الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صقيع الغربة

اخلاص موسى فرنسيس
(Eklas Francis)

2020 / 5 / 25
الادب والفن


قصة مختارة من مجموعة "على مرمى قبلة ".

"صقيع الغربة"

في عُمق صقيع الغربة، وجوف الهجرة المتجمّد، ورائحة التهجير المختلطة برائحة الحطب المحروق، وقطعان بشرية منتشرة على طول الأرض وعرضها. ومن على ضفاف البحيرة الخالية إلا من أسراب طيور تحاول أن تصطاد الأسماك؛ يولد الدفء، وتعزف الأنامل الموسيقا، لتنشر الأمان والفرح هناك، وعند منحدرات السهرات الخالية، والبيوت الصامتة، القابعة عند أقدام الجبال الشاهقة، لينشر الأمان والمحبّة من حوله.

كان اليأس يتأبّط ظلّي، والملل يكاد يخنق أطرافي التي تكاد تتجمّد من صقيع سويسرا، وأنا أتنقّل في الحافلات بين بلد وآخر، بين حيّ وآخر، وبين منطقة وأخرى، تطالعني الوجوه الشاحبة، الحزن يعلوها، شفاه لم أرَ منها إلا ما ندر يحمل ابتسامة أو تحيّة، وكأنّ الحياة هجرت أجمل بلد في العالم، الكلّ يتغنّى بسويسرا وبجمال الطبيعة فيها، نعم الطبيعة؛ الجبال، البحيرة، الطيور، الشجر العاري في فصل الشتاء، كلّها يقف بينها والحياة فصل، ولكن هذا الشعب الراكض في عربات المترو، هجر الفرح وجوههم، سود، بيض، عرب، ألمان، لا فرق، الكلّ يحمل ذات الوجه الصامت. أريد الفرح، إنّي أبحث عن الفرح، وكأنّ القدر سمع صوتي، وأرسل لي من خلال صديق دعوة للعشاء عند أسرة كرديّة، لم أكن أعرفها سوى من خلال الفيس بوك، كان من الصعب عليّ أن ألتقي بها لأول مرة، وأنا لا أعرفها شخصيًّا، ولكن بعد الإصرار من الصديق المشترك قُضي الأمر، وحدّدنا موعد اللقاء، وبعد الترقّب الطويل ها نحن نستقلّ القطار إلى المدينة المجاورة، حيث الأسرة الكرديّة التي دعتنا للعشاء. كان قلبي يدوّي كدويّ جرس في صدري، وأنا على المحطّة أردتُ أن أعود أدراجي، أن ألغي دعوة العشاء، لا أعرف ماذا ينتظرني في الغياب، سقطت مني جرأتي، وخانتني إرادتي، وتركت حدسي يقودني، ويغلب الواقع. كلّ شيء حزين حولي، أيمكن أن تختلف الحال مع الأسرة الكرديّة ؟ ألا يمكن أن يكون هذا العشاء امتداداً للوجوه الحزينة الأخرى التي التقيتها في سويسرا؟ يمكن، ولكن ها القطار يمخر عباب المدينة، وأنا على متنه، وفي المحطّة التالية سوف تنقشع غيوم الهواجس، وأقف وجهاً لوجه أمام مُضيفي، لعلّه يكون فرحاً فجائيّاً في هذا البلد الكئيب. كلّ ما عرفت عنه أنّه عازف للموسيقا، ويغنّي أيضاً، وأنا أحبّ الفنّ والغناء، وأنا الضيفة الغريبة.

الترحيب بنا سبقنا، ولكن هل سيحرجني من معي؟ نعم أشعر بالحرج. الدعوة لي وحدي، وها قد أتيت بأربعة أشخاص معي. شعرت بالضيق في آخر محطّة، ولكن الطرف الآخر من يجيب على هاتفي، نبرته تحمل الكثير من الترحيب. توقّف القطار، ترجّلنا، وإذا بي وجهاً لوجهٍ مع عادل. عرفته من الصور؛ أسمر اللون، بشوش، تشعّ عيناه الداكنتان بفرح عجيب. امتدّت يده تصافحني، وكلمات الترحيب تتسارع من بين شفتيه. لقد بدّدت ابتسامته كلّ توتّر وشكّ، عرفت أنّه هنا من بين أنقاض الحزن، هناك من يبني الفرح، وهناك من بين ركام الماضي يأتي الحاضر يحمل معه الأمل. نحن من نحن؟ أنا من أنا؟ أنا أحيا في بلاد الغرب، أحمل الهويّة الفينيقيّة، وها أمامي كردي من بلاد الشام، يحمل في دمه فروسيّة الرجل الشرقيّ بشهامته، وزوجته بخجلها وشفافية وجهها الجميل تستقبلنا، ترتق فينا الشرخ الذي سبّبته الغربة، وتسكب فينا روحاً علويّة، لنجد في هذا المنزل الصغير الرحب بكرمه وطناً يجمع بين مسلم وكرديّ ومسيحيّ. نتماهى في هذا الفصل من العالم، نأكل من الصحن الواحد، نحمل بين ضلوعنا عزف الحياة وأحلام الفرح. الخيبة تبخّرت، والقلق هرب، ولم يبق سوى عزف البزق، وصوت عادل يغنّي، ونغنّي، ويسمعنا الليل. نضحك ملء القلب، ننتقل بين أرجاء المنزل كالفراشات، نمتصّ رحيق كرم الضيافة فيما لذّ وطاب من مأكل ومشرب، ونعود لنتجرّع من الموسيقا بعفوية الأطفال من يد فنّان يسكنه الطفل الكرديّ الآتي من عامودا، يحمل معه العود والبزق وأدوات موسيقية أخرى. هذه الليلة ولِدَ في داخلي حاضر مختلف، في هذا المدى الفسيح رأيتني طفلة في زحام الحياة، تركض خلف أحلامها، تعود إلى ضيعتها، تنام على كتف أمّها، وتتكئ إلى زند أخيها، وتشرب من كفّي والدها.

من وضع الأسوار بين الإنسان وأخيه الإنسان؟ من كتب الحرب علينا؟ من جعل الموت والقتل على الهويّة في ناموسنا؟ من شتّت أبناء البلد الواحد، وأقام الإنسان على أخيه الإنسان، في الوطن العربيّ والذبح على الهوية؟ نحن من خرجنا من بلادنا نحمل في عروقنا الخوف والوجع من الطرف الآخر.

احتكرَنا الكره في بلادنا، وهشَّم أحلامنا. أما هذه الغربة الباردة فقد جمعتنا مرة أخرى حول موقد الفنّ والإنسانيّة. لم أجد في جعبتي كلمات شكر تفي صديقي الوسيط، من جعل الدمع يفرّ من عينيّ، ولا سيما أنّه قد أرسل أيضاً هديّة عربون محبّة وصداقة، أربكني كطفلة أمام أستاذها، تمنّيت أن يقف الزمان، وترتفع الهامات والقلوب، ويصقلنا الزمان، لنبقى في موقد الإنسانيّة هذا.

حاصرتني المشاعر الجيّاشة، كان ذلك مسك الختام لرحلتي التي دامت قرابة الأربعين يومًا، تُوِّجت بمعرفة الإنسانية الحقّة في عادل وزوجته نازنين، والصديق الوسيط الذي يفترش الغربة، ويلتحف الشوق، ويتوسّد القصيدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث