدمته بالجيش أن مقاس حذائه، و هو 45، كان هو أكبر مقاس موجود، كأنه لا يسمح بوجود مقاسات أكبر. هذا يحدث أيضا في بوانت الباليه، و الذي يستخدم مقاسات مختلفة عن الأحذية العادية، فمقاس 12 مثلا يساوي مقاس 38 للأحذية العادية. قالت لي أرمينيا كامل، أشهر مدربة باليه في مصر، أن مقاس 14 في الماضي كان هو أكبر مقاس، و كان وقتها شيئا مرعبا بالنسبة لها أن تكون قدم راقصة الباليه كبيرة لهذا الحد، أما الآن فهناك 15، كما تروي لي مندهشة من حجم أقدام الجيل الجديد. علي أية حال، يبدو أن كبر القدم هو تمرد تتعامل معه السلطتان علي مضض، السلطة المقاتلة و السلطة الراقصة.

لحظات الحرية
سألت صديقا عن لحظة دخول الجندي إلي عنبره. كنت أتصور أن أول ما يفعله الجنود لدي دخولهم عنابرهم الخاصة هو تحررهم من الأحذية. أجابني بالنفي. قال أنهم لم يكونوا يخلعون البيادة أثناء فترة الراحة البسيطة، وذلك لتجنب مشقة خلعها ثم لبسها من جديد. و هي وظيفة من وظائف ضخامة البيادة علي ما يبدو: تنفير الجندي من خلعها. و في المقابل، ينسي الجندي تعب قدميه أثناء لبسه البيادة، و لا يتذكره إلا لدي خلعها في آخر الليل، و شروعه في تهوية قدميه العرقانتين. كذلك لا تحس راقصة الباليه أثناء التدريب بالتعب، حيث يكون ذهنها منصبا علي آدائها. قالت لي أرمينيا كامل أن الراقصة قد لا تشعر بالتعب من ارتداء البوانت إلا لدي خلعه، حيث تكتشف حينها الدم الذي يغطي أصابعها بعد ساعات من العرض و التدريب. و أضافت أن السنة الدراسية تحوي أحد عشر شهرا و شهر إجازة، هو ما تعاني بعده الراقصة من عدم القدرة علي التكيف من جديد مع البوانت، ثم تبدأ في التعود تدريجيا. و لكن ماذا يحدث لو انجرحت قدم الفتاة أثناء العرض بسبب البوانت بشكل لا يمكنها معه الاستمرار؟ تقول هناء أبو العلا، مدربة الباليه بفرقة القاهرة، أنه يتم حينها استبدالها بأخري، و لكن في الغالب تتدرب الفتاة علي الرقص بالبوانت لمدة ربع ساعة قبل العرض لتكون فترة اختبار، لها وله في ذات الوقت. و بدت هذه المشكلة غير مطروحة لدي أغلب من سألتهم. فهو غير وارد أن تتمرد القدم علي حذائها المؤلم و الجارح. كل شيء يحل عبر التكيف، مثلما يحدث في أي سلطة ذكية.

وسيلة التراتب
يؤكد الحذاءان، حذاء الباليه و حذاء الجيش، التراتب أيضا، فالجندي الذي يريد "التعايق" أمام زملاءه يشتري بيادة من الخارج و لتكلفه قدر ما تكلف، أو يقيم بعضهم صداقات مع الضباط و يقترضون منهم بيادات "ضباطي" لم يعودوا في حاجة إليها. البيادات الضباطي هذه ليست مثل البيادات الأخري، هي هنا مزودة بسوستة من الجانب، بدون رباط، و هي أكثر مرونة في الحركة. يزيد بعض الضباط علي هذا كما قال لي أحدهم، حيث يلجأ بعضهم إلي محلات لتفصيل البيادات. كذلك يفعل البوانت بشكل أقل وضوحا، فيما يناسب رقة الفراشات الراقصة، و إن كان أكثر تأكيدا علي السلطة الانضباطية، حيث الراقصة المبتدئة التي لازالت في السنتين الأوليين للدراسة و تتعلم بعض الرقصات الخفيفة تلبس حذاء يسمي "ديمي بوانت"، و هو حذاء مرن و سهل الحركة، و بدءا من سنة ثالثة تكون الراقصة قد انتقلت إلي مرحلة البوانت، و هو حذاء مزود بخيش و غراء و خشب في مقدمته ليجعلها صلبة و يمكن الراقصة من الوقوف علي أطراف أصابعها. تضطر الراقصة إلي لف أصابعها بالقطن أو البلاستر لكي تتجنب صلابة البوانت الشديدة. هكذا فبينما الأفضلية في الجيش للأحذية المرنة، المقترنة بالرفاهية و الترف، فإن الأفضلية في الباليه للصلابة المقترنة بالقوة علي التحمل و الكفاءة في الآداء. قالت لي راقصة الباليه فرح وائل أنهم أحيانا ما يضطرون لتليين البوانت، الذي يأتيهن صلبا للغاية، و لو بالدق عليه بالشاكوش. سألتها: الدق عليه كله؟ فقالت لي: "نعم. ماعدا مقدمته". و هي المقدمة التي تمكن الراقصة من الوقوف علي أطراف أصابعها. هذه المقدمة هي التي تفرق نوعي البوانت عن بعضهما البعض، و هي أيضا التي تفرق البوانت الحريمي عن الرجالي. باختصار: سلطة الباليه كلها كامنة فيها.
و بالإضافة للبوانت و الديمي بوانت، ففي الباليه حذاء آخر، لا تؤدي فيه أطراف القدم البطولة هذه المرة و إنما الكعب، و هو الحذاء المستخدم في الرقصات الأسبانية و الشعبية التي تتطلب الدق علي الأرض، مثلما في باليه زوربا علي سبيل المثال، كما أخبرتني هناء أبو العلا. و الحذاء ذي الكعب لا يتم ارتداؤه مع البوانت، المزود بمقدمة صلبة لأصابع القدم، و إنما مع الديمي بوانت، حيث البطولة تكون إما للكعب أو لمشط القدم، و لا يمكن الجمع بينهما في حذاء واحد، مثلما لا يمكن الجمع بين الرقصات الشعبية، الممثلة لجنون الدق بالكعب علي الأرض، و الباليه الرصين، الممثل لخشوع الوقوف علي أطراف الأصابع، في موسيقا واحدة. و بمناسبة الكعب، فإن بعض الجيوش تطلق علي الأسلحة الأقل مشقة أسلحة "الكعب العالي"، في إشارة إلي الترف الذي تمتاز به هذه القوات و الذي يستدعي الأنوثة إلي الأذهان، و لكن أيضا في إشارة إلي نوع أحذيتها، حيث قال لي أحدهم أنها بيادات أكثر أناقة و مرونة بكثير، و هي ذات رقبة أقصر من رقبة البيادات الأخري، و بالتالي أقل إحكاما علي القدم و أكثر تهوية لها، كما أنها أسهل في الخلع و اللبس.

الولع بالبوانت
و برغم إرهاقه و دمويته، يبدو بوانت الباليه هو الشيء الأكثر إلهاما للمرء، فلا يمكننا تخيل شخص يولع بالبيادة مثلا بينما يمكننا تخيل امرأة تدخل إلي مهنة الباليه بسبب شغفها بحذائه. قالت الباليرينا أرمينيا كامل في إحدي حواراتها أن فيلم "الحذاء الأحمر"، و المأخوذ عن إحدي قصص الكاتب الدانماركي الشهير هانز كريستيان أندرسون، هو ما جذبها إلي الباليه. الفيلم يحكي قصة فتاة فقدت حياتها تحت عجلات القطار و هي ترتدي حذاء الباليه. هذا بينما في الفيلم حبكة أخري عن بوانت مسحور يرقص من تلقاء نفسه، ترتديه فتاة بشغف لحبها لشكله ثم تكتشف أنها ترقص معه أينما كانت، ثم تموت من فرط إعيائها. سألت أرمينيا عن حذاء الباليه الذي يدفع الناس لفقدان حياتهم من أجله فحكت لي عن تدريبات الباليه التي دوما ما تسبب في نزيف أقدام الفتيات اللائي يقفن ويحملن ثقلهن كله علي أطراف أصابعهن. و مع مواصفات البوانت القاسية، نادرا ما تسلم فتاة، طوال سنوات الدراسة التسع، من الجرح. تقول لي أنها أحيانا ما تأمر بتخدير أصابع الفتاة حتي لا تحس بالألم أثناء العرض، و لكنها لا يمكنها إعفاءها من التدرب بسبب هذا، فلأرمينيا قصة أخري شبيهة، كان أول شيء حذرها منه أبواها الإيطاليان عندما أرادا إثناءها عن تعلم الباليه هو إرهاق البوانت لقدميها، قالا لها: الباليه مرهق و هو يجرح القدمين. و لكنها أصرت و نجحت. و هي الآن تملك فلسفة خاصة عن حب الشيء بجنون إلي درجة الفناء في سبيله، حتي لو كان هذا الشيء يرقصك معه بلا أي إرادة منك، يقودك بجنونه و نزقه إلي عجلات قطار مجنون لتموت تحتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-


.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر




.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب