الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لمحة تاريخية عن مدينة القاهرة

محمد عبد الرحمن يونس

2006 / 6 / 21
مواضيع وابحاث سياسية



بعد الفتح العربي لمصر(1)، وضماناً لسيطرة العرب المسلمين عليها، ونظراً لأنّ بُعدها عن أرض الجزيرة العربية يجعل من استردادها، إن هي سقطت، أمراً صعباً، قرّر الفاتحون الاستقرار فيها، وكان عليهم أن يختاروا عاصمة لها، فقد أراد عمرو بن العاص أن يتّخذ من الإسكندرية قاعدة لحكمه نظراً لشهرتها وثرائها، لكن الخليفة عمر بن الخطاب رفض أن يترك قوّاته في مدينة تفصلها مياه الفيضان عن أرض الجزيرة العربية في كل عام(2).
ويروي ياقوت الحمويّ(3)أنّ عمرو بن العاص بعد أن فتح مصر مضى إلى الإسكندرية، وأقام عليها ستّة أشهر حتى فتحها الله عليه، عندها: » كتب إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في سكناها فكتب إليه: لا تنزل بالمسلمين منزلاً يحول بيني وبينهم فيه نهر ولا بحر، فقال عمرو لأصحابه: أين ننزل؟ فقالوا: نرجع أيّها الأمير إلى فسطاطك فنكون على ماء وصحراء، فقال للناس: نرجع إلى موضع الفسطاط، فرجعوا وجعلوا يقولون: نزلت عن يمين الفسطاط وعن شماله، فسميت البقعة بالفسطاط لذلك «. لكنّ المسلمين لم يتّفقوا على اختيار الموقع الفعلي لمدينة الفسطاط، فهل يكون على الضفّة الشرقية أو الغربية؟ فقد رأى الأتقياء في جيش عمرو بن العاص أن يجعلوها على الضفّة الغربية تيمّناً بما يروى عن رسول الله (ص): »أن الجيزة بها روضة من رياض الجنة«، لكن عمرو بن العاص كان عمليّ التفكير، وانطلاقاً من رؤيته العسكريّة فقد فضّل الضفّة الشرقية حتى يكون الخليفة على اتّصال قوي بجيشه، وهكذا وقع الاختيار على الضفّة الشرقية في الأرض المجاورة لحصن بابليون، المهيمن على الطرق المؤدّية إلى الصعيد(4).
وحول موقع مدينة الفسطاط، يروي الطبري(5) قصة ربما تكون حقيقية، وربما تخيّليّة، لكنها في بنيتها العامة تلتقي مع قصص الأٍساطير العربية، التي كانت تجد صدىً واسعاً لدى عامّة الناس في العصر الجاهلي، وحتى في العصور الإسلاميّة اللاحقة له، فعندما عزم عمرو بن العاص السفر إلى الإسكندرية لفتحها، أمر »بفسطاطه أن يُقوَّض فإذا بيمامة قد باضت في أعلاه. فقال: لقد تحرَّمت بجوارنا أقِرّوا الفسطاط حتى تنفُق وتطير فراخها، فأُقِرَّ فسطاطه، ووكّل به من يحفظه «. وعندما رجع عمرو من الإسكندرية بنى المدينة مكان الخيمة التي بنت اليمامة عشّها عليها.
وتشير الدراسات إلى أنّ الفسطاط قد امتدّت »في القرن الثاني الهجري وأنشئت كذلك مدينة »العسكر«، وكان امتدادها نحو الشمال، حيث أنشأ أحمد بن طولون مدينة »القطائع« ، التي انتهت عند ميدان المنشيّة. وهذه هي المدن الثلاث التي أنشأها العرب في مصر قبل إنشاء القاهرة «(6).
أسّس القاهرة القائد جوهر الصقلّي في عام 358هـ/969 م، في عهد الخليفة الفاطمي المعزّ لدين الله(7). وأحاطها بالأسوار والأبواب المحصّنة كباب الفتوح وباب زويلة، وأنشأ فيها شارعاً رئيسيّاً عظيماً سمّي فيما بعد بشارع المعزّ لدين الله الفاطمي، وقد أُنشِئ هذا الشارع بطريقة فنيّة متعرّجة، بحيث يهدف إلى حماية روّاده من أشعة الشمس في صيف القاهرة، وقد كان هذا الشارع المركزي مصبّاً للأسواق الفرعية، والمساجد والحمّامات والخانات والأسبلة والمدارس(8). ويبدو أنّ بناء القاهرة كان نتيجة حتمية لاتساع حاجات الدولة الفاطمية إلى مدينة كبيرة تستوعب الجيوش التي قدمت معها، وتراعي زيادة عدد السكان الجدد، وهو في المحصّلة النهائيّة نتيجة طبيعية أفرزها التطوّر العمراني في المدن الإسلاميّة.
عُرِفت القاهرة في البداية باسم »المنصورية« ، تبرّكاً باسم مدينة »المنصورية« التي »أنشأها خارج القيروان، المنصور بالله والد المعزّ، ولكن الخليفة [المعزّ لدين الله] الذي جاء ليستقر في مصر عام 362هـ/973 م، غيّر اسمها إلى »القاهرة«.«.(9)
وتشير إحدى الدراسات إلى أنّ هنالك مجموعة من الدوافع دفعت القائد جوهر الصقلّي لبناء هذه المدينة، ومنها:
1 ـ الدوافع الجغرافية: قربها من مدينة الفسطاط واتصالها بها.
2 ـ الدوافع الاستراتيجية: كون القاهرة أول مدينة يصل إليها المسافر بعد خروجه من الشام.
3 ـ الدوافع العسكرية: حينما بنى جوهر الصقلّي مدينة القاهرة أراد أن يكون و أصحابه وأجناده في منأى عن العامة.
4 ـ الدوافع الاقتصاديّة: اختيار موقع للمدينة أقرب إلى نهر النيل، بحيث يكون النيل طريق نقل للبضائع والركاب، إذ تصعد فيه المراكب إلى الصعيد، وتنحدر إلى الإسكندرية(10).
إلاّ أنّ هذا الموقع الذي رآه جوهر الصقلّي موقعاً متميّزاً، لم يعجب المعزّ لدين الله لأنه رآه بلا ساحل. عندها نبّه قائده جوهر الصقلّي، قائلاً: »فاتك بناء القاهرة على النيل عند المقسِّ (ميدان المحطّة)، فهلا كنت بنيتها على الجرف…؟ (منطقة الرصد).«.(11) لكنّ الدراسات الجغرافية المعاصرة فيما بعد أثبتت أنّ جوهر الصقلّي »كان موفّقاً في اختيار موقع القاهرة، حيث يضيق عنده مجرى النيل، وحيث تتخلل الجزر المكان الذي تشرف عليه القاهرة، والتي هي أشبه بممرّ طبيعي يسهل للناس الانتقال من ضفّة إلى أخرى ويهون عليهم أمر ذلك كثيراً «.(12)
وإذا كان القائد جوهر الصقلّي قد فاته ما قاله المعزّ لدين الله، انطلاقاً من رؤيته العسكرية لموقع القاهرة الذي ظنّ أنّه يحقق موقعاً مهمّاً لجنوده، وذلك من خلال الميدان الفسيح الذي كانت تُقام فيه حفلات استعراض الجيش والذي يتّسع لعشرة آلاف ما بين فارس وراجل(13)، فإنّ »الخلفاء الفاطميين لم تفتهم النظرة إلى مواطن الجمال في أطراف القاهرة والفسطاط والجيزة، فانتقلوا بها إلى شاطئ النيل وحافتي الخليج، وشبرا حيث كانت الخضرة والماء، فأنشئوا [كذا] المناظر والحدائق وكانوا يقضون فيها أوقاتاً سعيدة «(14).
وقد قُسّمت المدينة لأن تتوزّع فيها الطبقات بحسب موقعها في الهرم السلطوي، بحيث يكون قصر الخليفة بعيداً عن قصور الطبقات الشعبية، وهذا ما يُلاحظ في معظم المدن الإسلاميّة التي شكّلت مدناً مركزية وعواصم للدولة الإسلاميّة، فالشارع المركزي ـ المشار إليه سابقاً ـ كان طوال العصر الفاطمي مقصوراً »على سكن الخليفة ورجاله (…) وقصر السلطان هو مركز القاهرة، ويحيط به قصور الأمراء والقادة، وفي الدائرة الأوسع التجّار والعامة. وعند هوامش القاهرة يعيش المزارعون.«(15). وقد احتلّت مدينة القاهرة مكانة مهمّة بين مدن مصر. ولم تنازعها مكانتها هذه في تاريخ مصر سوى مدينتي طيبة والإسكندرية. والقاهرة أقدم مدينة في العالم باعتبارها وريثة »منف« القديمة.(16)
ومنذ القرن الحادي عشر الميلادي، أشار الشعراء الجوّالة إلى القاهرة باسم بابليون Babilone، وقد انتقلت هذه التسمية للاستعمال العام في أوربا، إلّا أنّ المؤلفين الأكثر اطلاعاً بجغرافية المدن وتاريخها رأوا أنه من الضروري التمييز بين بابليون التوراتية،(17) وبين عاصمة مصر، التي ميّزوا فيها بين مدينتين: هما بابليون التي تحمل اليوم اسم مصر العتيقة، وبين القاهرة الحقيقية التي أسّسها الفاطميون في القرن العاشر الميلادي(18).
وتُعدّ القاهرة من أهم المدن الإسلاميّة التي تمتاز »بثقل ثقافي وحضاريّ وتاريخيّ، حيث تتجمّع فيها مختلف المظاهر العمرانية والتراثية عبر مراحل تاريخها، وذلك منذ تأسيسها عام 969م شمالي الفسطاط « .(19) ويرى أحد علماء الجغرافية العرب أنه لو حُصِرت العواصم المخضرمة العربية في الدنيا، فلعلّ القاهرة هي أهم المدن جميعاً(20). وموقع القاهرة هو موقع فريد في مصر وخارجها، فهو موضع التقاء الدلتا بالصعيد في عقدة الوادي.(21)
ويرى أحد الدّارسين أنّ المميّزات المادية لموقع القاهرة جذب العديد من السكان في حين أن بواعث دينية أخرى أسهمت في جلبهم(22). إذ إنّ الأقاصيص الدينية نسجت هالة قدسية حول هذا الموقع، فقد ساد بين الناس »أنّ الدعوات التي تُؤدّى على جبل المقطّم مجابة، وأنّ الله قد وعد بأن يجعل من السفح [سفح المقطّم] روضة من رياض الجنّة، وأنّ هذا السفح يتمتع بخاصيّة خارقة للطبيعة مباركة، فالجثث التي تُدفن فيها لا تبلى لوقت طويل (…) وقد أُعتقد أنّ من يُدفن في نهاية الطرف الجنوبي يُبعث أيام الأربعاء والخميس والجمعة المقدّسين..« .(23)
من الملاحظ أنّ المصادر القديمة، والتي جاءت بعد تأسيس القاهرة، لم تذكر القاهرة تحديداً، بل ظلّت تطلق عليها اسم الفسطاط تارة ومصر تارة أخرى، فياقوت الحمويّ(24) المتوفَّى 626هـ/1228م، بالرغم من استفاضته بالحديث عن الفسطاط ومصر بكثير من التفاصيل، فإنه لا يذكر القاهرة إلاّ مرّة واحدة قائلاً: »ثم اتّفق في سنة 564 [هـ] نزول الإفرنج على القاهرة فأضرمت النار في مصر لئلا يملكها العدو. « . ويبدو أنّ هذه المصادر ظلّت تعدّ القاهرة هي مصر والفسطاط، حيث يغلب الاسم القديم للبلد الكل (مصر) على الجزء المحدث (القاهرة)(25). وقد ظلّ اسم مصر أو الفسطاط غالباً أيضاً على الاسم الجديد (القاهرة) في حكايات ألف ليلة وليلة.
وتبقى القاهرة في المحصّلة النهائية المدينة الجديدة المتطوّرة التي احتوت، وضمّت إليها بعد التجديد في بنائها، المدن الصغيرة السابقة لها المسمّاة بـ: بابليون Babilone والقطائع والعسكر والفسطاط، والتي يمكن عدّها أحياءً كبيرة مجاورة للقاهرة، وفي ما بعد ذابت ملامحها في القاهرة تماماً، وبقي الملمح الكل الجامع لها ملمح القاهرة المزدهرة عمرانياً وحضاريّاً، المليئة بالمساجد والشوارع، كما يروي ياقوت الحمويّ(26) عن القاضي أبي عبد الله القضاعي، أنّه »كان في مصر من المساجد ستة وثلاثون ألف مسجد وثمانية آلاف شارع مسلوك وألف ومائة وسبعون حمّاماً «.
وفي المصادر التاريخيّة تبدو مصر بلداً مباركاً وطيباً، وعمرانها أبعد العمران عن الخراب، إذ يروي ياقوت الحمويّ(27) عن عبد الرحمن بن عمرو بن العاص أنّه قال عن مصر: »وهي اليوم أطيب الأرضين تراباً وأبعدها خراباً لن تُزال فيها بركة ما دام في الأرض إنسان (…) وقالوا: مثلّت الأرض على صورة طائر، فالبصرة ومصر الجناحان فإذا خربتا خربت الدنيا «.
إنّ القاهرة التاريخيّة سليلة الحضارات القديمة الفرعونية والرومانية هي » مدينة تجمع بين القديم الوسيط والحديث بل إنّها مدينة تجمع التاريخ كله. «(28). وقد تحدّث الرحالة عن هذه المدينة بإعجاب ودهشة، يصلان حد التبجيل، فها هو يعقوب الفيروني J. de Véroné، يأتي من البندقية وعندما يصل إلى القاهرة في آخر أيلول 1335م، يصفها قائلاً(29): »وصلت إلى القاهرة، المدينة التي تحوي الكثير من العجائب التي تستحّق الذكر، لأنها زعيمة كل مصر وفلسطين والأرض المقدّسة، وكل بلاد الآشور حتى أرمينية (…) والهواء فيها عذب وخال من أي شكل من أشكال الوخامة، والسكان أغنياء جداً بفضل تجارة الهند. «. ويصفها رحالة آخر بأنها » بندقية الشرق. «(30). ويبدي أحد الرحالة المعاصرين إعجابه الشديد بها، فيصفها بأنها » المدينة، التي نطق فيها السيد المسيح أول كلماته.«(31). و »هي قطب العالم العربي، خاصة في مجال الثقافة الشعبية.«(32). وهي »الخليّة العامرة بالحياة والتي لا مثيل لها. «(33)، وهي المدينة الآمنة التي توفّر ملاذاً أميناً لّلاجئين إليها منذ أيام الملك هيرود، حتى المجاعة على الساحل الأفريقي، إلى الأيام المعاصرة(34).
وبعد انهيار بغداد العباسيّة وأفول عزّها، وسقوط الخلافة العباسيّة فيها سنة 656هـ/1258م، ستصبح القاهرة مدينة مركزية مزدهرة بالنسبة للدولة الإسلاميّة، مثلها مثل دمشق أيام الخلافة الأمويّة، ومثل بغداد أيام الخلافة العباسيّة. ونظراً للدور الجديد الذي ستلعبه مصر، وللمركزية السياسيّة التي تحتلها في ظلّ دولة المماليك، فإنّ القاهرة ستصبح في ظلّ هذه الدولة: »القلب من الجسم بعد أن تكوّنت للعروبة معالم واضحة فامتدّت حدود هذه الدولة من اليمن جنوباً حتى نهر الفرات وجبال طوروس شمالاً، وعلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط من خليج الإسكندرية حتى بلاد برقة، وعلى ضفاف النيل حتى أعالي النوبة .«(35).
هذه هي بعض ملامح القاهرة عبر التاريخ، كما وصفتها المصادر والمراجع.
انتهى


الهوامش والمراجع
______________________









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نيويورك تايمز: صور غزة أبلغ من الكلمات في إقناع الآخرين بضرو


.. فريق العربية في غزة.. مراسلون أمام الكاميرا.. آباء وأمهات خل




.. تركيا تقرر وقف التجارة بشكل نهائي مع إسرائيل


.. عمدة لندن صادق خان يفوز بولاية ثالثة




.. لماذا أثارت نتائج الانتخابات البريطانية قلق بايدن؟