الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
التفكير بجائحة كورونا … ك-مفترق طريق-: نحو الإطاحة بالرأسمالية وبناء الاشتراكية
مسعد عربيد
2020 / 5 / 28ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
لا نجانب الحقيقة إذا قلنا إن لوباء كورونا جانباً آخر عدا المرض والموت والعزلة والفتك بالاقتصاد والمجتمعات والإنسانية. فرغم فداحة التضحيات والخسائر التي مُنيا بها، شكّل هذا الوباء فرصة لالتقاط الأنفاس والتفكير في أزماتنا وأسبابها وغيرها من الأمور التي أغفلناها في حمأة انشغالاتنا.
والحقيقة أن هذا الفيروس لم يكن فرصتنا الأولى للتفكير، فقد توفرت مثل هذه الفرص من قبل، ولكن الكثيرين لم يصغوا إلى نداءات الإستغاثة لنجدة الإنسان والطبيعة والبيئة. كثيرون هم الذين أغلقوا عيونهم عن وباء فتك بالبشرية وتسبب بالكثير من المآسي والكوارث. كلنا نعرفه ونعيشه وقد أطلقنا عليه أسماءً ونعوتاً جميلة، الاّ اسمه الحقيقي: وباء الرأسمالية.
□□□
لقد عشنا لأمدٍ طويل في توهمٍ مفرط بقدراتنا الذاتية، وساورنا التفاؤل بالسيطرة على الطبيعة والقدرة على التحكم بكل شيء، حتى بلغ بنا الوهم بأنه بمقدورنا التغلب على الموت. ومع أننا في حقيقة الأمر عجزنا دوماً وفي كل حالة من التغلب عليه، إلا أننا ما زلنا نعيش هذا الوهم ونزعم العكس، ولم ندرك أن كل شيء في حياتنا عابر، يمر ويشيخ وينكسر.
لقد ذهبنا بعيداً في الاستهلاك، استهلاك كل ما تقع عليه أيدينا. وحَسِبْنا أننا نمتلك كل شيء، حتى أننا لم نعد نمتلك الأشياء، بل أصبحت هي التي تملكنا.
لقد اخترنا، بوعي أو بدونه لا فرق، غض الطرف عن حكمة تراكمت عبر آلاف السنين من تطور الحضارت التي توالت علينا في شتى بقاع الأرض وعلمتنا أن نحرص على العيش في تناغم كوني يحافظ على التوازن السليم في الحياة: العلاقات بين الناس، بعضها ببعض وعلاقة كل منا بالمجتمع، من جهة، وعلاقة الإنسان بالطبيعة، من جهة أخرى. بعبارة أخرى أن نعيش في تناغم مع الطبيعة والانسجام مع ما فيها من كائنات حية وموارد وثروات، ما يعني أن نعمل وننمو سويةً، ونسمح للأشياء في الوجود والطبيعة بالعيش والنمو المشترك.
ولكننا آثرنا الرغبة المتوحشة في السيطرة على الطبيعة، دون أن ندرك ان الطبيعة وشركاءنا فيها لا تخضع إلاّ لمن يحترمها ويتناغم معها ويدرك قوانينها. أما في العلاقات الاجتماعية والإنسانية، فقد غادرنا العيش المشترك مع أخينا الإنسان على أسس أخلاقية إنسانية جامعة قوامها فعل الخير، والوفاء للآخرين وفهمهم والتعاطف معهم والشعور بالمسؤولية تجاههم وتجاه المجتمع والإنسانية وغيرها من فضائل الكرم والإيثار والصدق في العلاقات بين الناس. وهي صفات تكاد تكون غائبة في المجتمعات الاستهلاكية والأنانية والعنصرية.
هذا بعض من أوهام كثيرة عشناها لردحٍ طويل، ولكنها قاربت على نهايتها وأخذت تلفظ أنفاسها الأخيرة.
عِبَر الأوبئة السابقة
بعيداً عن الحقائق الطبية البحتة، تفيدنا دراسة الأوبئة وخبرات المجتمعات البشرية في طرق مواجتها، في فهم الإشكاليات والتحديات التي نعيشها اليوم.
ولعل أولى هذه العبر أن الأوبئة التي فتكت بالبشرية في الأزمنة الفائتة لم تأتِ على نحو مفاجئ، بل سبقها العديد من التنبيهات والتحذيرات. وهذا ما حصل فعلاً في جائحة كورونا الراهنة حيث كانت هناك وفرة من التقارير والمعطيات الطبية والصحية والاستخبارية التي حذرتنا من قدوم الوباء، بل كان بعضها دقيقاً في تحديد توقيت حدوثه.
أما الدرس الثاني والهام في هذا الصدد، فهو أن المجتمعات البشرية تتفاوت في قابليتها للعدوى وتفشيها بين سكانها، ولكنها تختلف أيضاً في قدرتها على مواجهة المرض وأساليب مقاومته. وغني عن القول بأن هذا كله يتأثر بالخصوصيات الحضارية والثقافية للشعوب ومقدار التزامها بإرشادات وتعليمات السلطات الصحية في بلادها. وهنا تحديداً تكمن أهمية دراسة هذه المجتمعات، لا من ناحية أوضاعها الصحية وحسب، بل من حيث التركيبة الاجتماعية - الاقتصادية والنظام السياسي لما لذلك من أهمية في دراسة وفهم العوامل الأخرى، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، مستوى المعيشة، مستوى الوعي الصحي أو تخلفه، سياسات الحكومة في إدارة شؤون الصحة العامة والأمراض المعدية، وقدرة نظام الرعاية الصحية على توفير الخدمات لكافة مواطنيه.
وبما لا يقل أهمية، ينبغي دراسة النظام السياسي وطبيعة الطبقة المهيمنة (الحاكمة) ومصالحها الاقتصادية والطبقية والسياسية وأولوياتها في صناعة القرار والسياسات العامة. لقد اصبح من المعروف أن غياب الإرادة السياسية لدى حكومة الولايات المتحدة ومصالح الطبقة الحاكمة، على سبيل المثال، كانا من الأسباب الرئيسية لتلكؤها وفشلها في مواجهة وباء كورونا والتأخر في توفير الفحوصات البسيطة للمصابين به، ناهيك عن نظام الرعاية الصحية الضعيف والعاجز عن توفير احتياجات المواطنين، رغم التقدم الكبير في العلوم والتكنولوجيا الطبية التي لا يتوقف الأميركيون عن التبجح بها.
وبمقاربة أنثروبولوجية، أنظر على سبيل المثال، امتثال شعبي الصين وإيطاليا لتعليمات وإرشادات السلطات الصحية، ما ساهم بالسيطرة ولو الجزئية على الوباء رغم شدة فتكه بهذين البلدين. ثم قارن سلوك هذين الشعبين بما حصل في الولايات المتحدة، التي لا تخضع لسلطة صحية مركزية بل لسلطات وإرشادات تختلف من ولاية إلى أخرى، وحيث خرجت الجماهير في تظاهرات بالآلاف مطالبة بإلغاء تعليمات السلطات الصحية والتحريض ضد حكام بعض الولايات الأميركية، والمطالبة بفتح الشواطئ كي يعود الناس إلى السباحة وغيرها. وإن دلت هذه العقلية على شيء فإنها تدل على اختلاف الثقافة الشعبية السائدة في المجتمع الأميركي وتدني الوعي الصحي، ناهيك عن التوظيف السياسي لهذه الممارسات في الانتخابات الرئاسية القادمة في نوفمبر 2020، وتصدير الفشل والأزمة الداخلية إلى الخارج (والذي تمثل في لوم الصين وتحميلها مسؤولة نشوء العدوى وانتشارها، إضافة الى محاربة منظمة الصحة العالمية) وغيرها من السياسات التي تبدو للوهلة الأولى غبية وتافهة، ولكنها بدون شك مدروسة ومبرمجة لخدمة أغراض سياسية على المستويين الداخلي والخارجي.
مَنْ المسؤول؟
لن ندخل هنا في جدل النظريات التي تلقي مسؤولية الوباء على هذه الدولة أو تلك. أما سؤال ظهور الوباء وتفشيه وطرق مواجهته، فجوابه عند العلماء وأصحاب التخصص في العلوم الطبية والبيولوجية وبما لا يقل أهمية العلوم الاجتماعية . فهذا الوباء وغيره من الأوبئة التي سبقته ظاهرة بيولوجية طبيعية نترك للعلم تقديم فهم وتفسير لها بالوسائل العلمية.
غير أن الظواهر الطبيعية والبيولوجية ليست، ولم تكن يوماً، بمعزل عن أفعال الإنسان وتعاملة مع البيئة. وكذلك مواجهة الوباء وطرق التصدي له ليست هي الأخرى بمعزل عن أفعال الإنسان وطبيعة التشكيلة الاجتماعية - الاقتصادية للمجتمعات البشرية، بل إن تاريخ الأوبئة يعلمنا إن كلا الأمرين يكتملان في سياق اجتماعي - اقتصادي معين. وما أقصده بالأمرين هما: (1) ظهور الأوبئة وتفشيها كظاهرة بيولوجية، و(2) مواجهة البشرية لهذه الأوبئة وطرق التصدي لها. وهذا السياق هو ما يفسر الفوارق في طرق معالجة الوباء من دولة إلى أخرى ومن بنية اجتماعية معينة إلى أخرى.
من هنا يضحى من واجب العلماء أن يدرسوا ويبحثوا في العوامل الاجتماعية - الاقتصادية التي تؤثر في تطور الفيروسات وغيرها من الميكروبات وانتشارها في الطبيعة وتسببها في أمراض تصيب الحيوان والنبات والإنسان. ومن أهم هذه العوامل هي التغيرات الاجتماعية - الاقتصادية والبيئية والعلاقة بين الإنسان والبيئة والكائنات الحية الأخرى من حيوان ونبات واستهلاكها كأغذية، وهجرة الملايين من الفلاحين إلى المدن المزدحمة للعمل في المدن والمناطق الصناعية الكبيرة (ما يُسمى megacities)، حركة الملايين من الناس في ظل هذا النظام الاقتصادي والتجاري المعولَم ، وهن وفشل أنظمة الرعاية الصحية في البلدان الفقيرة، الفقر والجوع، فرض العقوبات الإمبريالية على الدول وتأثير ذلك على مواجهة الوباء وتوفير الرعاية الصحية ومستلزماتها لمواطنيها مثل العقوبات المفروضة على إيران وفنزويلا وكوبا وغيرها من بلدان العالم الثالث.
مدعاة هذا الطرح هو ما تصر عليه الإمبريالية الأميركية وتوابعها الأوروبية من اتهام الصين الشعبية كمسبب ومصدر لوباء كورونا والتهديد بمحاكمتها وتحميلها مسؤولية ظهور الوباء وانتشاره وكلفتة البشرية والاقتصادية. وهو ما لا ينبغي أن يذر التراب في عيوننا كونه جزءًا من الحرب ضد الصين ومحاولة تبرير فشل النظام الراسمالي في معالجة الوباء وعجز انظمة الرعاية الصحية في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. فبالرغم من امتلاك هذه الأخيرة لتقنيات متقدمة لا يصل إليها سوى الأثرياء، لم تتمكن حين حلّ الوباء بشعوبها من توفير الاحتياجات الأساسية والبسيطة مثل الأقنعة وإجراء فحوصات العدوى بالفيروس للملايين من سكانه التي ما زالت تعاني شح هذه الاحتياجات حتى بعد مرور عدة أشهر على تفشي وباء كورونا.
غير أن تصدير أزمة الوباء والفشل في مواجهته إلى الخارج كاتهام الصين وتحميلها مسؤولية هذه العدوى ليس سوى:
- استثماراً في السياسة والاقتصاد للحفاظ على مصالح الطبقات الحاكمة؛
- وتبريراً لفشل النظام الرأسمالي- الإمبريالي في مواجهة الوباء وحماية مواطنيه وتأمين الرعاية الصحية لهم؛
- فرش الأرضية وتهيئة الذريعة لمواجهات عدوانية (وربما حروب) قادمة ضد كل مَن يقف في مواجهة الهيمنة الرأسمالية - الإمبريالية من دول وقوى وتحالفات أو تكتلات إقليمية أو دولية.
- وعلى المستوى الأميركي الداخلي، تبييض صفحة الإدارة الأميركية ورئيسها المرشح لانتخابات رئاسية ثانية في نوفمبر 2020، مسؤوليتها عن الأوضاع الصحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية داخل البلاد، والآثار المدمرة التي جاءت نتيجة وباء كورونا وفشل الحكومة في مواجهته؛
- تصدير أزمة النظام الداخلية إلى الخارج، على نحو ما شاهدناه مراراً في سياسات الدول خلال عقود القرن العشرين وحروبه المتعددة، وافتعال حروب خارجية قد لا تتوقف عند مجرد اتهامات لفظية وعقوبات تجارية واقتصادية ومنافسة على الأسواق والأرباح وغيرها. ومَنْ يدري متى تنفلت الأمور في هذه الجبهة أو تلك وتنزلق المواجهة إلى أشكالٍ عسكرية أو استخبارية وغيرها على غرار ما حدث في بعض الحروب والمواجهات العسكرية سابقاً.
تعرية الوباء أم تعرية النظام؟
هل يعيد وباء كورونا الى التفكير بالإنسان والحياة والمجتمع والبيئة؟
هذا هو السؤال المركزي وهو في الآن ذاته سؤال المرحلة الملح. ولكن الإجابة عليه لا تتسنى دون العودة إلى الأسباب الجذرية، ودون الإجابة على سؤال آخر: أين مكمن الخلل: في الوباء أم في النظام المهيمن؟
ينتاب المرء شيءٌ من التردد والشعور بالحاجة إلى التوضيح عند الحديث عن تعرية النظام. فالنظام لم يخفِ حقيقته ولم يكذب علينا. نعم، لا شك أنه عمل على خداعنا وتشويه وعينا وتلميع صورته من خلال شعاراته الكاذبة والخادعة في الحرية والديمقراطية والمساواة والدفاع عن حقوق الإنسان، والرأفة بالبيئة والعطف على الفقراء وغيرها. وقد طوّر لتحقيق ذاك آليات ووسائل فعّالة: إيديولوجية وفكرية وإعلامية وسياسية وما شابه.
ولكن بالمقابل، مَن منا بوسعه القول إن واقع هذا النظام وممارسته الفعليه وسياساته حيال شعوبه وشعوب العالم، ومسلسل الكوارث والمآسي التي تسبب بها في الاقتصاد والبيئة والمجتمع والإنسانية، مَن منّا يستطيع القول بأن هذه الأمور لم تكن واضحة وضوح الشمس؟
نعم، لقد غيّر وباء كورونا الكثير من الأمور والأشياء في حياتنا وفي العالم، وأدّى إلى شل جوانب عديدة من حياتنا ونشاطاتنا. ولا شك أنه سوف يغيّر المزيد. ولكن هل تقع المسؤولية على الوباء لوحده، وهل تسبب هو لوحده بكل هذا الموت والمآسي والمعاناة؟
الحقيقة أن هذا النظام، الرأسمالي - الإمبريالي، الذي هيمن على كافة جوانب حياتنا، كان قد أهلكنا قبل وصول الوباء فأصبحنا هشين وعاجزين عن التصدي له والحد من عواقب فتكه. لقد كشف هذا الوباء العالمي افتقارنا للمقومات الأساسية في الأمن الاجتماعي والاقتصادي والصحي والغذائي وتسبب في اهتزاز الأمن الإنتاجي واستمرار العملية الإنتاجية وتوفير السلع الحيوية والاحتياجات الإنسانية الأساسية.
لقد أصبح واضحاً بعد أشهرٍ من تفشي وباء كورونا أن هذا النظام قد فشل في مواجهة فتكه بشعوبه وشعوب العالم، كما اتضح تلكؤ النظام المتعمد، خاصة في الولايات المتحدة على سبيل المثال لا الحصر، في التصدي له على نحو فعّال، وأن عواقب هذا التلكؤ والفشل ستعيق قدرة البشرية على مواجهة الوباء.
بالإضافة إلى تعرية النظام وآليات عمله، كشفت كورونا عن جوهر طبيعته التي تتجلى بعنصرية وأنانية وفردانية واستهلاكية المجتمعات الرأسمالية الغربية وعدم مبالاتها بالآخر وبالإنسانية، فقد شهدنا، خصوصاً في الولايات المتحدة، تصاعداً في الكراهية حيال الآخر، الصيني هذه المرة، وارتفاعاً في عدد جرائم الكراهية ضد ما يسموهم "آسيون" (من الأصول الآسيوية)، وتسمية فيروس كورونا ب"الفيروس الصيني".
ولا بد من التوقف هنا عند مفارقة لافتة، وهي أن بلدان المركز الرأسمالي بنت ازدهار مجتمعاتها ورفاهيتها على التراكم الرأسمالي من ثروات وخيرات بلدان الجنوب واستغلال شعوبها وفقراء عمالها وفلاحيها والهيمنة على اقتصاداتها واحتجاز تنميتها وتفكيك اقتصادها بهدف إلحاقها واستمرار تبعينها لهذا المركز.
بعد هذا كله، نكرر تساءلنا، هل يقف الوباء خلف هذه الآفات الاجتماعية أم أنها سبقته وهي جزء من بنية وطبيعة النظام الرأسمالي- الإمبريالي؟ والأخطر أن هذه الآفات ستستمر، سواء اشتد تفشي هذا الوباء أم لا.
عالم كورونا بين رؤيتين
□ نعم، العالم يتغير وكلُ ما حولنا يتغير ايضاً، وربما على نحو أسرع مما بوسعنا أن نفهم أو نستوعب وأبعد مما تراه العين. يجدر بنا في مثل هذا الزمن، زمن الأزمات، أن نذهب إلى ما أبعد من أمزجتنا ومخاوفنا وإلى ما جوهري.
لا ينبغي لأحد أن يظن بأن عالم "ما قبل كورونا" سوف يختفي بسرعة خاطفة أو أنه ولّى بلا رجعة. فالنظام القائم لم يدم كل هذه القرون الطويلة إلاّ بسبب توفر مقومات وسطوة طبقة/طبقات مهيمنة ذات قوة وإمكانيات هائلة تحمي مصالحها وأرباحها.
سوف تأخذ تفاعلات هذا الوباء، كغيرها من الأحداث والكوارث الكبيرة في التاريخ البشري، وقتاً لتتبدى وتتضح ملامح المستقبل والأمل بغدٍ أفضل.
فعبر الأزمنة لم تتشكل الحضارات والثقافات الإنسانية أو تتغير من خلال طفرات سريعة، بل تشير معرفتنا بالتاريخ، إلى أن هذه التغيرات تأتي نتيجةَ تحولات متتالية لنشاطات الإنسان. بعبارة أخرى، ليس صحيحاً أن التطورات الكبيرة في التاريخ والحضارات والمجتمعات تحدث على نحو خاطف أو خلال حقبات تاريخية وجيزة. فلا يقوم نظام اجتماعي - اقتصادي جديد إلاّ على انقاض نظام آخر كان قد انقرض، وهكذا تنتقل الإنسانية من حقبة إلى أخرى أكثر رقياً وتقدماً ويسير التاريخ باضطراد نحو الأمام. فعلى سبيل المثال، كُتب الكثير في الآثار التي خلّفها وباء الطاعون أو الموت الأسود الذي اجتاح أوروبا بين عامي 1347-1353 ودامت آثاره عقوداً طويلة. ويرى المؤرخون أن الأزمة التاريخية التي حلّت بالبدان الأوروبية والتي انبثقت من ذلك الوباء وكوارثه على المجتمع آنذاك ساهمت في انهيار النظام الإقطاعي، وأدت إلى نشأة الرأسمالية في رحم هذه التغيرات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة.
□ من هنا تبرز ضرورة التفكير بموضوعية هادئة في البحث الرؤية والفعل السياسيين، بعيداً عن ردود الفعل العاطفية وشتى مشاعر الهلع والذعر والحزن والخوف والاكتئاب والغضب.
ما الذي سيخرج من جائحة كورونا، وهل ينذر هذا الوباء بتغيرات مصيرية في حياة الإنسان ومستقبل الإنسانية؟
الإجابة على هذا السؤال ستفضي إلى بداية التفكير والانطلاق نحو فكرة جديدة والتطلع إلى عالم جديد ومختلف ينتفي فيه الظلم والاستغلال وتتحقق المساواة والعدالة الحقيقيتين بين الناس. أليس هذا هو المسعى الأساسي والغاية القصوى للإنسان وفعله الاجتماعي والسياسي؟
□□□
لا شك أن هناك العديد من وجهات النظر التي تحاول تفسير ما حصل واستشراف ما هو آتٍ. ولكن لو انتبهنا جيداً إلى ما حولنا، فسوف نجد أن رؤيتين أو لنقل وجهتي نظر تتجاذبان الوعي البشري في هذه الآونة.
الأولى، تنحو إلى الاعتقاد بإننا، رغم كارثة فيروس كورونا، سنعود إلى الأوضاع السابقة التي عشناها قبل الوباء. لنسميها "عالم ما قبل كورونا". وسوف تنهض القلة التي طالما هيمنت على الاقتصاد والسياسة والمجتمع في هذا العالم، لتجدد بثقة سعيها وتوحشها نحو الربح بصرف النظر عن الخسائر البشرية والبيئية التي منينا بها.
بناءً عليه، سيعود النظام الرأسمالي - الإمبريالي إلى منواله: الربح أولاً ثم الإنسان وصحته أو غذاؤه أو أمنه. فآليات عمل هذا النظام لم تتغير ولا تزال تستند إلى:
1) الاستغلال الوحشي والمستمر للطبقات الشعبية من عمال وفلاحي وفقراء في المجتمعات الرأسمالية وبلدان الجنوب، التي توسع إليها هذا النظام وهيمن على العملية الإنتاجية فيها واقتصاداتها وسياساتها؛
2) وإلى قدراته العسكرية والتكنولوجية والاسترايجية الهائلة.
أما الرؤية الثانية، فترى أن الوباء قد أحدث تحولات عميقة في الاقتصاد والسياسة والمجتمع، وأن الإنسانية لن تعود ثانية إلى عالم "ما قبل كورونا". ويرى أصحاب هذه الرؤية أن هذه التحولات كفيلة بأن تأخذنا إلى غدٍ أفضل وعالمٍ يلتفت أكثر من سابقه إلى الاحتياجات الإنسانية الأساسية، ومن بينها مطالب عادلة آن أوانها منذ زمن: الحريات والمساواة الحقيقية بين الناس، القضاء على الاستغلال، وتحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير الرعاية الصحية والتعليم والعناية بالمسنين وتأمين الأجور العادلة للعمال واستقرار عملهم ودخلهم، إضافة إلى المزيد من اهتمام بالأمن الغذائي والإنتاج الغذائي المحلي، والتنمية المحلية للإنتاج، وتخفيض الاستهلاك وتقليص التبذير.
ويذهب بعضهم إلى أن الطبيعة والبيئة ستحظيان بمعاملة مختلفة تقوم على التوازن الطبيعي بين احتياجات الناس واستهلاكهم من جهة، وبين الموارد المتوفرة لنا، من جهة أخرى، وبمزيد من العناية والحرص من خلال الحد من الدمار الذي حلّ بهما جرّاء الجشع الرأسمالي المعولَم وسعيه المحموم إلى الربح غير المحدود والاستغلال البشع لبيئتنا ومواردها الطبيعية.
قراءة في المشهد الراهن
لا ينبغي أن يساورنا أي شكٍ بأن المركز الرأسمالي - الإمبريالي (وأدواته الاقتصادية والسياسية، وعلى وجه الخصوص الأيديولوجية والثقافية والإعلامية)، سوف يتوانى عن الرد السريع والحاسم على تداعيات وباء كورونا، ظنّاً منا بأنه ضعيف ويعاني من أزمة (أزمات) بنيوية.
أن يقف النظام مكتوف الأيدي أمام تدهور أوضاعه وتهديد مصالحه، فهذا وهم لا يسنده أي دليل لا في طبيعة الرأسمالية ولا في سياساتها.
على العكس تماماً، يجب الأخذ بالحسبان أن هذا النظام قد أخذ يعد العدة ويجرى الأبحاث ويرسم المخططات لمواجهة مرحلة ما بعد كورونا. فرأس المال لا ينام ولا ينتظر، بل يسعى دوماً إلى الإمسك بزمام المبادرة والقرار ليكون السبّاق في حماية مصالحة وضمان استمرارها وتدفق الأرباح.
هذا ما تشي به قراءة تجارب العقود الأخيرة، على الأقل من منظور سياسات الحكومات والأنظمة الرأسمالية المعولمة، ما لا يوحي بعدولها عن سياساتها السابقة، أو بأي تغيير جذري فيها. فالنظام الرأسمالي - الإمبريالي لن يتوقف، مهما كان الثمن، عن محاولته الشرسة للعودة إلى عالم ما قبل كورونا. وهذا يعني، مما يعني، أن مسحة التعاطف التي عشناها في الأشهر الأخيرة مع تفشي وباء كورونا، ويقظة الضمير الإنساني للتضامن بين الناس والشعوب، لا تعدو كونها صحوة ضمير عابرة لن تدوم طويلاً ولن تصمد أمام اندفاع الرأسمالية المعوَلمة والهرولة من جديد نحو جني الأرباح. بل هناك ما يشير إلى أن رأس المال سيعود، ربما بمعدلٍ أسرع، لتعويض الخسائر والأضرار التي مُنيت بها طبقاته وشركاته ومؤسساته جرّاء الوباء.
كما تشي هذه التجارب إلى عودة مماثلة إلى استغلال البيئة ومواردها الطبيعية على نحو لا يختلف عما كان عليه الحال في عالم ما قبل كورونا.
هذه التوقعات، على أهميتها، لا ينبغي الاستخفاف بها ولا إدراجها ضمن النظرة المتشائمة، فهي تستند إلى تجارب تاريخية وفيرة لكوارث طبيعية وبيولوجية جسيمة حلّت بالبشرية. ولكنها، في الآن ذاته، لا تنفي حدوث تغيرات وتحولات عميقة سيطلب اختمارها وقتاً وظروفاً ملائمة.
فأن نُدرك ونُقرّ بأن النظام القائم سيكشر عن أنيابه، فهذا هو العادي والمتوقع، لأنه يخوض معركة الحياة أو الموت، ولكن هذا لا يعني أنه المنتصر الأزلي وأنه قَدَرنا وعلينا الانصياع له والقبول بشروطه المذلة. فالتاريخ والمستقبل محكوم بمنطق الصراع وقوانينه. وما لا يرقى إليه الشك هو أن وباء كورونا قد أثبت بأن التحولات - في مستويات عدة في المجتمع والصحة العامة والاقتصاد وسياسيات الدول الداخلية والخارجية - هي تحولات ممكنة، وقد رأينا أن بعضها قد حصل فعلاً بسرعة كبيرة خلال الأشهر القصيرة الماضية. كما أثبت هذا الوباء بأن غداً أفضل ممكن في ظل نظام اقتصادي - اجتماعي مغاير إذا عملنا على اقتناص هذه الفرصة التاريخية، وإذا انتقلنا من حيز التنظير إلى ساحة الفعل السياسي الثوري لإنجاز مطالب ومصالح الطبقات الشعبية. فهذه الفرصة تغذي الأمل بأن الإنسانية تقف على مشارف مرحلة جديدة من التحوّلات، ولكن شرط فهم طبيعتها (المرحلة) وتحديد سماتها والثبات في محاربة الرأسمالية بدون هوادة.
ملاحظات حول نهج تفكيرنا وفعلنا السياسي
كثيرة هي العوامل والمؤثرات التي وسمت وساهمت في صياغة طريقة تفكيرنا ووعينا في العمل السياسي والحزبي، نقتصر هنا على مناقشة بعضها.
□ مقولة تاتشر: يتسم عصرنا بتجليات الرأسمالية المعولَمة والملكية الخاصة والسوق الحرة في ظل السياسات النيوليبرالية وما أفرزته من شعارات وأوهام كاذبة، ليست في جوهرها سوى هرولة نحو الربح مهما اقتضى الأمر من توحش وعنف أعمى ومهما كانت كلفته على حياة الإنسان وصحته وبقائه.
منذ ثمانينيات القرن الماضي، وخاصة في مرحلة ما بعد الانهيار السوفييتي، يعيش جيلنا في ظل مقولة تاتشر بأن لا بديل آخر ولا خيار آخر. والأدق أن نقول أن لا خيار سوى الرأسمالية المعولَمة والنيوليبرالية.
هذه هي المقولة التي سادت العقود الأخيرة. وعلى ما فيها من كذبٍ وخداع، ما زلنا نتجادل فيها، وما زالت تشغل مساحة كبيرة في النشاط الفكري والسياسي للقوى الاشتراكية والشيوعية واليسارية المناهضة للرأسمالية. غير أن الحقيقة الواضحة هي أن لا فائدة ترتجى من مجادلة هذه الفكرة. فرأس المال ليس معنياً بالجدل أو الاعتبارات الفلسفية والأخلاقية، ولا يهمه إذا كنا نتفق معه أو نخالفه الرأي. ما يهمه هو أمر واحد: أن نقتنع بالممارسة وليس بالضرورة بالنظرية، وبالفعل وليس بالضرورة بالقول، أنه هو وحده خيار الإنسانية ولا بديل له. وبعد ذلك، لنا أن نقول ما نشاء وأن ننظّر إلى يوم يبعثون.
نعلم اليوم بالدليل الملوس أن الرأسمالية لم تجلب للإنسانية سوى الدمار والفقر والجوع وكافة ألوان الاستغلال، وكلنا يعرف أنها (الرأسمالية) ليست خيارنا، وأن العالم الذي نعيشه ليس لنا ولا يمكن أن يكون درب المستقبل.
نعيش اليوم في "عالم ترامب"، نقصد ترامب مجازاً ولا نقصد الإمبريالية الأميركية وحدَها، فهناك عوالم مشابهة ومتعددة في فرنسا وهنجاريا والبرازيل والهند والفليبين وبولاندا وتركيا وغيرها، عالم تستأثر فيه مقولة تاتشر مع فارق في أشكال التعبير، وتسوده الفاشية والعنصرية والذكورية وكراهية المرأة ومعاداة الآخر. لقد اختلفت أشكال التعبير واتخذت أساليب جديدة في التصريحات والتغريدات، أما مفرداتها فقد أفرطت في الوقاحة الفجة واللغة المبتذلة وتدني الوعي والتفاهة وتسطيح الفكر واحتقاره.
إذا كانت هذه هي صورة العالم الذي نعيش فيه، فجدير بنا أن نعمل سريعاً وننظم جهودنا وقوانا كي ننتقل إلى الفعل والتغيير، فلا حكمة في الانتظار الذي طال.
□ العامل الثاني مرتبط بدور الإعلام وهيمنته على وسائل الأخبار وتحليل الأحداث "والتوعية" الشعبية وآثاره المدرة على الوعي الشعبي، في ظل غيابٍ شبه تام للمفكر الملتزم والمثقف العضوي والمناضل والحزب السياسي. ما نقصده هو أن الأعمال الإعلامية والصحفية المأجورة لأجندات أيديولوجية وسياسية هي التي طغت على الساحة وحلّت محل المفكر والمناضل والمثقف والحزب السياسي.
هنا تكمن واحدة من أهم إشكاليات ما نقرأه أو نشاهده أو نسمعه هذه الأيام: أعمال صحفية ركيكة وسطحية ومأجورة، رغم تقنياتها العالية، تقدم لنا "تحليلاً" للأحداث والأوضاع الراهنة وتدّعي أنها تستشرف التحولات القادمة في النشاط البشري في القطاعات الصحية والاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية. غير أنه استشراف يتسم بالتسرع والتفاهة والأحكام المطلقة، ويتناقض مع الواقع الذي يؤكد أننا بحاجة إلى المزيد من المعرفة والتعلم والتفكير حول هذا المرض وعلاجاته والوقاية منه وتداعياته على الاقتصاد والمجتمعات والإنسانية. وعليه، يصبح الكثير من هذه الكتابات غلواً سابقاً لأوانه، وينطوي على التسرع والرغائبية والذاتية، وتوظيفاً مأجوراً لخدمة أجندات سياسية وأيديولوجية.
إذا كان للسياسيين لعبتهم في حماية مصالحهم، فإذا كان الكثير من الإعلاميين والكتّاب يجارونهم بالمثل، فالسؤال المنطقي يكون: ماذا يصل إلى الشارع وإلى الوعي الشعبي؟
هنا يكمن بعض التفسير للآثار المدمرة والجسمية التي تفتك بالوعي الشعبي العربي.
□ العامل الثالث يشكّل احدى المعضلات التي واجهت ولا تزال تواجه عمل القوى اليسارية والاشتراكية والشيوعية منذ عقود، وتعيق فعلها وقدرتها على المضي قُدُماً في التنفيذ العملي لبرامجها ومشاريعها النضالية. وهي بالمناسبة أمور يعرفها كثيرون، رغم أن الحديث لا يدور حولها.
بوسعنا أن نوجز هذه الإشكالية على النحو التالي: ففي حين أن نظرتنا إلى العالم نظرة كلية شاملة بمعنى أننا ننظر إلى عالم نعيش فيه كلنا وننظّر له ككل جمعي، غير أننا في مجال الممارسة والفعل السياسي والتطبيق العملي لرؤيتنا، نبقى مأسورين في عالم نصوغة لنا وحدَنا. وبدل أن نفتح الباب على مصراعية لدخول شركائنا وكافة المساهمات التشاركية، يحبس كل منا ذاته بمعايير ضيقة ويكبل قدرته على الفعل ضمن أطر وأساليب محلية ومغلقة، على أهيمتها، تأتي في الدرجة الثانية بعد الفكرة الأساسية للنضال المشترك، ولا ينبغي أن تتقدم الفكرة التوافقية الجامعة لأسس العمل المشترك، ما كنّا نسميه "برنامج الحد الأدنى".
□ طبيعة المرحلة، سماتها الرئيسية، مهماتها، ميزان القوى الفاعلة والمتصارعة فيها، هذه هي العوامل التي تحدد المشروع الثوري وانطلاقته. وهو ما يشكّل أرضية صلبة بمقدورنا الوقوف عليها بثبات والانطلاق منها.
ولكننا الآن أمام فرصة تمنحنا قدراً كبيراً من فسحة العمل والتحرك والتنظيم ونسج التحالفات، وتتيح لنا العمل بمرونة تنطلق من الممارسة وتطبيق خطوات عملية مهما كانت متواضعة.
وعليه، وفي ظل الأوضاع القائمة، ليس شرطاً أن نرجئ انطلاقة المشروع السياسي إلى حين اكتمال برنامج نضالي شامل. بكلمات أخرى، ليس شرطاً أن ننتظر توفر كافة الظروف على نحو كامل لاطلاق مشروع مناهضة الرأسمالية، ، بل كثيراً ما يفرض الواقع والتاريخ شروطهما حين تكون المهمة عاجلة وملحة، ناهيك عن أن هناك العديد من تجارب الشعوب عبر الأزمنة تثبت أن عدم اغتنام الفرص أو الانتظار والتلكؤ قد يكونوا خطأً جسيماً ومكلفاً.
بناءً عليه، فإنه بوسعنا أن نبدأ وننطلق من الأسس الجامعة والمتوافق عليها نحو توجه ومشروع سياسي ننسج برامجه وخياراته الاستراتيجية على مبدأ الإطاحة بالرأسمالية وبناء الاشتراكية، ثم نجد تفاصيله ونحدد آلياته عبر مسيرة الممارسة العملية.
ووفق هذا المنطق، فإذا تعذر التوافق على برنامج شامل وكامل، فبوسعنا أن نبدأ بالحد الأدنى للبديل على أن يكون الخيار جامعاً والرؤية مشتركة بين كافة القوى التي تحارب الرأسمالية وتعمل على الإطاحة بها في سبيل بناء المجتمع الاشتراكي، وهي رؤية جديرة بأن تعيننا على تحديد التوجه والمسار السياسي والنضالي.
□ تعيننا العوامل التي ذكرناها أعلاه في الوصول إلى النقطة الأخيرة وهي وضوح الفكرة والرؤية دون التباس. لقد انتهى العصر الرمادي وزمن غموض الأفكار والتدليس في الشعارات، فلا بد من وضوح الفكرة والمشروع الذي يجمعنا والذي نرى أنه يقوم في حدّه الأدنى على المبادئ والركائز التالية:
- الرأسمالية نظام متوحش لم يجلب للإنسان سوى الظلم والفقر والاستغلال والكوارث الطبيعة والبيئية والبيولوجية؛
- إن إصلاح هذا النظام أو التصالح معه والوصول إلى حلول توفيقية مستحيل ومحض أوهام ومضيعة للجهد، وسيفضي إلى المزيد من المعاناة والكوارث. كما إن اللجوء إلى مثل هذه الوسائل والسياسات يعني تمديد عمر النظام وعمر أزماته وضخ دم جديد في عروقه لمنحه دورة حياة جديدة.
- مهمتنا، إذن، هي الإطاحة بهذا النظام عاجلاً، واليوم قبل الغد، وتدمير الأسس والركائز التي يقوم عليها في الاقتصاد والمجتمع والسياسة، وقبل كل شيئ في الفكر، في سبيل بناء البديل الاشتراكي.
مشروعنا: الإطاحة بالرأسمالية وبناء الاشتراكية
قد يبدو طرح البديل والجدل حوله مخالفاً لأنماط التفكير السياسي والتنظيمي التي تعودنا عليها، خاصة في ظل ظروف استثنائية كالتي تعيشها البشرية الآن، وقد يرى فيه بعضنا نوعاً من الشطط والتسرع. ولكن القراءة المتأنية للواقع تشير بوضوح إلى أننا أمام فرصة تاريخية لا ينبغي أن نفوتها لشن الهجوم على النظام الرأسمالي والإطاحة به، وبالأقل أن نبدأ بطرح أفكارنا وتصوراتنا العملية لمشروعنا النضالي.
فلا خلاف على أن وباء كورونا وما تسبب به من مآسي صحية وشخصية للملايين من البشر وعزلة اجتماعية، قد شلّ الحياة في شتى مستوياتها، ولكنه علينا ألاّ نسمح له أن يسلب منا هذه الفرصة، أو أن يشل عقولنا وقدرتنا على التفكير النقدي والخلاّق.
نعم، إنه من المبكر طرح برنامج تغيير ثوري، إضافة إلى أن صياغة مثل هذا البرنامج يجب أن يكون عملاً جمعياً في إطار جمعي تشاركي سواء كان حزباً أو تنظيماً. ولكنه بوسعنا أن نرسم الخطوط العامة لمثل هذا البرنامج والتفكير بملامحه إلى حين تبلور الحزب.
في هذا الصدد كتب سمير أمين ما يدعم هذه الرؤية ويعزز الدعوة إلى العمل الفوري والانطلاقة السريعة نحو المشروع المقترح حيث يرى أمين أن مقومات محاربة الرأسمالية موجودة حقاً.
يقول سمير أمين: "الحركات الاجتماعية التي ستبلور مشروع الاشتراكية الحقيقية موجودة فعلاً ويتقوى وجودها وتحركها في كل مكان في عالمنا المعاصر، يجري التعبير عنها بواسطة الطبقات والصراع بينها، وحركات النضال من أجل الديمقراطية، ومن أجل حقوق المرأة وحقوق الفلاحين، ومن أجل احترام البيئة، والانضمام بنشاط إلى هذه الحركات يعمل على بلورة البديل الذي سيغير العالم، ولكن هذا التغيير يقتضي أن تتعلم هذه الحركات أن ترتفع تدريجيًا من مرحلة الدفاع الى الهجوم، ومن حالة التفتت إلى التجمع في إطار التعددية، وأن تصبح الفاعل الحاسم في مشروعات مجتمعية خلاقة وفاعلة، من أجل بناء استراتيجيات سياسية لصالح المواطنة".
خاتمة
ما نحتاج إليه هو الشروع بالتنفيذ العملي وبخطوات عملية ولو متواضعة لمشروعنا القائم على ركائز ومبادئ أساسية كي نمضي في النضال إلى أشكال أرقى كفيلة بمواجهة عدونا المتوحش. وعلى هذه المبادئ يمكننا أن نبني فعلنا السياسي ونطوره ونرتقي به إلى برنامج شامل ومتكامل أو يكتمل من خلال الممارسة ووفق ظروف النضال حين نتماهى مع بعضنا البعض ونرص صفوفنا وتماسكنا الفكري والتنظيمي. نبدأ بالفكرة الرئيسية التي توحدنا ثم نسير نحو هدف مشترك في درب نضال مشترك، فتنصهر الخلافات بيننا في بوتقة الفكرة الواحدة والجامعة: الإطاحة بالنظام الرأسمالي بثورة اشتراكية، وتقويض مقوماته من أجل الانطلاق نحو عالمٍ آخر يتناقض جذرياً معه وبناء المجتمع الاشتراكي في مسيرة الإنسانية نحو الشيوعية.
هذه هي نقطة الانطلاق نحو البديل في هذه اللحظة-الفرصة التاريخية. .
أليس هذا ما تطالب به وتناضل في سبيله ملايين الجماهير وآلاف المنظمات والأحزاب والحركات في العالم؟
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. تصريح الأمين العام عقب المجلس الوطني الثاني لحزب النهج الديم
.. رسالة بيرني ساندرز لمعارضي هاريس بسبب موقفها حول غزة
.. نقاش فلسفي حول فيلم المعطي The Giver - نور شبيطة.
.. ندوة تحت عنوان: اليسار ومهام المرحلة
.. كلمة الأمين العام لحزب النهج الديمقراطي العمالي الرفيق جمال