الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-حجر الموشكا- للشاعرة لينا أبو بكر: ما يسيطر ويسطع في إصبع ذئبة الشعر

المثنى الشيخ عطية
شاعر وروائي

(Almothanna Alchekh Atiah)

2020 / 5 / 24
الادب والفن


تلك هي ذئبة الشِّعر، وما على الشعراء الغاوين بـ "رقصاتٍ مع الذئاب"، مجازاً لأرواحهم الطليقة، وبالأخص شعراء التفعيلة منهم، إلا أن يغاروا، فتلك الشاعرة المتوحّدة في سرير الذئاب، بسطوة حجر خاتمها "الليليثي"، لا ترقص مع الذئاب فحسب، بل تتشظّى لتكون الراقصة والذئبة المتوحّدة بذاتها في ذات الوقت، شغوفةً ونفورةً ولا يدخل سريرها "شاعر لم يُقتل بعد"، كما تقول الذئبة، ولا قارئٌ لم يمسسه شغفُ التوق إلى جنيّات الإلهام كما أعتقد.
وليس هذا فحسب؛ فالشاعرة الفلسطينية لينا أبو بكر، في مجموعتها الشعرية: "حجر الموشكا ـــ سرير الذئاب" لا تحصدُ رؤوس الفرسان كما "الجميلة التي لا تعرف الرحمة" في قصيدةِ كيتس، ولا تُشلّح الشعراء على مفترقات الطرق من ثيابهم الموشاة برمز الذئب، وتتركهم عراةً تحت شمس اللوعة، في توحّدها بهذا الرمز كوشمٍ ينبض به كامل جسدها قبل روحها فحسب، بل تشكّل مجموعةً كاملة وساطعةً بفضّة قمرٍ أسطوريّ مكتملٍ ومحيطٍ برأس ذئبة منفردة متفردة، يتردّد صوتها بسيمفونية قطيع ذئابٍ، تتراشق صوره وتتراكب مع ربّات وكاهنات سومر، وعذارى القيامة، وزيْنبات الشهادة، وأسماءات النطاقات، والآباء الشامخين أبراجاً أمام الأطفال، والمنْزَلين أطفالاً لائذين بأكمام أردية الزوجات، والشهداء المجدّدين لأرواح شعوبهم، والعشّاق الذين لا يحلّ عقدة كبرياء حرّيتهم من بعضهم سوى طعنات خناجرهم في صدور بعضهم، هانئين براحة موتهم الصّاعد كما مخيّم غجرٍ إلى السماء:
"هذا الحقلُ الأسود لي... لا تقربْ!
مقبرةُ الملكات... هنا
وجميلاتٍ أحببنَ رجالاً...
من أرض الأعداء وخنَّ النهر مع الغرباء فجُزَّت
في وضح الحبّ جدائلهنّ ولمْ
يبكينَ على دمها الأصهبْ!!
وهنا بعض طريداتٍ لم يعثرنَ على
منفىً يسع حقائبهنّ... فكيف سأطردهنَّ؟
أنا أحرس غرباناً لا تهجرُ موتاها
فأخبّئ في البرج جماجمَ أحبابي
وتعاويذَ الأرواح على بابي
ودموعَ الجند إذا انهزموا
وبناتَ الليل ــ يسِمْنَ ضفائرهنّ بشقّ العرقِ ــ ليعْقدْنَ بها
بلحَ اللذّة ـــ ثم أهمّ بسقّاءِ الدمّ ليشربْ!
يا غربانْ هلمّي!
وجعي حفّار قبورٍ... يأوي ملكاً
ينسى حربته في مخدعِ ليليث أنا... ليليثْ!
لا أملكُ حتى أولادي!
لا أملك من جسدي غيرِ خطيئةِ آدم في تفّاح حِدادي
إنّي أوّل ثكلى في الجنّة لكنّي في
عاشوراءَ الهجرةِ زينب!".
في "سرير الذئاب" تراكم لينا أبو بكر المعاني التي تقلق وجودها المتراكب مع داخل الذات الإنسانية، وفي بؤرة هذا التراكم تستقر وتتحرك علاقة الرجل والمرأة، وتطوّرها العائد إلى ما اعترض هذه الدواخل من خوف وتوق ورغائب انعكست بأساطير البشر على اختلاف أماكنهم التاريخية التي تتحول في تراكب جمل لينا الشعرية ولغتها إلى أمكنةٍ لغوية متفرّدة. وتجمع لينا هذا التراكم في بنيةٍ ظاهرةٍ بأربعة أبواب تقدّم لها بقولين يعكسان عوالم المجموعة: "يقول الشهيد: "الخلود انزياح سرّي للوجود" و: "قبلة السمّ تفّاحة الحياة".
وتنمو في أَسِرَّة هذه الأبواب أربعة عوالم تضع الشاعرة ثلاثةً منها تحت مصطلح الملكوت، هي: ملكوت الذئاب، ملكوت التفاح، ملكوت الحَجَر، وتُكوّن الرابع تحت مصطلح: البرزخ، الذي يشكّل كما يبدو انفتاحاً للمجموعة إلى بدايتها. وتُدخل الشاعرة تحت هذه الأبواب ثمانٍ وعشرين قصيدة تفعيلة، وقصيدةَ نثرٍ واحدةٍ تختم بها المجموعة، وتعيد القارئ إلى الذين لا يدخل غيرهم سريرَ الذئبة، الشعراءُ المقتولون، يقودهم الشاعر الإسباني فيدريكو غارسيا لوركا، الذي قتله الفاشيون وأخفوا جثته لتصبح رمزاً عالمياً في إدانة شرور الفاشية، ونراه يسير خلف شاعرته الإلهة كما عشتار وتموز، في دهاليز العالم السفلي إلى الحياة في حوار ثري فاجع حول معاني الموت.
في سرير الذئاب، تتجلّى لغة لينا أبو بكر الحيةً المتفردةً، أولاً بمفرداتها الخاصة التي تجسّد موضوعاتِ داخلها، وتتشكل أجنحةً نابضةً بتوق هذا الداخل إلى الحرية والانعتاق خارج الشروط، مع غنى هذه المفردات وتعدد وجوه مراياها رغم مركزتها بما يجمع، وتتجلّى من بين هذه المفردات كلمات: (الذئبة، الذئب، الذئاب، الملكوت، التفّاح، الحجر، الموت)، التي تشعّ بعوالم نابضة تُحيي تواريخ وأساطير وعوالم الإنسان على مدى تاريخه، متجمعةً بمظلّات، مثل مظلّة الملكوت للذئاب والتفاح والحجر، ومتشظية بأبعاد تتداخل بالثقافات الإنسانية، مثل أبعاد الحجر الذي يتشظى لحِجْر الحماية مع أصحاب الحِجْر، والأيكة، في القرآن الكريم، وإلى الخلود، وإلى فصوص يواقيت النفس، المفرد منها والمثنّى، بتراكبها وانصهاراتها وتوحّدها وانقساماتها. ولا تنسى الشاعرة في تركيب مفرداتها صقلَها بثقافةٍ واسعة تتعدّى التاريخ والأسطورة إلى الأغنية، كما مع داليدا، وإلى السينما كما مع أفلام ابن عجلان، والفراشات السوداء، وعشيقة البهارات، وزوربا، ومخيم الغجر يصعد إلى السماء؛ وصقلها كذلك بعموم غنى الثقافة الإنسانية.


وفي كل ذلك، ترقى لغة لينا أبو بكر في تعبيرها عن الزمان إلى أن تكون الزمان، وفي تعبيرها عن المكان إلى أن تكون المكان، كما يبدو جلياً في قصائد مثل قصيدة: "هس" المعبرة عن الحبّ العذري في جنبات الحياة البدوية النابضة بالروح الرعوية، وقصيدة: "فلامنكو أسود"، التي تنبض بمكان وروح وأجنحة مزيج الأندلس، بعربه وإسبانه وغجره:
"تأتيكْ. بعد هبوط القمرة في/ قاع البحر... تُخاتل فُوَّهة الجوف... وتأتيكْ!!/ مع إيقاعٍ أندلسي... في بحّة لوركا/ مع موّالٍ غجريّ /يفطر قلبكَ... يا هذا/ مع وجعةِ جيتار وتواشيحِ صنوج/ من غرناطة حتى طنجة... مع طقطقة الكعب العالي/ وكظيم الجسد الهائجِ منساباً
مشدوداً/ يضبط إيقاع الأرض بأطراف أصابعه/ وأناملَ فالتةٍ/ من لحم الدومبيك. تأتيك!!!!".
وتتجلّى لغة لينا أبو بكر الشعرية ثانياً: بموسيقاها التي ينظمها إيقاع التفعيلة، وتغلبُ عليها تفعيلة: فَعْلُنْ وجوازاتها، التي تتيح حرية أكبر للشعراء. مع خصوصية تشكيل موسيقاها بوضع القافية قاسماً للقصيدة إلى مقاطع موسيقية تتكرّر فيها القافية، وتُغني الشاعرة هذه القواسم وتبعدها عن الرتابة بوضع قوافٍ فرعيةٍ أصغر، مع اللجوء إلى تسكين نهاية الشطر وإغلاقه موسيقياً بحرَفيّة عالية، وسلاسةٍ غير قسرية، وعذوبةٍ محبّبة، تُنجي قصيدتَها من العَرَج الذي يقع فيه معظم شعراء التفعيلة الذين يلجؤون للتسكين قسراً بسبب فقر امتلاك المفردات وعدم القدرة على توظيفها موسيقياً.
ويمكن التأكيد على أن ميّزة لينا أبو بكر الأهمّ تكمن في هذه الموسيقى التي تختلف فيها عن معظم شاعرات جيلها، والشاعرات اللاحقات اللواتي تغلب على قصائدهن طبيعة وإيقاعات قصيدة النثر، سواء عن عجز التفعيل أو عن الارتقاء به، وتختلف فيها كذلك عن معظم شعراء قصيدة التفعيلة، وبالأخص الشعراء الفلسطينيين الذين يقعون عادةً، وهذا ليس إثماً، بجاذبية فلك محمود درويش، وهو ما لا تقع فيه لينا رغم جرأتها في الاقتراب أكثر منهم نحو مغناطيس متضادّات المعاني في هذا الفلك، بما تمتلك من غنى في المفردات وإجادةٍ في توليد المتضادّات، وفي الموسيقى، وفي تعميق التراكب بين المكان والزمان إلى حدّ محو الحدود بينهما، وصهرهما كلغة في بوتقة اللغة.
وفي سرير الذئبة تتجلّى علاقة الحبّ بين الرجل والمرأة كعلاقةٍ خاضعةٍ للصراع والتنابذ كما هي خاضعة للسلام والتجاذب، وتمرّ صور هذه العلاقة بمأساة الأنوثة في صراعها مع الذكورة التي تمأسست كعالم ذكوري، يحاصر النساء بالدونية، وذلك من خلال سيدة ملكوت الليل وشيطانة العواصف الأسطورية "ليليث"، الشاعرة، "حارسة الغراب" والذئبة في القوة الكونية للخلود الأنثوي، والتي كانت زوجة آدم قبل حواء، كما في تطوّر الأسطورة، ولم ترض بسيطرة آدم فهربت، وأصبحت معشوقة الشيطان، لتستحيل كذلك مريم وزينب وذات النطاقين لدى الشاعرة التي تعرف معنى الإخلاص لأنوثتها في ذئبية اللغة المجاز عن حريتها:
"أشتاق إلى لغتي في بُعدك. لا أشتاق إليكْ!/ ما زلتَ تصدّق رغماً عن حقدي أنّي/ سأحبّك أكثر من لغتي!/ وأنا لم أصْدُق إلا حين كذبتُ عليكْ!/ قد لا أحتاج سواكَ لأنساكَ امنحني/ ذكراكَ لأنّي لم/ أكتب كيما أتذكّر لكنْ أكتبُ كي/ أتخلّى عنك".

لينا أبو بكر: "حجر الموشكا ــ سرير الذئاب"
الأهلية للنشر والتوزيع: الأردن ، عمان، 2020
109 صفحة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع


.. هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية




.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما