الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وهم السيادة الجنسانيّة للدولة

زاهر رفاعية
كاتب وناقد

(Zaher Refai)

2020 / 5 / 24
حقوق الانسان


لم تكن التفاسير النّازيّة لفلسفة "نيتشة" هي آخر من طرح السؤال المنطقي الذي يقول: (ماذا لو أنّ المجتمع عَمِلَ على الدّوام على التخلّص من العناصر البشريّة التي تعيق ارتقاء الإنسان, والتي تستهلك من المجتمع وأفراده طاقتهم الخلّاقة من وقت وجهد ومال في عمليّة رعاية هذه الفئات الهامشيّة التي لا جدوى من حياتها ولا طائل؟)
كل إنسان منفتح على الحوار مع الآخر سيواجه من عند الدّاروينية الاجتماعيّة أسئلة من هذا القبيل شاء أم أبى. أسئلة الـ"لماذا". لماذا علينا أن نرعَ العجزة وكِبار السّن عشر سنوات وربّما أكثر قبل موتهم المحتّم؟ لماذا علينا أن نحتفظ بالأطفال الذين يقدمون إلى الحياة مشوّهين معاقين لا جدوى إيجابيّة من استمرار بقائهم, ولا خير عندهم ليقدّموه سواء لأنفسهم أم للمجتمع؟ لماذا يرعى المجتمع ويحتفظ بالعناصر الضعيفة والهشّة من مرضى جسديين وعقليين ويقف في وجه قانون التطوّر الذي يحتّم علينا أن نضحّي دائماً بالفردانيّة الضعيفة لصالح القطيع ولصالح الأفراد الأقوياء الذين سيحافظون على الجنس البشري ويعملون على ارتقائه؟
والجواب من عندي وبمنطق براغماتي عقلاني يبتعد عن لغة العواطف والمثاليّات المشفقة التي للأسف لم تعد تصلح عند شريحة كبيرة لجيل ما بعد الألفيّة في هذا الزّمان سوى للتندّر هو:
إذا شاء الإنسان بالفعل أن يبنِ لنفسه مجتمعاً يحفظ فيه التّماسك والقوّة الخلّاقة, فيجب على القواعد التي تحكم أفراد هذا المجتمع وعلاقاتهم أن تكون قواعد تحفظ لكل فرد في هذا المجتمع "الحريّة والأمان" اللازمين لبناء الشخصيّة الفردانيّة المتماسكة, ذلك أنّ الفرد هو القاعدة التي يتشكّل منها المجتمع.
وعليه فإنّ الدّعوات التي يوجهها أنصار الداروينيّة الاجتماعيّة لسحق ومحق والتخلّص من بعض الأفراد والفئات بحجّة أنّ هؤلاء الشذوذ والمستضعفون والعاهات (بحسب تعبير بعض أنصار الدّاروينيّة) يعرقلون مسيرة التطوّر البشري ويستنزفون طاقات أفراد المجتمع الـ(أسوياء) , لهو نذير كارثة على مفهوم الفرد والمجتمع البشري على حدّ سواء. لأنّ هذه الدّعوات وهذه السلوكيات ستفرز نوعاً خاصّاً من العلاقات ينعكس سلباً أوّل ما ينعكس على الأفراد الأصحّاء, وينشأ لنا في المجتمعات أفراداً يفتقدون شيئاً فشيئاً الإحساس بالأمان والحريّة بجوار بعضهم البعض. لذلك فالسؤال الأجدر بالطرح هو:
ماذا سيخسر الأفراد الأصحّاء جرّاء إرساء قواعد الاصطفاء الحيواني في المجتمع البشري؟ وليس (ماذا سيجني الأصحّاء جرّاء التخلّص من الضعفاء؟)
وبعبارة أخرى: هل يصحّ التذرّع بضرورة حماية المجتمع في الوقت الذي نساهم فيه بتشكيل علاقات مجتمعيّة تلغي عند الفرد مفهوم المجتمع من أساسه؟
ولأنّ المثال خير توضيح أقول: كيف ستكون تصوّراتنا عن أنفسنا وعمّن حولنا فيما لو كنّا نعيش في بيئة مجتمعيّة يتربّص بنا من حولنا الضعف أو العجز أو الشيخوخة أو انعدام الكفاءة الإنتاجيّة حتى يرموا بنا إلى المزبلة؟ ... بالطبع سنخسر آدميّتنا وسنخسر ثقتنا بكل من حولنا بدءاً من أقرب المقرّبين, وأوّل ما سينهار هو مفهوم "الأسرة". ولن يعود بمقدورنا أن نحافظ على سلاحنا الأقوى الذي ضمن لنا البقاء وجعلنا في رأس المنظومة المسيطرة على الكوكب, وأقصد بهذا السلاح (المجتمع البشري), الذي هو نمط محكوم بالتبادل اللغوي وأدوات الإنتاج. هذا النكوص هو ردّة في التطور حتّى إلى ما قبل عصور تشكّل القطيع في المجتمع الحيواني.
الحريّة والأمان هما "كلّ واحد" غير قابل للتجزئة, وعليهما تستند شرعة حقوق الإنسان بعد إدخال استثناءات محددة من قبيل, (لا حريّة لإنسان في انتهاك حريّة الآخرين) وأيضاً (لا حريّة لإنسان في سلب حقّ إنسان آخر في الشعور بالأمان) لأنه وبدون هذين المنطلقين (الحريّة والأمان) وبدون هذين الاستثناءين لن يعود بمقدورنا الحديث لا عن "الحقوق" ولا عن "الإنسان" . فالحريّة والأمان هما شروط مسبّقة للأنسنة, وليسا مفرزين لاحقين على التجربة المجتمعيّة, فهما شرط "الكرامة" والتي هي أساس التأنسن, وهذا التأنسن هو شرط قيام المجتمع البشري وليس العكس.
ولكن للأسف نشأ جيلنا وأجيال من قبلنا في ظل الأنظمة القمعيّة السياسيّة والدينيّة على مجتمعات يسودها بدهيّة القول بمشروعيّة مصادرة حريّات بل ورغبات فئة أو أكثر من المجتمع لصالح المتعارف عليه والحسّ العام والذائقة الجمعيّة. كل ذلك وبلا أدنى مطالبة للنفس وللآخرين بإخضاع هذا الموروث لمجهر النّقد والمحاكمة وفق ما تمليه شرعة حقوق الإنسان واحترام مبدأ الحريّة وحق الأفراد بالأمان في مجتمعهم. نشأنا في مجتمعات تستند إلى أرضيّة في التشريع عِمادُها الأعراف والموروث وتوافق الأكثريّة والحكمة التي لا يعلمها إلّا الله.
حين يقرأ المرء المقالات التحليليّة النّاقدة باللغة العربيّة حول خبر رفع السفارات الغربيّة لأعلام المثليين جنسيّاً فوق مبانيها القنصليّة في العراق بتاريخ 17.05.2020, سيجد هذه المقالات بمجملها تتحدث عن "خرق" أوروبّي لسيادة العراق و"حرب" على شعبه و"فرض" قيم لا تتناسب والحس العام لشعب الرّافدين, شبهها الأستاذ "علاء اللامي" بحرب الأفيون التي شنتها بريطانيا على الصين عام 1840م, والتي تمّ فيها فرض استيراد مادّة الأفيون والسماح بتعاطيه في المجتمع الصيني!!!! واقتبس عن الكاتب قوله: (قد لا تبدو العلاقة واضحة لدى البعض بين إجبار الصينيين على استهلاك مخدرات الأفيون في القرن التاسع عشر من قبل بريطانيا وحلفائها، وبين إجبار بعض الدول والمجتمعات اليوم على اعتبار المثلية أو الشذوذ الجنسي أمرا قانونيا ودستوريا، وهذا صحيح إلى حد ما، ولكن العلاقة بين الأمرين، من زاوية تشابه أساليب التدخل الغربي الاستعماري في شؤون الشعوب الأخرى ومحاولة فرض خيارات سياسية وأخلاقية وقيمية وجمالية وذوقية عليها بالقوة والقسر والابتزاز أمر واضح ولا مراء فيه.) انتهى الاقتباس. (1)
بغض النّظر عن أن مبنى السفارة هو جزء من أرض الدّولة الضيف كما تنص اتفاقيّة فيينا للتعامل القنصلي(2), وبغضّ النظر عن أنّ رفع الأعلام فوق مبنى السفارات كان جزءاً من رفع الأعلام الملوّنة (رمز المثليّة) في الدّول الغربيّة بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة اضطهاد المثليّة الجنسيّة, وليس فرض إرادة سياسيّة على دولة مثل العراق الذي هو بالأصل يعاني من خرق السيادة على المستوى العسكري والسياسي والاقتصادي منذ عام 2003 على أدنى تقدير من خمس جهات إقليميّة ودوليّة(3) إلّا أن اللافت للنظر حقّاً بالنسبة لي هو أنّ الأستاذ "علاء اللامي" وحسب ما أورد في سجلّه الشخصي, فهو يعيش منذ خمسة وثلاثون عاماً في سويسرا, ومن قلب سويسرا كتب لنا هذا المقال الوارد ذكره آنفاً. وأنا من مقامي هذا أودّ مناقشة هذه القضية بموضوعيّة ما أمكن, والإشارة ببضع نقاط إلى الجوانب اللافتة فيها:
أوّلاً: إن كانت خمسة وثلاثون عاماً من العيش في أجواء احترام الحريّات في بلد يعتبر من مصافّ الدّول التي تحترم الإنسان الفرد وتصون حقوقه كسويسرا لم تساعد في إقناع أحدنا بمبدأ بسيط يمكن تلخيصه بعبارة (عش ودع الآخر يعيش) فلا حرج على من قضى عمره وهو لا يعرف أسلوباً في الحاكميّة والتحكيم غير بسطار الحاكم وسيف الخليفة وجلباب الأب وحكمة شيخ القبيلة. ولا نتكلّم هنا عن مهاجر أمّي قضي السنون في المهجر وهو لا يعرف شيئاً عن ثقافة البلد ولا حضارتها, بل نتكلّم عن كاتب له مئات المقالات وملايين القراءات. ولا أقصد بالطبع أن الأستاذ "علاء اللامي" يقصد من وراء المقال أن يحرّض على مصادرة حقّ المثليين بالحياة, فهذا بالطبع ما ينفيه الكاتب ويشنّع به في نهاية المقال بقوله: (إن حق الحياة مصون ومقدس ولا يجوز إنهاؤه والمساس به، وعليه لا لدعوات الفاشيين في الغرب والتكفيريين في الشرق لتجريم أو قتل المثليين أو الشاذين من الجنسين وعلى الدولة تقع مسؤولية حماية جميع مواطنيها.) (4).
ثانياً: بقدر ما يطالب الأستاذ "علاء" بحفظ حياة المثليين بقدر ما يطالب بتجريمهم! وأقصد بكلمة "تجريم" هو مطالبة الدّولة الإبقاء على المثليّة الجنسية في حيّز الجريمة التي تستوجب العقوبة, وقد تجلّى ذلك بوضوح من خلال عبارته التي صاغها على الشكّل التالي: (إجبار بعض الدول والمجتمعات اليوم على اعتبار المثلية أو الشذوذ الجنسي أمرا قانونيا ودستوريا). أي أنّ الكاتب يطالب الدّولة التي تحتكر العنف وجني الضرائب أن تسخّر مقدراتها وعنفها في سبيل الحفاظ على الصفة الجرميّة للأفعال الجنسيّة عند أصحاب الميول المثليّة من المواطنين.
ولا أعلم حقيقة إن كان قد غاب عن بال الأستاذ "علاء" أنّ المصيبة الأولى للفرد والمجتمع في بلداننا هي في أنّ الدّولة تصدّر مفهوم الحامي والمدافع عن الذائقة الجمعيّة للأكثريّة وذلك بالتنمّر وسحق حقوق الأقليّات, وفي مقابل ذلك تمنح الأكثريّة لأجهزة الدولة المال والدماء والأصوات الانتخابيّة. هذه الآليّة في التشريع هي أعظم المصائب التي حلّت على العرب بعد الآليّة الكهنوتيّة في التشريع, التي تستند إلى فرض تفاسير النصوص الدينيّة على المواطنين في المجتمع بحدّ السيف.
وهنا تبرز وظيفة المثقّف بوجوب تصحيح المسار ونقد هذه الآليات الوصائيّة في التشريع, في سبيل الانتصار للحريّات الفردانيّة طالما لم يثبت تعارضها مع حقوق الآخرين وحريّاتهم وأمنهم. وليست مهمّة المثقّف إطلاقاً تبرير التغوّل والاضطهاد الذي تمارسه الدّولة على فئة من الفئات بتفويض من الأكثريّة في المجتمع. فهذا التغوّل السلطوي باسم الأكثريّة إنّما هو الفهم المشوّه للديمقراطيّة بل هو شرعنة التسلّط. فالديمقراطيّة تعني تفويض الأكثريّة في مهمّة حماية حريّات وأمن أفراد المجتمع قاطبة, ولا تعني بأيّة حال استئثار وتواطؤ الأكثريّة من أجل شرعنة اضطهاد الأقلّيات.
ثالثاً: بالكلام حول فرض نمط العيش على المجتمعات, يسعدني الإشارة إلى أنّ أنصار الفاشيّة اليمينيّة في الغرب الذي نعيش فيه أنا و الأستاذ "علاء اللامي" تحتّ نعيم احترام حقوقنا الآدميّة وحرياتنا يعتبرون -اليمينيّون- أنّ المآذن والحملات الدّعويّة والمهاجرين واللاجئين هم أخطار محدقة بالمجتمع, وأننا مجرّد أنماط معيشيّة لا تتناسب وتطوّريّة مجتمعاتهم. ويطالب هؤلاء جهاراً نهاراً بتجريم وجودنا واعتبارنا جراثيم تنخر في بدن مجتمعاتهم وبالتالي وجوب إقصائنا. هذه الدّعوات لا تختلف من حيث الشكل ولا المضمون عن دعوات التحريض ضدّ المثليين ومطالبة الدّولة بتجريم فعالهم. لأنّه لا فرق بين أن تطالب بتجريم صاحب معتقد ورأي أو أن تطالب بتجريم صاحب ذائقة أو ميل أو نشاط مدني فردي أو جماعي طالما أنّ ذريعة التجريم واحدة, ألا وهي عدم مطابقة هذه الذائقة الفرديّة للذائقة الجمعيّة.
رابعاً: إنّ مطالبة الدّولة بالاضطلاع بمسؤولياتها في ممارسة القمع وإجبار فئة من المواطنين على تغيير ذائقتهم الخاصة أو إخفائها إنّما ينتمي لمفهوم (التعذيب الإذلالي) والتعبير مقتبس من عند الأستاذ ياسين الحاج صالح إذ يقول : "نخص بعبارة التعذيب الإذلالي التعذيب الذي يستهدف صنع ذاكرة أو «تلقين درس لا ينسى»(5) " وهنا يجب التأكيد على أنّ ميزة أيّة آيديولوجيا استبداديّة إنّما هي اقتصارها على رؤية ضحيّة واحدة في عمليّة التعذيب, وتتغافل عن اعتبار خسارة الجلّاد لآدميته إنّما يجعله هو الآخر ضحيّة.
وهذا التعذيب الجماعي إنّما هو البارود الذي يتغلغل في صدور أبناء جيل الألفيّة, هؤلاء اليافعين واليافعات الذين يحتكرون التكنولوجيا وفضاءات التواصل المفتوح للتندّر طوال الوقت على جميع أشكال السلطة باعتبارها من مخلّفات الأجيال التي آن لها أن تنقرض (يقصدون جيلكم وجيلنا), في الوقت ذاته الذي نشهد من عند الجيل المذكور ذهناً متّقداً منفتحاً لتقبّل الأفكار والحوار مع كل الأجيال والهيئات, شريطة أن نحترم آدميتهم ونقدّم لهم الأدلة والبراهين حول صواب معروضاتنا القيميّة, وليس قسرهم عليها بمنهج صفعة الأب وأصفاد الشرطي. هذا الأمر سواء أعجبنا أم لم يعجبنا هو واقع يدركه المرء الذي يرتضي لنفسه أن ينزل عن طيب خاطر من فوق برجه الأبوي الذي يكيل من على شرفاته الأوامر ويطلق أحكام الوجوب على هؤلاء الفتية والفتيات.
لذلك فإنّ الدعوات لتجريم المثليّة مثلها مثل أي دعوة تقوم على التجريم استناداً إلى حجّة "هذا ما وجدنا عليه آباءنا" إنّما تجعل الجيل الناشئ ينظر للدولة على أنّها مؤسسة قمعيّة مهمتها ممارسة سلطة أبويّة لا أكثر لا أقلّ, وأنّها -الدّولة- ليست بأيّ حال هيئة اعتباريّة مهمّتها حماية المواطن والعمل على أمنه وصون حرّياته. وهذا ما سيأذن عاجلاً أم آجلاً بانفجار فوضوي في المجتمع البشري ومواجهة مباشرة من أجل المطالبة بسحب الثقة من يد الدّولة, وأعتقد أن ليس من عاقل يرتضي توريث صورة الدّولة لأبنائنا بهذا الشكّل.
وإذا ما خطر في بالك أخي القارئ أنّ الكلام الوارد في هذه الفقرة هو فانتازيا وافتراضات, فيسعدني أن أخبرك بانّ البون شاسع بين ما يريك إيّاه أبناء هذا الجيل وبين ما يتداولون فيما بينهم. ونحن جيلنا وجيلكم المسؤولون أوّلاً وآخراً عن دفع هذا الجيل باتّجاه النّفاق وإبطان العداء للدولة والمجتمع, وذلك من خلال سياساتنا في إرساء مفاهيم الفرض والعقاب والمحاسبة والحجر والحظر والمنع والحرمان وفتل الشوارب وشحذ المديات, بدلاً من إرساء الحوار والتثقيف.
وفي النّهاية شئنا أم أبينا فالثورة التقنيّة جعلت أبناءنا وبناتنا قادرين على الوصول الحرّ المباشر لأي معلومة أو مشهد أو فكرة أو جماعة, سواء عن قصد بضغطة زر, وحتى عن غير قصد بمجرد التصفّح العشوائي لمواقع التّواصل الاجتماعي.
خامساً: المثليّة الجنسيّة ليست فعلاً مخالفاً للطبيعة كما تمّت صملخة آذاننا, لسبب بسيط هو وجود كائن حيّ ومنتوج من منتوجات الطبيعة يقوم بهذه الفعال وتنتابه هذه الرّغائب, هذا الكائن اسمه الإنسان. وحتّى لو تقصّينا هذه الرّغائب عند حيوانات أخرى فلن نكون بحاجة لا لمختبرات ولا لمؤسسات بحثيّة, بل يكفي ان تذهب إلى أي مزرعة تسمين ذكور الأغنام وتراقب الخراف لمدّة خمس دقائق. وهذه الطبيعانيّة للفعل الجنسي "وليس للرغبة" تنطبق حصراً على المثليّة بينما تنتفي عن "البيدوفيليا" و"النيكروفيليا", لأنّ الشرط الأساس لصون كرامة الفرد وأمنه لا يتوفّر من بين كل ما سبق سوى عند المثليّة الجنسيّة, ألا وهو شرط توفّر الإرادة الحرّة للقيام بالفعل الجنسي من عند جميع أطراف العلاقة الجنسيّة.
حتى بالنسبة للبحث العلمي المرموق الذي يدعّي أنّ الأثر الجيني في تشكيل التّوجّهات المثليّة عند الإنسان هو أقلّ من المتوقّع, لم يشر ولا حتى من باب التلميح إلى أنّ نشأة الطفل في مجتمعات محافظة تحرّم وتجرّم المثليّة الجنسيّة يلعب دوراً لا في كبح ولا في تدعيم الميل نحو الجنس نفسه. كل ما في الأمر هو أنّ قناة الجزيرة تصيّدت من خلال صياغة الخبرباللغة العربيّة أن تبرز الأمر وكأنّ العامل المجتمعي المنفتح على المثليّة هو السبب الأوحد في وجود شيء يسمّى المثليّة الجنسيّة من الأساس. والحقّ يقال أنّ قناة الجزيرة وكتّابها مبدعون في تسييس عناوين الأخبار وصياغتها بما يوحي للقارئ العربي بالرسالة التي يريدون إيصالها, وهذا هو دينهم وديدنهم (6).
سادساً: لم ولن تكون مهمّة الدّولة هي "حماية الأخلاق والفضيلة" سوى في الدول ذات الأنظمة الشموليّة سواء الدينيّة منها أو العسكريّة, ذلك أنّ الأخلاق هي لفظة نسبيّة لا تفرض بذاتها من السماء على المواطنين ولا يتمّ اختيارها بين مجموعة أنماط متعددة بناء على نسبة معتنقيها في هذا المجتمع. بل إنّ مهمّة صون الأخلاق تقع على عاتق الفلاسفة والمثقّفين والعلماء في المجتمع, الذين يجب أن يفحصوا المبادئ الأخلاقيّة ويبرهنوا على ضرورتها ويعملوا على إقناع الناس بالبراهين العقليّة والتجريبيّة أنّ صالحهم يكمن في التقيّد بها. أمّا الدّولة فمهمّتها حماية حريّة وأمن الأفراد وفقط. وبغياب هذه الوظيفة للدولة و بدون الاقتصار عليها ستتحول الدّولة إلى مافيا وستعمل على ترسيخ منطق حكم القوي على الضعيف والانتصار للأكثريّة على الفرد, وهذا هو تحديداً مدخل (الاستبداد).
وبمناسبة الحديث عن الأخلاق لا يفوتنا انّ الإنسان عند كانط غايةٌ بذاته، وإنسانيته هي "كرامة". لذا، يلحّ كانط على احترام الإنسان للإنسانية في شخصه وفي الأشخاص الآخرين. ويرفض كانط أخلاق العاطفة، ليستحيل الإحسان إلى الآخرين واجبا مطلقا، أحببناهم أم لا. كما يؤكد كانط المعيار المطلق لأخلاق الواجب، فيقول: "لو كانت سعادة البشرية تتوقف على قتل طفل واحد، فإن قتله عمل غير أخلاقي". (7)
وعليه فإنّ رفع التجريم عن المثليّة وعن الإلحاد وعن جميع الرغائب والميول الفرديّة لا يصبّ في خانة الخصوصيّة الثقافيّة للمجتمعات شأنه شأن الفولوكلور واللغة, بل يتعلّق بترسيخ المبدأ الأساس للأنسنة.

سابعاً: إنّ ذائقة المجتمع الجمعيّة هي نتاج وليست منطلق, إنّها نتاج الوعي الذي يعمل المثقّفون على نشره بين العامّة, وهو ليس أكثر من استجابة لمستندات عمليّة التشريع في المجتمع سواء دينيّة أم قبليّة أم حكوميّة. وعليه فإنّ التذرّع بذائقة المجتمع من أجل الإبقاء على تجريم الآراء والرّغائب كالإلحاد أو المثليّة ولاسيّما في المجتمعات العربيّة لهو عمليّة مقايضة مفضوحة تقوم بها الدّولة من أجل استرضاء الأكثريّة وكسب ودّها وشراء صمتها عن تغوّل الدّولة واستبدادها ونهب خيرات البلاد وسرقة جيوب المواطنين واستعبادهم. ذلك أنّه لا يمكننا الفصل بين التجريم والتحريض, إذ أنّ تجريم الدّولة لفئة ما في المجتمع هو بحدّ ذاته رسالة للشعب باستباحة التضييق على المنتمين إلى هذه الفئة والتبرؤ منهم(8).
وفي المحصّلة من قال بأنّ رفع التجريم يجب أن يوازي القبول الشعبي الواسع؟ خذ دولة مثل بولندا المسيحيّة الكاثوليكيّة التي لن تجد فيها قبولاً واسعاً للمثليّة الجنسيّة بسبب العامل الدّيني, بل إن هناك نوع من الرّفض المجتمعي الواضح الملموس للمثليّة. ولكن حين نتكلّم عن دور الدّولة وموقفها من هذه العلاقات المجتمعيّة فسنجدها -الدّولة- تقف على الحياد من حيث المبدأ ثم تنتقل للفعل واستخدام القوّة في حال تمّت ترجمة هذا الموقف المجتمعي الرّافض إلى أفعال تعدّي على حريّات وأمن المواطن الفرد مهما كانت ذريعة المتعدّي. ذلك أنّ التشريع القانوني في هذه الدّولة يستند إلى شرعة حقوق الإنسان والمواثيق الدّوليّة على الرّغم من أنّه يستأنس بالموقف الدّيني, ولكن الدّولة لا تشتري في عمليّة التشريع صمت الأكثريّة والكنيسة, ولا تقدّم شريحة من المجتمع كأضحية على مذبح رضا الجماهير كما يحدث في بلداننا للأسف.
ثامناً: قد يقول قائل, نحن لا نطالب بتجريم الفعل الجنسي أو العاطفي للمثليّين جنسيّاً, وإنما نطالب بتجريم نشر الدعاية المثليّة ومن بينها المجاهرة وإبراز العاطفة المثليّة للعلن. أي على الطريقة الرّوسيّة التي شرّع فيها الرئيس الرّوسي "فلاديمر بوتين" بموجب صلاحيّاته عام 2013 قانوناً يغرّم ويجرّم أي دعاية للمثليّة الجنسيّة ومن بينها القيام بإظهار الارتباط العاطفي المثلي علناً في الأماكن المفتوحة, وذلك بغاية "صون المفهوم السوي للأسرة عند الأطفال" بحسب تعبير القائمين على هذا التشريع. (9).
وأنا من موقعي كأب وكمربّي أثمّن حرص المثقّفين والمشرّعين حول العالم في أيّ خطوة من شأنها أن تحفظ لأطفالنا الصحّة والسلامة العقليّة, النّفسيّة والجسديّة. ولكن كما قلنا للأسف لا توجد أي دراسة تقوم على أسس علميّة واضحّة تصرّح أنّ النشأة في المجتمعات التي تبيح إظهار الميل الجنسي المثلي هو عامل حاسم في ترسيخ الميول الجنسيّة عند الطفل. كما لا توجد دراسة جنائيّة واحدة تفيد بأنّ نسبة المتحرّشين بالأطفال بين صفوف المثليين هي أعلى من نظيرتها عند الغيريين (الهيتيرو).
لا بل إنّ الملاحظة المباشرة لمجتمع المراهقين في مجتمعات الغرب تفيد بأنّ توجّهات جنسيّة متعددة تنشأ في مرحلة عمريّة بنسب معيّنة, مع العلم بأنّ جميع الفتية والفتيات في هذه المرحلة يعيشون ظروفاً مجتمعيّة متقاربة ويخضعون لتشريعات حكوميّة موحّدة. فلو كان الانفتاح على التعبير الحرّ عن الرغبة الجنسيّة هو الدافع لنشوء المثليّة بحدّ ذاتها لوجب علينا أن نر الأجيال في الغرب أجيالاً مثليّة بمجموعها, أو على الأقل بنسبة أعلى, ولنقل بنسبة معتبرة مقارنة بالغيريين جنسيّاً, وهذا ما تكذّبه الأرقام والإحصائيات والنظرة الخاطفة إلى تركيبة المجتمع بشكل عام. (10)
وأيضاً مع الأسف لا يمكننا إجراء المقارنة مع المجتمعات المحافظة التي تتمتّع فيها الدّولة بسلطة تجريم الرغبة الجنسيّة. ذلك أنّ تجريم حيازة البطاطا قد ينهي من المجتمع ظاهرة أكل البطاطا, ولكنّه لن يعني بأيّة حال أن لا أحد في المجتمع يشتهي أكل البطاطا أو يقوم به خفية.
الخلاصة: المثليّة الجنسيّة ليست خصوصيّة مجتمعيّة ثقافيّة "لايف ستايل" في العالم الغربي, لأنّه وحتى قبل أن نشاهد أي أثر للمثليّة في التراث الغربي رأينا في الشرق تشكّل مجتمعات مثليّة كسدوم وعمورة ومجتمع الخلافة الأمويّة والعبّاسيّة (11). وما الدّعوات لتجريم المثليّة الجنسيّة إلّا دعوة للنفاق الجنسي على طريقة الاستتابة الدينيّة والمطالبة بإبطان الكفر والجهر فقط بما يرضي الخليفة. ذلك أنّه وكما نكرر دائماً, فالشرائع والقوانين تقيّد السلوكيّات لكنها لا تقيّد الرّغائب.
ولأنّ الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نصّ بوجوب التجريم, فإنّه حقّ لنا أن نطلب من المطالبين بالإبقاء على التجريم القانوني للمثليّة الجنسيّة الدلائل التي تجعلنا نحيل ملفّ القضية لوزارة العدل دون أن نجعل من أنفسنا تعسّفيين ومزاجيين بحق بعضنا, ومضطهدين لكل ما لا تستطيب أنفسنا مرآه وسماعه.
إنّ منح الدّولة مثل هذا الدّور (إزالة الظواهر غير المرغوبة) هو المفتاح الأوحد الذي يطلق أعنّة الاستبداد لكل أشكال الاضطهاد اللاحقة. .فالدولة التي ستصادر اليوم حريّة أحد ما لحسابي, هي ذات الدّولة التي ستصادر حرّيتي غداً لحساب آخر وهكذا. وهي في النّهاية ستكون من تلكم الدّول التي ترسّخ مفهوم أن الفرد للجماعة, بينما الجماعة لا تكون إلّا لفردٍ واحدٍ هو القائد الملهم العارف البصير الخبير, وما عداه لا يوجد مفهوم للفرد ولا اعترافاً بحقوقه.
إنني إذ أفرد من الوقت والجهد لنصرة الأقلّيات والمستضعفين بالكلمة, فلأنّ مسلسل صراع الأجيال لا يجب أن أن يستمر إلى ما لا نهاية, حيث أنّ هذه الصراعات الدونكيشوتيّة تستنزفً طاقاتنا البشريّة وتعيق الفاعليّة الخلّاقة عند الأجيال جيلاً بعد جيل, وذلك بسبب الخوف من التعبير عن الذات سواء بالأفعال أم بالأقوال.
وعليه فإنّ المثقّف الذي لا يناصر سوى الفئات التي تتبنّى أفكاره الخاصّة وميوله الذاتيّة وانتماءاته وفقط, إنّما يضع الكلمة في خدمة التسلّط ويتنكّر لكل التضحيات التي قام بها المفكّرون عبر العصور للوصول إلى شكل للدولة التي تقف على نفس المسافة من جميع أفراد المجتمع, وتحفظ وحدة المسافة بين هؤلاء الأفراد.
إنّ التذرّع دائماً بالخصوصيّة الثقافيّة والحس العام والذائقة الجمعيّة لم يعد مقبولاً, لأنّ هذه الذريعة هي التي تم على أساسها اضطهاد أصحاب التّوجهات والأفكار عبر التّاريخ منذ "سقراط" مروراً بـ"جيوردانو برونو" وصولاً إلى " رائف بدوي". وهي الذريعة ذاتها التي تمّ بموجبها اضطهاد المرأة واستعباد الإنسان الإفريقي وتصفية الهندي الأحمر وقامت عليها سياسات الفصل العنصري وكمّ الأفواه وإقامة محاكم التفتيش وتلفيق تهم الهرطقة واستخدام سلاح الدّولة ودماء الشعوب في مجتمعات اضطهاد الأقلّيات ومن ثمّ لاحقاً في مجتمعات اضطهاد الأكثريّة.
وإذا ما تكلّمنا عن الأطفال وحمايتهم, فأنا أفضّل ألف مرّة أن ينشأ ولدي في مجتمع يتمتّع فيه كل فرد بكامل الحقوق والحريّات, على أن يعيش ولدي في ظلّ دولة تقيم محاكم التفتيش لعقائد الناس ورغائبهم من أجل استرضاء فئة معيّنة من المجتمع على حساب بقيّة الفئات. وقد كان لنا في مصر خير مثال, فبعد أن استثمرت الدّولة عقب الانقلاب العسكري في كتابات الملحدين أمثال "شريف جابر" و"أحمد حرقان" في سبيل مواجهة أخونة المجتمع, انقلبت عليهم -على الملحدين- وراحت تسومهم السوء وتضطهدهم من أجل استرضاء المجتمع المصري المتديّن بأغلبيته .
وفي النّهاية سأطرح سؤالاً يحتاج لإجابة متأنّية: إذا كانت الغاية من تجريم الإلحاد والمثليّة هو صون المجتمع وضمان أمنه واستقراره, فلماذا نجد مجتمعاتنا وبلداننا في ذيل القوائم العالميّة من حيث الرّفاه والرّضا, ولماذا نجد شبابنا وشابّاتنا يصطفّون على أبواب سفارات الغرب الكافر المنحلّ أخلاقياً؟ أما يصلح مع الإنسان في الغرب لا يصلح معه في الشرق؟ لماذا؟ هل هذا اعتراف بتفاوت البشر أنطولوجياً؟ إذا كان الجواب نعم, فهذا يعني الاعتراف بمشروعيّة أقصى حالات الفصل العنصري تطرّفاً.
.
روابط خارجيّة:
1- http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=678005
2- http://damascusuniversity.edu.sy/law/FCKBIH/Agreement_3822.pdf
3- https://www.alhurra.com/iraq/2020/05/17
4- http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=678005
5- http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=678407
6- https://www.aljazeera.net/news/healthmedicine/2019/8/31
7- أزمتنا الأخلاقية.. من النسبية إلى القيمة, حسام أبو حامد, 17 مايو 2017 مقال منشور في موقع العربي الجديد
8- https://www.youtube.com/watch?v=jGiCPKL5xkc
9- https://www.bbc.com/news/world-europe-40338637
10- https://de.statista.com/themen/4641/lgbt/
11- المثلية_الجنسية_في_العالم_الإسلامي , مقال منشور على موقع ويكيبيديا العربي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مواجهات واعتقالات بجامعة تكساس أثناء احتجاجات على دعم إسرائي


.. مراسلة العربية: إسرائيل طلبت إطلاق سراح 20 من الأسرى مقابل ه




.. اليونيسف تؤكد ارتفاع عدد القتلى في صفوف الأطفال الأوكرانيين


.. شبح المجاعة يخيم على 282 مليون شخص وغزة في الصدارة.. تقرير ل




.. مندوب الصين بالأمم المتحدة: نحث إسرائيل على فتح جميع المعابر