الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منهل السراج بين حماة والسعودية

لطيفة الشعلان

2006 / 6 / 20
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


أنت أمام رواية يدور بعض فصولها في مدينة سعودية تم اختزالها في مجمع تجاري اسمه (العجمي)، وفي شقة بلا شرفة، وفي عصا يحملها عضو الهيئة لوعظ الحريم في الأسواق، من دون أن يعني ذلك مطلقا وقوع منهل السراج في فخاخ شوفينية. فحماة السورية لاتقدم فضاءات أرحب ولا أكثر تسامحا من الناحية القيمية والاجتماعية، ولا يظهر الحمويين سوى الوجه الآخر أو المقارب للانسان ذاته وللبيئة ذاتها التي رُتب لميّ الهجرة إليها فـ : "والله لو وضعت لأهل حماة سبعة مناديل على وجهي لن أنجو من ألسنتهم". وسياسيا ستبدو حماة الوجه الأكثر تعاسة ومصابا بل وإيغالا في القسوة بما لايقاس، فأحداث حماة في 1982 لا تحضر على الألسنة فقط بل وفي الشعور العميق بالعبث والخراب والعدم الذي يستوطن في عمق الرواية وباطنها وفي نفوس أبطالها، كتلك المرأة المحزونة على الزوج والأبناء الثمانية الذين ذهبوا جميعا من دون أن يعرف أحد حقيقة ما آلوا إليه، علما بأن منهل تقارب هذا الحدث بطريقة ذكية لاتحمل لغة المنشورات السياسية أو البيانات الفاقعة، ليس مراعاة منها لمحاذير المقص العربي، أو لكون روايتها صادرة عن دار نشر سورية وحسب، وإنما لأنها وهذا هو المهم تعلم علم اليقين أن فن الرواية لايحتمل مثل هذا الصنيع الفج إلا في تقدير الضعفاء والمساكين. ما أريد قوله أن بونا شاسعا يفصل بين منهل السراج وحنان الشيخ مثلا في (مسك الغزال) أو بين منهل و يحي يخلف في (نجران تحت الصفر) أو بينها و ابراهيم نصر الله في (براري الحمى) حيث يُمتحن اللبناني أو الأردني أو الفلسطيني بالتساكن مع (وحشية وتخلف) السعودي. منهل لاتنطلق من تصورات ذهنية مسبقة متطرفة تنزه الذات وتنهش الآخر الموصوم أبد الدهر بالقسوة والجلافة. ماهو سعودي وماهو سوري أو حموي تحديدا يبدو لديها على مسافة قريبة لأن الآليات الضاربة في عمق الجذر السياسي والاجتماعي والديني في ماهيتها واحدة وإن اختلفت شكليا، بينما التجارب الروائية السالفة الذكر تفضح كيف أن الرغبة القسرية في التعبير عن النقمة أو الإزدراء أو الكراهية تجيء على حساب الأدبي والفني بل والمعرفي أيضا.
(جورة حوّا) الصادرة في (2005) رواية تستحق القراءة، وفيها أنت أمام ثلاث نساء أو ثلاث حيوات تتتقاطع وتفترق: ميّ وريمة وكوثر. ميّ الرسامة الجميلة المتحررة تقابلها كوثر الرسامة أيضا لكن الدميمة والمهسترة دينيا بسبب دروس شيختها المتزمتة. وقد أجادت الروائية في تصوير تهويمات كوثر النفسية ومواجعها الجسدية، ففضلا عن الوساوس التي تنغص حياتها فإن مطالب الجسد الذي قُهر وقُمع طويلا ستقود ذات لحظة إلى التعري أمام قط المنزل .. وحوادث أخرى صغيرة لكنها تستبطن مكبوتا هائلا لاتحيط به عشرات الشروحات السيكولوجية، وكنت أتمنى لو أن الروائية خصصت مساحة أكثر لكوثر، لأن شخصية ريمة الغاطسة في المجوهرات والنمائم تقليدية، كما أن مي أو المرأة المتحررة التي تتصادم مع المجتمع حسب بنائية احسان عبدالقدوس شخصية طُرقت كثيرا ، لكن كوثر كانت هي الأكثر أصالة وتعقيدا.
لم يتضح للمدينة السعودية التي انتقلت ميّ للعيش فيها وجها أو طبيعة أو شكلا، ومرت حياتها فيها سريعة ومبتسرة إلى حد أن علاقتها بـ ربيع رغم مفصليتها قد جاءت في سرد مرتبك سريع، وكأن منهل تريد على عجل طي حياة بطلتها في السعودية أو على نحو أكثر تحديدا (حياتها في شقة بالسعودية) لترسلها إلى حماة في رحلة عكسية وبأثر فضيحة أخرى وإن لم تُحكم خيوطها هذه المرة بشكل يماثل ماكان للفضيحة الأولى التي تسببت في ترك بطلتها لحماة. تقبض منهل في حماة على اللحظة والمكان والطقوس اليومية والمشاعر بحكم موقعها من المدينة أوموقع المدينة منها، وهذا مالم يتأت لها في السعودية فلم تُمسك منها سوى على المنفى بالمعنى الحغرافي، المنفى للشقيق الذي كان منضما لـ (الجماعة) ولأخته الفلتانة عسى أهل حماة ينسون تقليعاتها. فإن صدق حدسي فمنهل لم تعرف السعودية مباشرة أو ان معرفتها كانت أقرب إلى المعلومات الصحافية التي لاتكفي للتوظيف الروائي المحبوك. وربما يؤكد ذلك أن منهل لم تسم تلك المدينة، ومن هنا ظهر واضحا أنها تتصور السعوديين ومدنهم كتلة واحدة صماء أو متجانسة وهذا بخلاف الواقع الذي يشهد بالفروقات البينة في التكوين الاجتماعي والثقافي. كما أن هناك حادثة صغيرة لكنها ذات دلالة لايمكن اغفالها فيما يتعلق بنفص المعرفة، فمن الواضح أن منهل سمعت أو عرفت بـ (الترقيم) وهي أن يعرض الشاب في بعض الأماكن العامة رقم هاتفه المكتوب في ورقة أو بطاقة على الفتاة، لكنها بنت المشهد بصورة مقلوبة مضحكة لاتستقيم مع الواقع والمعقول، فالرجل يناول ميّ ورقة وقلما في الحرم المكي فتفهم أنه يطلب اسمها ورقم هاتفها فتبادر بكتابتهما له !
إن كنا نتورط من العوالم الروائية في حب المدن ومصالحتها أو في كرهها وخصامها فإن حماة ستكون من ذلك النوع المحايد الذي لا يكلفك حتى عناء خصامه. ترى الاسكندرية في الثلاثينيات في (لا أحد ينام في الاسكندرية) لإبراهيم عبد المجيد مع فقرها وأزماتها وخيباتها وعاطليها وحواتها وبلطجيتها ودنسها مدينة مؤنسنة نابضة مسكونة بالحركة والحياة. تحبها ولا تدري لم أحببتها. ستتذكر طنجة محمد شكري التي وقعت في هواها وهي تصحو وتتمطى وترضا وتغضب وتطاوع وتتمرد، تمشي في أزقتها وتتضارب مع مشرديها وتدخل في حاناتها بينما أنت لم تفعل ذلك واقعا وحقيقة. لندن وأنا المحبة لها أصلا أنزلق في التآلف معها أكثر في رواية المغامرات التي لا أزعم لها قيمة أدبية لكنها ممتعة على خفتها (أيام في الجنة) الصادرة في (2005) لغالية ف. ت. آل سعيد حيث تكون مدينة الضباب بوجهها الباذخ والمراوغ مسرحا لمغامرات نصاب عربي نموذجي. بينما تبدو لندن ذاتها متباعدة غير حميمة في (نساء على سفر) لهيفاء زنكنة. شعور مختزن قوي لكنك لاتملك في الحالتين تسويغه. الجزائر العاصمة ستحتار إن كنت تكرهها أو تشفق عليها في (سيدة المقام) لواسيني الأعرج. أما حماة في (جورة حوّا ) فهي مدينة مسطحة لن تورطك في مشاعر عميقة، لا حبا ولا كرها، ولاشك أن هذا ليس حكما معياريا على المدينة بذاتها، أي مدينة، لكنه على وجودها الروائي واحساسنا به.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتعرف على 10 أسوء فيديو كليبات غنائية على طريقة بدر المرحة و


.. تل أبيب غاضبة من اعتراف دول أوروبية بدولة فلسطين.. ما ردود ا




.. جثمان الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي يحط في مشهد


.. بلينكن يحث مصر على مراقبة المساعدات إلى رفح




.. ارتفاع عدد شهداء العملية العسكرية الإسرائيلية بجنين إلى 12 ش