الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غسّان كنفاني والريادة الروائيّة

إبراهيم العثماني

2020 / 5 / 24
الادب والفن


مقدّمة:

إن النصوص الخالدة هي تلك التي لا ينضب مَعينها ولا يجفّ نبعها. فمتى قلّبتها أسَرتك بثرائها، وكلما أعدتَ النظر فيها فتنتك بعمق دلالاتها، وإن غصتَ على مكامن أسرارها بهرتك بتميّزها. وكثيرة هي النصوص التي تتمحّض للدلالة على هذه المعاني وتكتنز هذه الأبعاد، ومن بينها روايات (1) غسان كنفاني (1936- 1972) التي اتسمت بجدة موضوعاتها وطرافة بنائها.
والمطلع على هذه النصوص الروائية يدرك أن صاحبها لم يترسّم آثار السابقين ولم يتقيّد بحدود الجنس الواحد بل استنّ لنفسه مسالك بكرا، واتبع شعابا وعرة، وأبحر في عوالم مجهولة. فكان رمزا للمغامرة والتجريب،وكانت نصوصه مفردا في صيغة الجمع. ذلك أن التعبير عن الواقع الفلسطيني المعقد اقتضى توظيف أشكال أدبية مختلفة والمزاوجة بين أجناس متنوعة داخل الأثر الواحد. كما تجلت في هذه النصوص سمات طريفة إذ استحالت قراءة للكتابة وتنظيرا للممارسة، ووردت فيها إشارات صريحة إلى علاقتها بالمسرح والسينما حينا، وإلى صلتها باليوميات والمذكرات حينا آخر، وإلى توسلها بفن الترسل مرة ثالثة. وهكذا تحول النص إلى نصوص وأضحى السرد كتابة على الكتابة.

1 - الكتابة الروائية وتجاوز السائد:

ثمة ظواهر كثيرة تشد انتباه القارئ عندما يُمعن النظر في إنتاج غسان كنفاني، ويستعرض الكتابات التي سبقت آثاره، وينزّل رواياته في الظرفية التاريخية التي أفرزتها، ويسعى إلى استصفاء أهم مقوماتها الفنية وكيفية بنائها. وقد لا نبالغ إن قلنا إن إنتاج غسان كنفاني الروائي يمثل بالنسبة إلى الأدب الفلسطيني نقلة نوعية في مساره، وعلامة فارقة في مدوّنته القصصية، ومنطلقا لمنعرج حاسم في تطور الكتابة السردية فيه. فمؤلفاته وخاصة الروائية منها أرست اللبنات الأولى في صرح مسار قصصي له طعم خاص ومذاق متميز. ذلك أن العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين شهدت لدى الأدباء الفلسطينيين إقبالا على الترجمة والاقتباس والتصرف في القصص المنقولة من روسيا وأنقلترا وفرنسا وإيطاليا للتعبير عن قضايا محلية يعيشها الشعب الفلسطيني، وتصوير همومه اليومية، ورسم أحلامه البسيطة وتطلعاته المشروعة. ويؤكد النقاد والدارسون (2) أن خليل بيدس ( 1949- 1875) وأحمد شاكر الكرمي ( 1927 -1894) وجميل البحري (- 1930) هم الرّواد الذين عرّفوا القارئ الفلسطيني بهذا الفن القصصي الدخيل والوافد، وقدّموه إليه مترجما، و"هذّبوه» أحيانا ليلائم ذوقه و"لا يخدش» حياءه ولا يثير نفوره.
وقد تُوجت هذه الجهود بظهور روايات موضوعة ألّفها كتاب فلسطينيون منذ بداية الأربعينات نذكر منهم إسحق موسى الحسيني صاحب «مذكّرات دجاجة»( 1943 )، ومحمد العدناني مؤلف «في السرير» ( 1946) وعارف العارف كاتب «مرقص العميان»(1947)، واسكندر الخوري مبدع «في الصميم " (1947) ...إلخ.
تعد فترة الأربعينات إذن مرحلة تأصيل الفن الروائي في فلسطين، لكن المواضيع التي تطرقت إليها هذه النصوص لا تمتّ بأي صلة إلى نضالات الشعب الفلسطيني التي تكثفت منذ عشرينات القرن العشرين لمواجهة عسف الأنقليز والإسرائيليين على حد سواء، وتسارعت وتيرتها، وكانت أحيانا دامية، ولا تشير إلى المؤامرات التي تحاك ضد الوطن، ولا تنبه على الأخطار المحدقة به. فقد اهتمت هذه النصوص بقضايا هامشية ومشاغل بسيطة لا تمس إلا عددا من الناس محدودا، ولا تُصوّر إلا حالات معزولة. فرواية «في السرير» لمحمد العدناني تستقي وقائعها من حادث لعل الكاتب تعرّض له، فكانت الرواية سردا لمراحل مرض البطل وسير علاجه من مكان إلى آخر. أمّا رواية «في الصميم» لاسكندر الخوري فتصوّر علاقة شاب من أسرة أرستقراطية بفتاة فقيرة وزواجه بها متحدّيا العلاقات السائدة في المجتمع. ويهتم نص "مرقص العميان»لعارف العارف ببطل ضرير استطاع تحقيق وجوده وإحراز نجاحاته في عالم المبصرين. ويلخص فاروق وادي خصائص الرواية الفلسطينية في تلك المرحلة فيقول:" ومن خلال هذه الأعمال، تبدو الرواية الفلسطينية أشد ما تكون اغترابا عن القضايا الأكثر خصوصية وجوهرية، فهي نتاجات معزولة لمثقفين فلسطينيين يبدو أنهم كانوا معزولين عن واقعهم وهموم شعبهم، أو أنهم عزلوا همومهم الإبداعية عن همومهم السياسية»(3(.
وتُغتصب فلسطين سنة 1948 ويُقسّم الوطن ويُشرّد الشعب ويَنزف جرحه دون توقف، وتمرّ سنوات وسنوات دون أن يتفطن الكتاب العرب والفلسطينيون جميعهم إلى حجم المأساة المترتبة على هذا الحدث الجلل ويستلهموا منه موضوعات رواياتهم ويشخّصوا الواقع المرير الذي فرض على شعب أعزل فرضا.
إلا أن غسان كنفاني كان استثناء. فهو من الكتّاب الأوائل الّذين رسموا لوحات صارخة تعبّر عن واقع فلسطيني مأساوي، ومعاناة يومية، وضياع وتشرّد، وغربة وانبتات، وعذاب وحيرة، وموت رخيص. ففلسطين، بالنسبة إليه، ليست حائط مبكى، ولا جنة ضاعت منه فظل يتحسّر على فقدانها. فلسطين هي محور اهتمامه ومدار تفكيره، بها يقترن اسمه، ومنها يصوغ متن رواياته ويجدّد العهد مع أدب الرّحلة، أفضل موضوع يكتب عنه، ويقلّبه من عدة أوجه، ويصوغه صياغة مخصوصة تختلف من أثر إلى آخر. والرحلة هي بحث متواصل عن أقوم السبل الموصلة إلى فلسطين الجريحة واستعادة «أرض البرتقال الحزين»، والتفيؤ بأشجار «برقوق نيسان» وارفة الظلال، والبحث عن «الرجال والبنادق». لذا توقف النقاد طويلا عند خصائص الرحلة في أدب غسّان كنفاني لتحديد سماتها، وسبر أغوارها، وشرح دلالاتها. فبدت لهم رحلة مخصوصة بكل المقاييس. تقرؤها فتدين المشاركين فيها وتسخر من أحلامهم وطموحاتهم، وقد تشفق على أبطالها ضحايا وعي مهزوم وجيش مكلوم، أو تتعاطف مع أحدهم دعما لطموح مشروع. فقد تكون الرحلة في اتجاه معاكس مثلما هو الحال في نص «رجال في الشمس» حيث هرّب سمسار ثلاثة رجال فلسطينيين في خزّان، ذات صيف حارّ، من البصرة إلى الكويت بحثا عن مال مفقود وسراب خلّب وجنة موعودة. فكانت النهاية الموت الرخيص، وتحوّلت الجثث إلى جيف تلقى بين أكداس القمامة ولا تجد شبرا في الأرض تدفن فيه. وتفشل الرّحلة لأنها قائمة على الحلول الفردية والأوهام القاتلة وتقودها قيادات عاجزة تفتقر إلى رؤية واضحة .
وقد تتأخر الرحلة عن موعدها الحقيقي مثل رحلة الأم والأب اللذين اتجها من رام الله- في نص «عائد إلى حيفا " - إلى مدينة حيفا، بعد مرور عشرين سنة على مغادرتها أثناء القصف، باحثين عن ابنهما خلدون الذي تركاه رضيعا في بيتهما ليفاجآ بأنه أصبح ضابطا في الجيش الإسرائيلي ومدافعا عن الصهيونية والاحتلال بعد أن تمّ تهويده وتبنته عائلة يهودية مهاجرة من بولونيا. فالأب سعيد س سلّم حيفا إلى الغزاة ثم عاد إليها بعد عشرين عاما، فواجه واقعا أليما وحقيقة مرّة إذ تنكّر له الابن والبيت والمدينة. لذا كان هذا النّصّ محاكمة لرحلة بطل متخاذل ظلّ يبحث عن الأمن حيث لا أمن، وينشد الاستقرار حيث لا استقرار. وهو أيضا محاكمة لرحلة فاشلة منذ البداية. فالمواجهة الحقيقية تتم زمن التهجير لا تتم بعد عقود.
وقد تتخذ الرحلة شكلا آخر كما يتجلّى ذلك في نص "ما تبقى لكم". فهي رحلة هروب تدور أحداثها في صحراء النقب حيث يفر حامد خجلا من عاره بعد أن حملت أخته مريم من زكريا، رجل حقير وخائن، ثم تزوجها بلا ثمن. يقطع حامد صحراء يسيطر عليها عدوه قاصدا الضفة الغربية بحثا عن أمه المقيمة في الأردن والتي تسبب غيابها في كارثة عاره. وتحصل المواجهة في الصحراء بينه وبين جندي صهيوني تائه، فيتوعده وبسكينه يهدده. وتبدأ الرحلة تجاه الحياة. وهي رحلة شاقة وصعبة لا محالة، لكنها أفضل من الصمت والخنوع. بدايتها هي الفعل التاريخي نحو الطريق الطويل، وهي بداية معروفة، لكن نهايتها منفتحة على أكثر من احتمال.
هكذا جرّب الفلسطينيون الرحلة في اتجاهات شتى فكان الفشل الذريع، وكانت الخيبة القاتلة. ذلك أن الحلول اليائسة تفضي دوما إلى الأبواب الموصدة وتثبّط العزائم وتُجرّع أصحابها العلقم. لذا رأى غسّان كنفاني أن الفلسطيني يحتاج إلى وعي جديد يخلصه من الأوهام ويحدد له أهدافا واضحة. وهذا الوعي سيولد من المخيم رمز الفداء والثورة والمقاومة الشّعبيّة. وهو ما سعى إلى ترجمته في نصّ " أمّ سعد" الّذي يشير إلى بداية مرحلة جديدة من تاريخ الشّعب الفلسطيني بعد هزيمة 1967 المدوّية.
تلك هي أهمّ المناخات الّتي تحرّكت فيها شّخصيّات غسّان كنفاني والعوالم الّتي صوّرتها نصوصه الرّوائيّة والموضوعات الّتي نقلت معاناة شعبه. وقد بدت جديدة بصياغتها، طريفة بإضافاتها الّتي لا تقف عند هذا الحدّ.

2- نصوص تسائل نفسها:

أفضت مساءلة جملة من النّصوص السّرديّة إلى استنتاجات مُفادها أنّ بعض النّصوص لا تكتفي بتشييد عوالمها التّخييليّة وسرد أحداثها وتشخيص وقائعها فحسب بل إنّها "توازي بين الكتابة الروائية والتعبير عن مفهومها الخاص لعناصر الكتابة داخل هذا الجنس الأدبي" (4)، ومن ثَم قد يستحيل الراوي كاتبا يكتب ويطرح أسئلة الإبداع ويُشيد بدور التنظير، وقد تضطلع إحدى الشخصيات بدور الناقد فتقوّم وتحلل وتؤول، وقد تحاور الرواية روايات أخرى، أو يقتحم المؤلف الواقعي فضاء النص ويصبح شخصية من شخصياته. لذا زالت الحدود الفاصلة بين التنظير والتطبيق، والقراءة والكتابة، وأصبح للنص خطابان: خطاب داخلي وخطاب خارجي.
وقد كان غسّان كنفاني مهووسا بالتجديد، متيّما بالتجاوز منذ أول نص روائي كتبه في بداية الستينات. فقد بادر إلى تجريب هذه العلاقة الطريفة بين الأدب والنقد قبل الروائيين(5) العرب الذين استهوتهم هذه المغامرة. فأقام حوارات بين نصوصه ورواتها وشخصياتها، وأبرز ولَهَهم بالمسرح وشغفهم بالسينما، ولجوءهم إلى المقارنات واضطلاعهم بأكثر من دور. والمطلع على بنية هذه النصوص يتبين ذلك دون عناء يُذكر. فقد وردت، في نص "رجال في الشمس»، على لسان أبي الخيزران، إشارتان إلى علاقة أحداث هذا النص السردي بالمسرح والتمثيل، وتوزّعتا بين ثنايا نسيج السرد، ووُظِفتا لخدمة فكرة واحدة مفادها أنّه آن أوان التّمثيل. ففي لحظة حاسمة في مسار السرد وتطور سيرورة الأحداث ومصير الشخصيات المهرّبة انفصل أبو الخيزران عمّا يرويه، وتوقف عن سرد الأحداث ونقل المشاهد وتسلّح بمعارفه النقدية وثقافته المكتسبة، واستحال ناقدا يقوّم ما يروي ويصدر أحكاما تتعلق بطبيعة النص الذي يرويه. يقول:" سنكرّر المسرحية لخمس دقائق أخرى، ثم هوب»(ص54).
هكذا يشبّه أبو الخيزران نزول الجماعة إلى خزان ماء وتخفيها هناك، قبل الوصول إلى نقطة تفتيش واقعة على حدود الكويت، بمسرحية. و"المسرح عمل ظاهره مجاز ومُزاح، وباطنه حقيقة وصلاح» (6)، وهو يقوم عادة على التقنع واختلاق الأحداث والقيام بأدوار مصطنعة. فجوهر المسرح هو التمويه وإخفاء الحقيقة. وهوما يتلاءم مع الدور الذي يهيئ أبو الخيزران الجماعة للقيام به لتجاوز لحظة التفتيش الحرجة التي يمر بها المهربون قبل الالتحاق بالكويت. ومن ثَم يصبح أبو الخيزران قائد فرقة مسرحية بعد أن كان سائق سيارة تهريب، ويمثل الفلسطينيون الثلاثة أدوارا تطلب منهم مطيعين صاغرين بعد أن كانوا يناقشون سعر الصفقة ويحتجون على شططه. وفي «المطلاع» سيكرّرون المسرحية مرة ثانية. يقول أبو الخيزران:"لنسترح قليلا قبل أن نبدأ التمثيلية مرة أخرى»(ص79). يصبح أبو الخيزران إذن ناقدا يميز الأحداث السردية من الأحداث المسرحية، بل يُضطر إلى مسرحة الأحداث المروية وتغيير طبيعتها عندما يحتم المقام القيام بذلك الدور.
ولئن كان أبو الخيزران ميّالا إلى المسرح فإن مروان يستهويه السينما فيستعير منه صوره ويستحضر من مشاهده ما يبعث على الرّاحة. يقول الراوي:" ولكنه كان يريد أن يعرف سبب ذلك الشعور البعيد الذي يوحي له الاكتفاء والارتياح، شعور يشابه ذاك الذي كان يراوده بعد أن ينتهي من مشاهدة فيلم سينمائي فيحس بأن الحياة كبيرة وواسعة وأنه سوف يكون في المستقبل واحدا من أولئك الذين يصرفون حياتهم ...بامتلاء وتنوع مثيرين» ..(ص36).
وفي نص « عائد إلى حيفا " وردت أكثر من إشارة إلى المسرح، وفلسطين نفسها لا تساوي إلا مسرحا ملائما لأسطورة قديمة عند اليهود القادمين من بعيد من أمثال أفرات كوشن(ص37). وقد رأى الراوي في بعض الأحداث التي شاهدها سعيد أحداثا مسرحية. يقول:"وفجأة انتاب سعيد شعور غريب بأنه إنما يشاهد مسرحية معدة سلفا بدقة، وتذكر مشاهد درامية مفتعلة في أفلام رخيصة تستدر توترا تافها " (ص62).
هكذا يبدو الراوي ناقدا متمكنا من تقنيات المسرح والسينما في آن واحد، قادرا على رصد ملامح الأب سعيد س وكشف ما يستبطنه وهو يشاهد أحداثا غريبة، وقد تَصوَّره متشنجا متوترا أثناء عودته إلى حيفا ووقوفه على حقائق لم تخطر بباله في ما مضى، ولا يمكنها أن تكون إلا من نسج الخيال، ولا تحدث إلا فوق خشبة المسرح. فأن تصبح الأم الفلسطينية صاحبةُ البيت والأرض غريبةً عن ابنها وضيفا في بيتها في حين تصبح ميريام البولونية المهاجرة واليهودية الدخيلة صاحبة البيت وأمًّا لخلدون، وأن يستحيل الأب غريبا عن ابنه والغريب أبا للابن فإن كل ذلك لا يقبله العقل ولا المنطق، وهو يعدّ من سخرية الأقدار وعبث الدهور، ويؤكد أن المفاهيم قد انقلبت وأن الواقع قد تغير في فلسطين حيث أصبحت هذه الشخصيات دمى متحركة تؤدي أدوارا أُوكلت إليها وتنفذ ما رسم لها. فظهر عليها التكلف والافتعال وبدت غير صادقة في ما أتته. لذا كانت هذه المسرحية مهزلة تثير من السخرية بهذه الشخصيات قدر ما تثيره من الشفقة عليها.
وفي نص" ما تبقى لكم» تبدو الراوية مريم ناقدة متمرسة بفنون النقد المسرحي. فهي تصف وتقارن وتقرب الصورة من ذهن المتقبل، وتحوّل المقاطع السردية إلى لقطات مسرحية، وتنقل القارئ من عالم السرد إلى عالم المسرح، وتحدد إطار الأحداث، وتُطوّعُه ليستجيب لواقع مغاير للماضي، مختلف عنه، فتشبه أفقا من الرمال بمسرح يحتضن معركة حامية الوطيس وحربا ضروسا مادتها كلاب ورجال ورشاشات وفوهات. وكأننا أمام مسرح ملحمي تدور أحداثه في فلسطين وليس في اليونان، ويستعمل المتحاربون أسلحة حديثة في هذه المعركة قادرة على مقاومة عدو شرس حقيقي جاثم فوق أرض فلسطين وليس عدوا خياليا. يقول الراوي:"ووراءه تماما كان أفق من الرمال تحت سماء بيضاء عالية يبدو وكأنه مسرح ستندفع فيه، حين يدق جرس ما، سيارات وكلاب ورجال، يسوقون أمامهم رشاشات سوداء، ذات فوهات دقيقة. ولكنهم جميعا سيظلون ملتصقين قرب مؤخرة المسرح، أمام تلك الخلفية الفارغة، إذ يكتشفون فجأة أن القصة إنما تجري هنا، وأنهم هم المتفرجون "( الآثار الكاملة /المجلد الثاني ص 228 ) ولم يخل نص «أم سعد " من الحديث عن المسرح. فقد كان الرّاوي ساردا يروي الأحداث ويلتقط مشاهد من حيوات الفلسطينيين فيقارنها بأحداث مسرحية، وينتقل بنا من فلسطين إلى الإغريق، ومن المخيم إلى المسرح الإغريقي، ومن عذابات أمهات الفدائيين إلى المشاهد المأساوية التي تعرض فوق خشبة المسرح، ومن إثارة الشفقة على الفلسطينيات الثكالى إلى الإشفاق على الشخصيات التي قُدّرَلها أن تعيش متعذّبة متألمة دون ذنب تقترفه. يقول الراوي:" لماذا، يا إلهي، يتعين على الأمهات أن يفقدن أبناءهن؟ لأول مرة أرى ذلك الشيء الذي يصدع القلب على مرمى كلمة واحدة مني، كأننا على مسرح إغريقي نعيش مشهدا من ذلك الحزن الذي لا يداوى»(أم سعد ص 26). بدت هذه الشخصيات حمّالة أوجه شتّى. تروي وتشارك في الأحداث، تُمنح الحياة فترتقي إلى مصاف النّقّاد وتركّز أساسا على المسرح والسينما. لذا كان الرصيد اللغوي الموظف ثريا بمصطلحاته المستمدة أساسا من عالم المسرح، وبدا غسان كنفاني سباقا إلى ابتداع أشكال جديدة تجعل نصوصه منخرطة في عالم التجديد .
وقد تتخذ الإضافة وجها آخر في هذه النصوص .

3 - تداخل النصوص:

جرّب غسان كنفاني، في فترات زمنية متقاربة ومتداخلة أحيانا*، كتابة القصة القصيرة والرواية والمسرحية والدراسة الأدبية والمقال السياسي. ووزّع وقته وجهده بين الإبداع والممارسة، وكرّس ثقافته النظرية وتجربته العملية لتعميق مضامين كتاباته وتحقيق الإضافة المرجوة. وقد حدث تفاعل خلاق وتناغم متميزبين هذه النصوص. فلم تعد تفصلها عن بعضها البعض أسوار سميكة أوحواجز شائكة تقف حائلا دون تأثير أحدها في الآخر. لذا انفتحت رواياته على فن الترسل والمذكرات واليوميات والمسرح فتجاورت دون تنافر وتفاعلت دون نشاز .

الرسائل:

تضمّن نص «رجال في الشمس»رسالة وحيدة يتبين الناظر في بنيتها أنها :
رسالة خلت من سنن فن التّرسّل، فلا ذكر لتاريخ الرسالة ومكانها، ولاحديث عن صيغة المجاملة المتعارف عليها، ولا إشارة إلى إمضاء المرسل
رسالة أرسلها الابن مروان إلى أمه، وموضوعها شكوى الحال والتذكير بأعمال الأب الشنيعة وزواجه بتلك الفتاة الكسيحة بعد تطليقه زوجته. ويبدو الابن متعاطفا مع أمه ناقما على أبيه، رافضا ما أقدم عليه.
كما يلاحظ أن تقديم الرسالة تم بصيغتين مختلفتين، فقد تولّى الراوي تقديم جزء منها مستعملا الأسلوب غير المباشر ملخّصا ما جاء فيها كأن يقول مثلا:"ولكنه- على أيّ حال-لايحقد على أبيه إلى ذلك الحدّ...صحيح أن أباه قام بعمل كريه "(ص39 ).
وقد يورد الراوي جزءا من الرسالة بين ظفرين دون أن يدخل عليه أي تعديل، فيكون الأسلوب مباشرا ويكون الخطاب موجّها من الابن إلى الأم من قبيل «أن يترك أربعة أطفال. أن يطلّقك أنت بلا أي سبب، ثم يتزوج من تلك المرأة الشوهاء..هذا لن يغفره لنفسه حين يصحو..» (ص 39).
وهي رسالة ذات صوت واحد أي أن صوت المرسل إليه كان غائبا.
هكذا استخدم الكاتب فن الترسل فكان رديفا للسرد دون أن يظهر بينهما تنافر، وحرّر شخصية مروان من سلطة الراوي، فتجاور صوتان وتآزر أسلوبان وتحاورت لغتان. وتدعّم فن الترسل بفن المسرح.

المسرح:

الحوار هو أداة الإبلاغ الأساسية في المسرح، وهو آليّة حيويّة تمكّن الشخصيات من التفاعل والتحاور فيما بينها، وتساعدها على التخاطب والتواصل، وتسمح لها بالكشف عمّا تبطن دون واسطة، وتحررها من سلطة الراوي المتحكّم في خطاباتها.
وقد تواترت الحوارات في نصوص غسان كنفاني، واحتلت حيزا مهما من نسيج السرد، وطغت أحيانا على الوصف والسرد. والمطلع على نص "رجال في الشمس" يتبين ذلك بجلاء كبير إذ يمتد الحوار أحيانا على صفحات عدة ( ص 15، 16، 17، 20، 21، 22، 30، 31، 32، 33)، ويتكرر نفس الشيء تقريبا في نص «عائد إلى حيفا»( ص 32 ,31، 33 ) وتتوالى الفقرات الحوارية دون أن توقفها مقاطع سردية أو فقرات وصفية. ولعل كثرة الحوارات هي التي دفعت أفنان القاسم إلى القول:"كان كنفاني كاتبا مسرحيا أكثر منه روائيا، فهو يفضّل التكثيف الفني المختصر إلى بعض الصورعلى التصوير الشامل انطلاقا من تكوينات بعيدة الغور، وبالتالي، فإن تكنيكه موجز لا استطرادي» (7).
وقد يتجسّد تأثير المسرح في النص السردي في استمداد الثاني روحه من الأول وتشبعه بمقوماته، ومن ثم تتحول بعض الفقرات السردية إلى فقرات مسرحية. وقد تجلى هذا التأثير في نص"عائد إلى حيفا». يقول فوزي كريم "في بعض مقاطع ومشاهد القصة صيغة ميلودرامية تتمثل في الصدفة ( مهاجر يهودي مع امرأةعاقر ومنزل مع طفل بالمجان)، وكذلك محاولة إثارة المشاعر(نهاية المقطع الثاني، والمعادل الذي يعرضه المؤلف أمامنا بين مشاهدة «ميريام "اليهودية لطفل عربي مقتول بين يدي العسكر اليهود، وبين ذاكرة «ميريام»التي ترجع إلى العهد النازي حيث يقتل هؤلاء الألمان أخاها الصغير دون ما ذنب"(8 (.

بين اليوميات والمذكرات:

تنزع الكتابة في نص «عائد إلى حيفا» منزع كتابة اليوميات أو المذكرات التي تحظى فيها الحوادث المعاصرة والتاريخ بأهمية أكبر بكثير مما تحظى به شخصية الكاتب.(9)
وقد عمد راوي هذا النص إلى ذكر اليوم والشهر والسنة كلما أورد حدثا من الأحداث لإيهام المتقبل بواقعيته وإضفاء مصداقية على روايته. وقد تمحورت هذه الأحداث حول سنوات1947و 1948 و1967 سنوات التقسيم والتهجير والهزيمة النكراء، وبدا نسق السرد متقطعا يفسح المجال لتدخلات الراوي واستحضاره أحداثا ماضية. يقول الراوي:»ظهر[ سعيد س] يوم الثلاثين من حزيران 1967 ( ص 6)، وتكرر هذا المنحى في صفحات شتى ( ص ص44,37 ,35 ,31 ,10 ,8 ...)، ثم يقول :"وكان ذلك اليوم يوم خميس، الثلاثين من نيسان 1948 عندما دخل أفرات كوشن وزوجته ميريام برفقة موظف من الوكالة اليهودية»(ص45).
ولعل استعمال الراوي فعل كان مع ذلك اليوم يؤكد أنه يتذكر ثم يروي، ولا يسجل أحداثا يشاهدها زمن وقوعها. وقد يشحذ الراوي ذاكرته ويستعيد أحداثا وقعت منذ سنوات ويعيد ترتيبها، وهو ما يؤكد أن هذه الكتابة تنتمي إلى جنس المذكرات. يقول الراوي:"ولأول مرة منذ عشرين سنة تذكر ما حدث بالتفاصيل، وكأنه يعيشه مرة أخرى:
صباح الأربعاء ،21 نيسان، عام 1948 "(ص10 ).
إنّ ما يلاحظ إذن هو توظيف الكاتب لمقومات المسرح، واستعانته بالرسائل واتكاؤه على جنس المذكرات فتنوعت سجلات القول، وتعددت الأصوات، واختلفت الأساليب.

خاتمة:

اختلط في هذه النصوص الماضي بالراهن، وجاور الواقعي المتخيل، وتفاعل السياسي مع الإيديولوجي، وانصهرت هذه العناصر جميعها في بوتقة واحدة وصيغت بأساليب فنية متميزة، وكتبت بلغة تمتح تارة من الواقع المعيش وطورا من الرمز والمجاز فأفرزت نصوصا جديدة بدلالاتها، ثرية ببنائها، متنوعة في صياغاتها. لذا لم يكن غسان كنفاني رمزا للريادة في الأدب الفلسطيني فحسب بل إنه حمل لواء التجديد في الأدب العربي وسبق أصحاب الرواية الجديدة في مصر الذين ينسب إليهم إحداث قفزة نوعية في الكتابة السردية العربية. لذا ظلت رواياته قابلة للقراءة وإعادة القراءة والتقليب.
------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
(1) سنقتصر على الروايات الأربع التي ألّفت في الستينات:"رجال في الشمس»(1963 )، «ما تبقى لكم "(1966)، "عائد إلى حيفا"( 1969)، و"أم سعد" (1969(
(2) نذكر منهم : - فاروق وادي: ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية غسان كنفاني، إميل حبيبي، جبرا إبراهيم جبرا المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ط 1، 1981.
أحمد عطية أبو مطر: الرواية في الأدب الفلسطيني 1975 - 1950 دار الرشيد العراق 1980 .
(3) فاروق وادي : مرجع سابق ص31
(4) محمد عز الدين التازي: مفهوم ا الروائية داخل النص الروائي العربي مجلّة الوحدة س5 ع 49 - أكتوبر1988 ص96.
(5) نشير في هذا الصدد إلى بعض الروائيين من بينهم عبد الرحمان منيف :شرق المتوسط (1975 )، ويوسف القعيد :يحدث في مصر الآن( 1979)، وفاضل العزاوي:الدينا صور الأخير( 1980)، وجبرا ومنيف:عالم بلا خرائط(1982) وأحمد المديني: وردة للوقت المغربي ( 1983) إلخ.
(6) استشهد به محمد الرميحي في مقاله المسرح أصيل أم دخيل في الثقافة العربية
ضمن كتاب "المسرح العربي بين النقل والتأصيل " الكويت 1988- ص9.
*تمثّل السنوات الممتدة من 1961 إلى 1966 هذا التداخل أحسن تمثيل .
(7) أفنان القاسم: التنوع الأدبي عند غسان كنفاني مجلة "الموقف الأدبي" س5 ع6 -1975- ص110.
(8) فوزي كريم :عائد إلى حيفا رواية بقلم غسان كنفاني الآداب ع؟ ص65.
(9) جورج ماي: السيرة الذاتية تعريب محمد القاضي وعبد الله صولة منشورات بيت الحكمة، 1992، ص 127.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و