الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفك

ملهم جديد

2020 / 5 / 29
الادب والفن


كان ما زال وهو في سن الثمانين يحتفظ بعادة النوم على الصوفا الخشبة الصامدة في مكانها على المصطبة منذ خمسين عاما ، و مثل أي يوم صيفي آخر ، و بعد أن تجاوزت الساعة التاسعة ليلا بقليل ، شرب آخر شفة عرق من الطاسة النحاسية ، ثم ملأها ماء ، و وضع فيها فكه الذي كان مازال يحاول الإعتياد على ارتدائه ، و تذكر بحسرة كيف كان حتى سنين قليلة خلت ، يتندر على أصدقائه العجائز و يتباهى باحتفاظه بأغلب أسنانه ، من دون أن ينسى لعن ساعة النحس التي خطر على باله فيها الصعود إلى شجرة التين في حاكورة المنزل للتأكد فيما إذا كانت بيوض عصفورة الدوري ما زالت في العش ، و لم يعتدِ عليها قط جاره أبو ابراهيم ، و كان من المعتاد أن يغط في نومه الآن بعد أن مضت نصف ساعة على آخر شفة عرق ، إلا أنه ، تابع التفكير بالسبب الذي جعل السلم الذي استخدمه من أجل الصعود إلى الشجرة يميل بهدوء و يقع على الأرض بينما كان يهم بوضع رجله اليمنى عليه عندما قرر النزول ، و لأنه كان عليه أن ينزل عن الشجرة بنفسه الآن، و لأنه كان يدرك ، أيضا بأنه لم يعد شابا و عليه الإحتياط خلال عملية النزول ، فقد كان متأكدا بأنه اتبع ما يلزم من حرص فيما يتعلق بالموضع الذي وضع قدمه عليه ، كما أنه كان متأكدا بأنه لم يسمع صوت انكسار أي غص ، و إلى الآن لم يستوعب كيف ، و بلمح البصر ، هوى بكامل جسمه وسقط على الأرض المفلوحة حديثا ، و مع أنه لم يشعر بأي ألم في جسمه ، غير أن سوء الحظ جعل فمه يرتطم بالحجرة الوحيدة تحت شجرة التين فتكسَّرت أسنانه دفعة واحدة و امتلأ فمه بالدم و التراب . لعن أبو ابراهيم و جيرة النحس هذه ، و مع أن أبو ابراهيم كان أول الواصلين إليه لمساعدته على النهوض و أخذه إلى المنزل ، و من ثم مساعدته بتنظيف فمه و الإعتناء به طيلة ذلك المشؤوم ، فقد كان وصوله السريع يؤكد حدسه ، و إلا كيف كان لأبو ابراهيم أن يعرف بأنه سقط لو لم يكن يراقبه من مكان قريب ! ، وكان مقتنعا بأن عين أبو ابراهيم الحسودة هي التي حركت السلم من مكانه ليسقط ، و عينه نفسها هي من أسقطته عن الشجرة ، كما أن نفس العين التي لا تشبع من رؤية الشر ينزل بالآخرين هي من جعلت فمه يرتطم بالحجرة الوحيدة تحت شجرة التين . كما لم ينس لعن نفسه على الوعد السخيف الذي ألزم فيه نفسه أمام حفيده الصغير بأن يهديه فرخ دوري عندما يأتي إلى القرية مع والديه في نهاية الأسبوع ، فلولا هذا الوعد لما كانت الفرصة قد توفرت للعين الحسودة كي تفعل ما فعلته ، و لكان الآن محتفظا بأسنانه . و بعد حفلة اللعن هذه، و لأنه لم يكن من أولئك الذين يبخلون بامتنانهم عندما يكون الإمتنان واجبا ، فقد شكر الله الذي وفَّقه بابن أصبح مسؤولا كبيرا ، إذ لم يكد الإبن ،الذي غادر القرية منذ زمن طويل ، يسمع بما حدث لوالده حتى بعث بسيارة أخذته إلى المدينة حيث قضى أسبوعا بانتظار أن يجهز الفك ، و لم يكن العجوز خلال ذلك الأسبوع أكثر حرقة ، بانتظار اليوم الذي سيعود فيه إلى القرية ، من ابنه و كنته اللذين كانا هما الآخران بانتظار ذلك اليوم الذي سوف يتخلصان فيه منه، فقد كان يهذي طوال الوقت و يعيد نفس الحكايات العتيقة التي كان يتذكرها و كأنها حدثت البارحة ، بينما ينسى إسم حفيده الصغير ، كما كان عليهما إيكال أمر مراقبته للخادمة التي اقتصر عملها على التأكد من إغلاق باب الحمام خلفه عندما يذهب لقضاء حاجته ، و منعه من التحدث مع حفيده ، فقد كانا يعتقدان بأن ابنهما يستحق جدا أرفع شأنا من هذا القروي الذي بدأت تظهر عليه علامات الخرف ! بانتهاء الأسبوع ، كانت نفس السيارة جاهزة لإعادته إلى القرية مع نصيحة كررها له طبيب الأسنان :
" قبل النوم ، انزع الفك و حطو بكاسة مي "
" أنا بستعمل الطاسة "
ابتسم الدكتور
" إذا ، حطو بالطاسة "
" من دون مي !.
" حتى لو كانت طاسة ، لازم تحط فيها مي " أجاب الطبيب " . و عاد ابنه ليكررها عشرات المرات :
" قبل ما تنام ، شيل الفك و حطو بكاسة مي " .
" أنا بستعمل الطاسة " .
" إذا حطو بالطاسة " رد الإبن بنزق .
" بس الطبيب قال بأنو لازم يكون بالطاسة مي " .
تمالك الإبن أعصابه و قال بهدوء :
" اسمع كلام الطبيب وحطو بطاسة فيها مي "
مع طلوع الفجر ، اسيقظ العجوز ، أخذ بعض الوقت حتى يجلس ، و لوهلة أعتقد بأنه يحلم ، فقد كانت الطاسة الموضوعة على الأرض قريبا من شحاطته مقلوبة ، و حولها بقايا من مائها المسكوب ، و لا أثر للفك ! لعن أبو ابراهيم قبل أن يلعن الشيطان ، و بينما كان يهز رأسه ، تأكد بأنه لا يحلم ، و أن الفك اختفى .
مرت نصف ساعة لم يتحرك فيه عن جلسته ، و كان عليه أن يمسح دموعه مرتين عندما تذكر عجوزته التي " راحت " منذ سنتين ، لم يكن يحب كلمة " ماتت " و يفضّل كلمة " راحت " ، و كان عليه أن يمسح دموعه للمرة الثالثة و هو يحدّث نفسه " وينك يا أم علي ، ما كان فيك تنتظري حتى موت و بعدين تروحي ، لو كنتي معي ما كان راح الفك ، كل عمرك كنت حريصة على غراضك و غراضي " ، ثم هزَّ رأسه غافرا لها تلك الكذبة التي ارتكبتها بحقه عندما وعدته قبل وفاتها بسنين طويلة أن لا تموت قبله لأنه كما كانت تقول له " عقلك خفيف ، و ما فيك تكمل لحالك " ، و مع أنه لم يقل لها " أحبك " أبدا ، إلا أنها كانت الأنثى الوحيدة التي أحبها منذ يفاعته و ما زال . لكن ماذا باستطاعة المرء أن يفعل سوى الركون إلى إرادة الله الذي لا يُقلع عن عادته السيئة باختبار عباده ! . نهض عن الصوفا و ذهب خلف البيت ليتبول على الحائط حيث اعتاد، ، و إذا كان قد اعتقد بأنه يمكن أن يعتاد على ارتداء الفك ، إلا أنه و منذ أن أضاف ابنه حماما عصريا لصق المنزل ، فقد كان متأكدا بأنه لن يعتاد على تلك العادة العصرية السخيفة التي تلزم المرء بأن يكون حريصا على الإمساك بعضوه بإحكام و من ثم تصويبه بدقة ليتدفق بوله في تلك الفتحة الضيقة ! و إذا حدث و شرشر (و كثيرا ما كان يشرشر بسبب اهتزاز يديه ) على الأطراف الناصعة البياض لتلك الفتحة اللعينة ، ماذا يفعل ! عليه أن يمسحها ، و بماذا سوف يمسح ما شرشره ! بالمحارم ! و أين سيضع المحارم بعد أن يمسح ما شرشره ! في سله بلاستيكية توضع في الحمام من أجل هذا الخصوص ! لماذا التضييق على النفس من أجل تصريف حاجة تافهة يمكن تصريفها على أي حائط . نفض عضوه المتهدل نفضتين و أعاده إلى سرواله ليكتشف ، ربما للمرة الألف ، بأنه كان عليه أن ينفضه نفضتين أخريين بعد أن شعر بفتوره تلك البقية اللعينة من البول التي دائما ما تتأخر و تكبر مع التقدم في العمر ، و تنتظر حتى يعيد المرء عضوه إلى مكانه تحت الثياب لتبدأ بالنزول .شعر بالغيظ ، و ركن إلى أن شمس الصباح لن تلبث أن تقوم ، إضافة إلى وظائفها الأخرى ، بتنشيف البلل الذي كان قد برد الآن . عاد للجلوس على الصوفا ، و بصعوبة انحنى و رفع الطاسة عن الأرض آملا أن يجد الفك في قعرها ، و من أجل التأكد و ضع يده في الطاسة ، يا للحماقة !، لا يريد أن يصدق أن الفك اختفى ! و لكن أين يمكن أن يختفي الفك ! و لماذا بقيت الطاسة ! لو اختفت الطاسة مع الفك لكان ركن إلى أن الأمر لا يتعدى مجرد سرقة عادية ! أما أن تبقى الطاسة و يختفي الفك ! هل من المعقول أن يكون أحدهم قد سرق الفك ! و من سيسرق فكا لا يصلح إلا لمن فُصِّل لأجله ! أو ربما لم أضعه في الطاسة ! إذا لم أضعه في الطاسة ، أين وضعته إذن ! لعنة الله عليك يا أبو ابراهيم . و لم يكد ينتهي من لعنه حتى أطل أبو ابراهيم من طرف الحاكورة متجها نحو مصطبة جاره و في يده ركوة قهوة مع فنجانين ، صبّح على جاره و انتبه إلى الطاسة التي في يده :
- خير انشالله ! شايفك مزعوج !
- الفك ! فقت الصبح ، و متل مانك شايف بقت الطاسة و راح الفك .
- ليش وين كان الفك !
- بالطاسة .
- وين كانت الطاسة !
- جنبي ، عند الصوفا ع الأرض
- طيب وين الكلب !
- ما عم تسمع ! عم قلك راح الفك ما الكلب ! .
ابتسم أبو ابراهيم و قال :
- يا بوعلي ، صحيح أنا ختيرت بس سمعي منيح ! يا أما أنت نسيان وين حاطط الفك ، يا أمّا الكلب أخد الفك و عم يلعب فيه بشي محل ! وين الكلب !
عندها انتبه أبو علي إلى أنه لم يستيقظ يوما من دون أن يرى كلبه إمَّا على المصطبة وإمَّا في الحاكورة مستلقيا تحت شجرة التين ، جال ببصره في الحاكورة و قال :
- صحيح ، وين الكلب ! .

عند المساء ، كان على أصدقائه العجائز أن يزوره ، بينما ما برح هو جالسا على الصوفا ، و بين فترة و أخرى ينظر تحتها و يحرك يديه عشوائيا ، آملا أن يكون بصره قد ضعف إلى درجة منعته من رؤية الفك ، ثم يأخذه وقت ليس بالقليل للنهوض و العودة إلى الجلوس مرة أخرى . و بعد أن مر بعض الوقت على انهماكهم بلف الدخان و طمأنته بشأن عودة الكلب ، شرب أبو علي شفة عرق من الطاسة التي كان قد ملأها كعادته في مثل هذا الوقت ، ثم سألهم إذا كان قد حدث معهم نفس الشيء بشأن أفكاكهم ، فأجابه أحدهم بأنهم لا يضعونها في مكان يصل إليه الكلب
" بس الطبيب ما قللي إنّو لازم حط فكي بطاسة بعيدة عن الكلب !" و بعد أن ضحكوا ، قال أحدهم
" أنت ما قلت للطبيب بأنو عندك كلب !" .
ثم لم يلبث أن قال آخر بجدية :
" هدا طبيب ، و ما شغلتو يعرف كم حيوان عندك بالبيت ! " ثم أضاف
" أنا برأيي بأنو إبنك لازم يكون لفت انتباهك لموضوع الكلب !" هز أبو علي رأسه و عاد إلى صمته .
حتى تلك اللحظة ، كان أبو ابراهيم صامتا ، ثم لم لم يلبث أن ذكَّرهم بأنه لم يحدث في القرية أبدا أن اختفى كلب
كل هذا المدة الطويلة :
- ممكن يختفي ولد ، ممكن تختفي بنت، ممكن يختفي زوج ، ممكن تختفي زوجة ، ممكن يختفي المختار ، ممكن تختفي رحمة الرب ، أما الكلب ، اسألوني عن الكلاب ! الكلب ما بيختفي .
- طيب وين راح الكلب ! . سأل أحدهم .
- الأفضل نسأل شو صار مع الكلب ! ، أجاب أبو ابراهيم
......... ............. ...........
في ظهيرة اليوم الثاني ، بدت السماء أكثر بعدا و صفاء من ظهيرات الأيام السابقة ، و بينما كان العجائز يتحادثون كعادتهم في الأيام المشمسة تحت شجرة السنديان العتيقة في ساحة القرية ، بقي أبو علي جالسا على الصوفا محدقا في الطريق الترابي الذي يقود إلى مدخل بيته ، و مع أن فكرة أن ينذر على نفسه نذرا قد راودته طيلة الليل ، إلا أنه أقلع عنها ، ليس لأنه لم يحدث ، طيلة حياته المديدة ، أن استجاب الله لدعائه و حسب ، بل لأنه لم يكن أيضا قد فقد ثقته بعودة الكلب بعد . و مع اشتداد الحر، و بسبب الأرق الذي كابده طيلة ليلة البارحة ، تمدد على ظهره ، و كان على وشك الإغفاء عندا أحاطت الضجة بسريره ، فجلس مرعوبا و قد وقف قبالته أبو ابراهيم بشاربيه الثخينين و حوله بعض العجائز ، فأخذ كلبه البني الهزيل يتمسح برجليه ، تارة يتطلع إلى الأعلى نحو صاحبه و في عينيه ما يشبه الشعور بالذنب و تارة أخرى يضع عينيه في الأرض بما يشبه الإعتذار ، فبدا الفك أكثر لمعانا بين شدقيه اللذين يشرشر منهما اللعاب ، مد أبو علي يده كطفل عثر على لعبته ، نزع فكه من شدقي كلبه و وضعه في فمه ، فلم ينتبه و هو في ذروة فرحه إلى نظرات الإمتعاض في عيون الحاضرين . و لسوف تمنعه فرحته تلك ، ليس من النوم طيلة الأسبوعين القادمين محتفظا بالفك في فمه ، والإكتفاء بغفوات نهارية متقطعة ، و حسب ، إنما أيضا ، من الإنتباه إلى أن أبو ابراهيم لم يعد ، كما كان يفعل سابقا ، يأتي بالقهوة كل صباح ليشرباها سوية ، كما لم ينتبه إلى أن لا أحد يدعوه إلى الغذاء أو شرب الشاي ، و امتنع أولئك الذين كان عليهم الإيفاء بنذورهم عن دعوته لأداء الصلوات معهم ، كما تركته خادمته الفقيرة التي كانت تطبخ له غذاءه و تعتني بشؤون المنزل لعدة ساعات في اليوم بحجة أن والدتها بحاجة إليها للإعتناء بأخواتها الصغار . أما الشيخ يونس ، و الذي كان قد قدم إلى منزل أبو علي بعد و قت قصير من عودة الكلب ليبارك له باستعادة فكه ، فسوف ينتبه إلى أن أهالي القرية بدأوا يتجنبون تقبيل يده بعد أن عرفوا بأن أبو علي قبَّلها أكثر من مرة طالبا بركاته و شاكرا قدومه ، من دون أن يتساءلوا فيما إذا كانت تلك اليد المقدسة التي توقفوا الآن عن تقبيلها كانت أكثر طهارة من قبل ! ، فهي إضافة إلى مهامها السماوية ، كانت تقوم أيضا و ما تزال بمهام أرضية يفرضها التبول و التغوط و تنظيف الأنف في الأوقات الفاصلة بين الصلوات و الأدعية و مباركة النذور، و إذا كان من الصعب إثبات طهارة روح الشيخ من عدمها ، فقد كان من السهل إثبات قذارة يديه اللتين كان قلما يغسلهما ، ليس لصفة متأصلة فيه ، بل بسبب الطبيعة الجوالة لعمله التي تفرض عليه التجول بين القرى . و عبثا سوف تذهب محاولات الشيخ في إقناع أهل القرية بأن نجاسة الكلب ليست سوى فكرة فرضتها العادة ولم ترد في القرآن ، و عبثا أيضا ذهبت محاولاته للفت انتابهم إلى أن للكلب سمعة عطرة ، فقد ذكره الله في سورة أهل الكهف ، كما لن تنفع حججه و الأمثلة التي أوردها عن وفاء الكلاب في تغيير رأيهم حول نجاستها .
بدأ الهزال يبدو على أبو علي ، و لم يعد هناك من يحادثه سوى نفسه ! و لطالما تساءل عن الناس الذين لم يعد يراهم يمرون من أمام بيته ، و عندما يحدث و يرى أحدهم فقد كان يناديه و يدعوه للدخول ، ليسمع الجواب الدائم " مستعجل شوي راح مر عليك بعدين " ! و مع أنه بقي هنالك من يبعث له بين فترة و أخرى بالطعام مع بعض الأطفال الذين كانوا يضعون الصحون عند البوابة الخارجية لمنزله و يعودون راكضين ، غير أنه لم ينتبه إلى أن لا أحد يعود و يأخذ الصحون في اليوم التالي ، و مع اشتداد حرارة الصيف ، أصبحت نهاراته أكثر قيظا ، و مساءاته أشد كآبة و هو جالس يحدق في الفراغ بينما يتناهى إلى سمعه أصوات الساهرين على المصاطب و الأسطحة ، كما لم تكن أذنه لتخطئ صوت الطبل الذي يصله قويا من ساحة القرية عندما يكون هناك عرس أو احتفال ، و عندما كان يغفو لبعض الوقت في جلوسه ، لم يكن يرى في أحلامه سوى تلك الصور المغبشة لطفل فقير ملتصقا بأمه طيلة الوقت ينتظرها ريثما تنتهي من إطعام الدجاجات لتجلسه في حضنها و ترضعه ، لقد كان الطفل الوحيد الذي بقي لها على قيد الحياة بعد أن سقط أطفالها السبعة الآخرون صرعى لمرض السل ، و قد استمرت في إرضاعه حتى سن السابعة ! و لربما كانت سترضعه لسنوات أخرى لو لم تلحق بأولادها الآخرين بسبب المرض نفسه . أو صور زوجته التي كذبت عليه و راحت قبله ، و التي اكتشفت منذ السنة الأولى لزواجهما بأن الطريقة الوحيدة لتكمل العمر معه هي أن تتعامل معه كأم ، فكانت تلاطفه كطفل ، و عندما يتحامق ، كانت تؤنبه كطفل . و عندما ماتت ، أو راحت كما يحب أن يقول ، لم يدرك المعزون سر بكائه المرير الذي استمر لشهور ، و لا أصوات المناجات التي كان يسمعها المارون في الليل عندما يمرون من أمام بيته . لم يدرك أحد بأنه لم يكن يبكي زوجته و يناجيها كأرمل ، بل كطفل تيتَّم للمرة الثانية .
في الأسبوع الثالث ، بدأ يفقد الشهية للطعام ، و أصبحت الصحون التي يتركها الأطفال عند البوابة ولائم ، ليس لكلبه و حسب ، و إنما أيضا لكلاب و قطط القرية الشارة ، بينما أخذ جسده يزداد نحولا ، و من بين جميع عاداته السابقة ، فقد حافظ على شرب طاسة عرق عند المساء ، و لن يمر الكثير من الوقت قبل أن يصبح صعبا عليه الوصول إلى شجرة التين و العودة إلى الصوفا كما كان يفعل عدة مرات في اليوم ، و لربما كان من حسن حظه أن ذاكرته بدأت أكثر ترديا في أيامه الأخيرة فأراحته من حسرة إضافية كانت ستضاف إلى حسراته الكثيرة ، إذ نسي بأن عنده إبن وحيد كان قد و عده من زمن طويل بأن يجلب حفيده لزيارته عند نهاية الأسبوع !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع