الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكلام المستعاد: منعطف وتجاوز وصداقات..

حكمت الحاج

2020 / 5 / 27
الادب والفن


كان عمري أحد عشر عاما في مدينة الحلة مركز محافظة بابل تلميذا، عندما اندلعت ثورة الطلاب في باريس عام 1968 لتجتاح بعدها فرنسا ثم أصقاع أخرى من العالم المترامي الأطراف. وكان علي أن أنتظر أحد عشر عاما أخرى لكي أنتمي إلى تلك الثورة روحا وموقفا، خاصة بعد اطلاعي على كتاب د. حسن صعب "ثورة الطلاب في العالم" والذي كان لي بمثابة "الأورغانون" اليومي لحركة وعيي وتفكيري وكتابتي.
ولكن كان علي أن أنتظر أحد عشر عاما أخرى لكي أكون في بغداد شاعرا، وألتقي لؤي حمزة عباس، قصاصا بصريا نادرا، ملامح عبقريته تنضح من إناء كتابته على قلتها وبكوريتها في ذلك الوقت، من خلال لقاء يعبر عنه "وودي ألن" أحسن تعبير عندما يسميه في أحد أفلامه بلقاءات "النوع الثالث".
قيل عن حركة آيار في فرنسا، أيام ما عُرف حينها بثورة الطلاب عام 1968، إنّها "استعادة للكلام".
وتحت هذا العنوان وضعت مخططا لكتابة "الكلام المستعاد": قصائد نثر موجزة غاية في الإيجاز، ليس من باب البلاغة فقد كنت ضدها ولا زلت ربما، بل من باب الشعر كما كنت أراه تلك المرحلة من حياتي. وبدأ التنفيذ قولا وفعلا منذ العام 1991.
الكلام المستعاد، هو الكلام الذي أعاده الإنسان، صاحبه الشرعي، إليه عنوةً. هذه الاستعادة هي حدث. وهي ككل حدث آخر، نقطة تقاطع لعدّة أحداث كلها جائزة، ولكن الفعل الذي يعبّر عن الصدفة يؤلف بين الجوازات.
من تلك الأحداث كان عقد الصداقة الذي جمعني مع لؤي حمزة عباس، ومن تلك الجوازات كانت سفراته المكوكية صعودا نزولا من البصرة إلى بغداد إلى البصرة، وكان مدار ومثار أحاديثنا هو قصصه التي كان يكتبها بعناية صائغ فضة، والتي سيجمعها فيما بعد لتظهر في كتاب، وأيضا "الكلام المستعاد" الذي ستجمع قصائده لتظهر بعد ذلك في كتاب بعد خمس سنوات، في البصرة تحديدا، في نسخ محدودة، بقلم وريشة وتصميم وإخراج لؤي حمزة عباس، وليس غيره.
يقول الفيلسوف "بول ريكور" عن "المنعطف" أنّه حدث مؤسّس، ولكن، هذا الحدث بوصفه كذلك، هو واقعي. إنّما الأساس في الدلالة المعبّر عنه بكلام مبين. فالتأرخة هي إخبار عن الحرية أطلق عليه الإغريق اسم أسطورة بمعنى قصة دالة.
بالنسبة لي كان الكلام المستعاد منعطفا شعريا، لكنه كان منعطفا في التاريخ الشخصي أيضا. بل كان درسا في المحبة وآخر في الجمال، وفي التآزر والانغماس في الصداقة الحقة. أخذ لؤي حمزة عباس على عاتقه تقديم نسخة للطباعة مخطوطة بريشته وصنع لها الغلاف كذلك، واقترح بنفسه الصفحة الأخيرة من الكتاب (كما ستلاحظونه في الصور المرفقة) بوصفه مخطوطا شعريا قديما، لتظهر الطبعة الأولى لهذا الكتاب الشعري بواقع مائة نسخة فقط وعلى النفقة الخاصة، ذهبت كلها إلى الأصدقاء والصديقات محبين ومحبات ومهتمين بالشأن الشعري ومهتمات، وكم كانوا كثرا في بغداد، وكم هم ما زالوا كثرا على عهودهم ماضون.
قلت إن "الكلام المستعاد" علمني درسا في الصداقة الحقة، مِنـّي وإليّ. فقد حظي هذا الكتاب الذي ما هو إلا ما يناهز المائتي قصيدة نثر قصيرة المنزع مكثفة الطول، بطبعات ثلاث، أولاها ما نحن الآن في صدد الحديث عنها وكانت صدرت عام 1996، بالبصرة كما أسلفنا القول، وثانيها كانت في تونس حيث أصدرت مجلة "الحياة الثقافية" الشهرية التي تنشرها وزارة الثقافة التونسية ديوان "الكلام المستعاد" كاملا وذلك ضمن ملف خاص عن قصيدة النثر جاء في العدد 102 الصادر في شباط فبراير 1999، مع إضافة قصيدة جديدة اليه وكانت عن، من، إلى، حول صديقي لؤي دعوني أنقلها هنا كاملة:
(تذكار لؤي حمزة عباس..
.. لقد أخذنا الحياة
في نجوى هناءاتها
على محمل الشعر
فكيف تُرى بعد الهناءات
أخذتنا الحياة؟).
ونظرا لاعتبارات النشر في المجلة فان هذه الطبعة أتت بدون المقدمة الرائعة التي وسمها قلم الشاعر الصديق عبد الزهرة زكي كتقريظ ظهر في الطبعة الأولى، طبعة البصرة، تحت عنوان "قاربُ نجاةٍ آخرَ يَمرُّ..". ولكن عندما ظهرت الطبعة الثالثة للكلام المستعاد وفي لندن هذه المرة عبر منشورات مومنت عام 2016 فقد تم توثيق ثلاثة مداخلات نقدية كمستدرك على الكلام المستعاد في ملف حوى تقديم الشاعر عبد الزهرة زكي الآنف الذكر بعنوان "قاربُ نجاةٍ آخرَ يَمرُّ.."، ومقال بعنوان "حكمة الكلام المستعاد" بقلم صديقي الناقد الراحل محمد درويش علي، ومقال آخر جاء تحت عنوان "الكلام المستعاد بين النظام والفوضى" بقلم صديقي الناقد التونسي الأستاذ الزاهي بلعيد. كما أضيف إلى نصوص الديوان قصائد أخرى مما التحق بالركب وغبار رحلة المنفى والشتات من بغداد إلى الدايسبورا الأوروبية، ولعل من أجدرها ذكرا هذه القصيدة:
(تذكار حكمت الحاج معكوساً من لؤي حمزة عباس..
.. في نهاركَ،
يُشـرقُ
ليلي.".

وفي كل الطبعات الثلاثة للكتاب، كنت معتزا جدا ولا زلت بإهدائي "الكلام المستعاد" إلى أستاذي ومعلمي ورائد قصيدة النثر عند العرب، الشاعر اللبناني الكبير شوقي أبي شقرا، كنت أيامها أحفظ قصائد كتابيه جميعها، "سنجاب يقع من البرج" و "ماء إلى حصان العائلة". ولعل فيّ ما يشي بتلمذتي وتأثري به مع توفيق صايغ وأنسي الحاج وطبعا بأبي الحداثة الشعرية العربية المعلم الأكبر يوسف الخال.
وفي كل الطبعات الثلاثة للكتاب كانت الاقتباسات المتصدرة له هي: مقولة للفيلسوف مارتن هايدغر "الكلام هو خلق الكائن"، ومقولة للإمام علي بن أبي طالب الشهيرة "لولا أن الكلام يستعاد لنفد".
لقد احتار مفسرو القرآن الكريم في معنى الآية العشرين من سورة الحديد "إنما الحياة الدنيا لعب ولهو.."، وكذلك اختلف أئمة المذاهب الإسلامية الخمسة في التأويل، غير انهم اتفقوا جميعا على انه ثمة فرق بين مفهومي "اللعب" و "اللهو"، وحسب علمي المتواضع فإن الإمام الشافعي هو الوحيد من أصحاب المذهب الذي أجاز اللعب بالشطرنج للمسلم في غير أوان الصلوات، بينما جنح الباقون إلى تحريمه لعبا ولهوا على حد السواء.
في ظلام الليل الحالك في تلك الأزمنة العراقية، لم يكن أمامنا سوى "اللعب". لم نكن نلهو، رغم أن الشاعر والمفكر "أدونيس" كان كتب أحد أعظم أبياته الشعرية: "ألهو مع بلادي"، بل كنا نلعب بالكلمات والمفاهيم والاتجاهات والحيوات والخزعبلات. كنا نلعب بحياتنا وكل على طريقته. كان لكي تكون كاتبا حقيقيا عليك أن تكون لاعبا في الخيال ولاعبا في اللغات ولاعبا باللغة والدلالات والمصائر والخيبات والانكسارات، وأخيرا وليس آخرا، لاعبا بالأجناس الأدبية والتصنيفات، كافرا بها، مجددا إياها، متجاوزا أطرها وقوانينها المستحكمة. كنا بالكاد نحيا فما أهمية التنميقات والتصنيفات ولتذهب إلى الجحيم العراقي مشاكل الشكل والمضمون وغيرها من الترهات.
قبل أيامات قليلات، تكلمت مع صديقي لؤي حمزة عباس عبر الهاتف، ودار حديثنا عن استعادة تلك الذكريات القاتمة المؤلمة، ولكن السعيدة المبهجة المبدعة في الوقت عينه. وهنا أفضى لي بالسر الكامن خلف تلك الغلالة العراقية من الإبداع والشجن والألم والمغامرة والمقامرة، قال بالحرف الواحد: لقد كنا نلعب يا صديقي.
اللعب هو الحرية.
والحرية تاريخها يكشف عنها. والتاريخ لسانه يدلّ عليه في المؤسّسات القائمة، ومنها بالدرجة الأولى مؤسّسة الأدب، التي يجب أن نحاربها أبد الآبدين. لا يجب أن نتمأسس داخل الأدب، لا يجب أن نتمأسس داخل الثقافة.
الإنسان ما هو إلا (قصبة تفكر) على حد تعبير بليز باسكال. قصبة تطلق أصواتا، وذلكم هو الكلام، ينبثق عن الإنسان عندما يتعرى لكي يدرك مرحلة الإنقاذ في استعادة ذاته، أي إنسانيته. وقد كان "فرديناند دي سوسير" يردّد باستمرار، هذا القول المفيد: " اللغةُ أداةٌ. الكلامُ حدثٌ".
واليوم، وأنا أرفق ما تيسر من الصور الشارحة، والروابط المؤدية إلى تنزيل نسخة من الكتاب، أسمحوا لي أن أقوم بإحياء هذه الذكرى الأثيرة على قلبي، إذ في مثل هذا اليوم السابع والعشرين من ماي آيار عام 1996 شهر الانتفاضة الطلابية العالمية، تم نشر كتابي "الكلام المستعاد" في طبعة أولى منفذا بريشة صديقي الكاتب الروائي الشاعر في سرده والفنان في رؤيته الحبيب القريب لؤي حمزة عباس، فإليه أرفع أسمى آيات العرفان، وإلى كل من ساهم في ظهور "الكلام المستعاد" في طبعاته الثلاث، عبر قارات ثلاث.
https://docdro.id/c7Mh38n








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح


.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار




.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض