الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
تآلف العلمانيين والمتدينين المتنورين وسيلة ضرورية لتقدم الحضارة الإنسانية
شاهر أحمد نصر
2006 / 7 / 1ملف - 1 تموز 2006 - العلاقة المتبادلة بين العلمانية والدولة والدين والمجتمع
من التحديات التي تواجه البشرية سقوطها في عصر ظلمات جديد، تزداد فيه نزعات التطرف، والانعزال، ونمو الظواهر العنصرية والعدوانية عند الأفراد والجماعات... وتلعب الاتجاهات الفكرية المتعصبة والمنغلقة التي تأخذ طابعاً علمانياً مستكبراً، أو دينياً متزمتاً دوراً في تغذية هذه النزعات والظواهر السلبية، والتي تجد في مجتمعات التمييز، والاستغلال، والاستبداد، والاحتلال تربة مناسبة لنموها وهيمنتها... كما يقود التنافر والمجابهة التناحرية بين العلمانيين، والمتدينين إلى تغذية الاتجاهات المتطرفة في الجانبين، وإلى سيادة الظلامية على التنوير... ولعل نظرة تاريخية إلى العلاقة بين هذين المكونين الأساسيين من مكونات الوعي الإنساني تساعدنا في التعرف على التحديات التي تدفع بالبشرية إلى عصر الظلمات.
مرت العلاقة بين الفكر الديني والعلماني بمراحل متنوعة، ففي أواسط عصر الثورة الصناعية أزاحت القوى العلمانية في أوربا مؤسسات الدين المنظم عن السلطة، وحَدَّت من هيمنته على المؤسسات التعليمية، وعلى مؤسسات الدولة بشكل عام... فتقلصت سلطة الدين الاجتماعية والأخلاقية والسياسية... ووصلت الأمور في أواسط القرن العشرين إلى درجة تهجم الصحافة على الدين، فهبت الكنيسة والمؤسسات الدينية الأخرى للرد ووجهت هجوماً عنيفاً على العلمانيين وعلى الفكر العلماني...
أما اليوم، فإننا نرى تراجع العلمانية، إذ أخذت اللوحة تتبدل منذ أواخر القرن العشرين، الذي شهد صعوداً للتيارات الدينية والفكر الغيبي، في مختلف أنحاء العالم بما فيها الدول الصناعية المتقدمة، والذي مهد لظهور التطرف، وولادة المنظمات الإرهابية في مختلف أصقاع العالم: من اليابان، والهند الصينية، وشبه القارة الهندية، إلى أوربا، وأمريكا والشرق الأوسط... ومن المفيد والضروري التمعن في أسباب ذلك؟
مما لاشك فيه أنّ هذه الظواهر تعبر عن أزمة تعيشها المجتمعات البشرية... ولم يكن الهجوم المتعصب ضد العلمانية ليجد "صدى له لو أنّ الحضارة الصناعية، وهي مهد العلمانية، لم تكن هي نفسها تعاني من أزمة ـ أخلاقية واجتماعية ـ ولم تعد تقدم نموذجاً جذاباً يحفز بقية العالم والواقع، إن الدول الصناعية الممزقة في أعماقها لم تعد تظهر كما كانت من قبل وكأنّها قوى لا تقهر... وفي اللحظة التي أخذ عصر الصناعة يمضي نحو أزمته هوجمت فلسفته العلمانية المسيطرة من الداخل، ومن الخارج في آن واحد، في حين استعادت النزعة الأصولية والدين مركزها الأول"(1).
ولقد أصبح واضحاً أنّ بلدان أوربا الشرقية والاتحاد السوفيتي، أو ما عرف بالمنظومة الاشتراكية العلمانية، كانت تعيش أزمة اقتصادية سياسية فكرية خانقة أوصلت مجتمعاتها إلى طريق مسدود، كما أنّ المجتمعات الصناعية الأخرى في أوربا وأمريكا واليابان لم تستطع معالجة مشاكل الاستغلال والتمييز في داخلها، وأخذت تطغى وتهيمن فيها مرحلة تقانة المعلومات على المرحلة الصناعية... وما يتركه ذلك من أثر على الوعي الاجتماعي... فضلاً عن استمرار معاناة شعوب العالم الثالث من مخلفات الاستعمار والاحتلال، والذي أخذ أبشع صوره في الاحتلال الإسرائيلي الصهيوني لفلسطين، والتعامل الإرهابي الوحشي من قبل الحكومة الإسرائيلية التي تدعو لإقامة دولة دينية لليهود، تحت ستار العلمانية، والمدعومة من الحكومات الغربية التي تتبنى العلمانية وتدعم قيام دولة على أسس دينية عنصرية في الوقت نفسه... خلق ذلك كله الظروف المناسبة لزعزعة ثقة الناس بالعلمانية، ومهّد السبيل للبحث عن بدائل أخرى...
وهكذا أخذت تظهر على الصعيد العالمي حركات تعبر عن الأزمة التي تعيشها الإنسانية: ففي الولايات المتحدة الأمريكية ظهرت حركة عبدة الشيطان، والحركة الهيبية التي شنت هجوماً عنيفاً على منجزات العلمانية، وعلى ثقافة المجتمع الصناعي. وانتشر التصوف، والمخدرات، والتنجيم، والإيمان بأديان تكاد لا تكون معروفة... وأخذت الحركة الهيبية تبشر بالعودة إلى ماضٍ أسطوري مليء بالمفاتن، يلتصق بالأرض بعيداً عن بهارج المجتمع الصناعي. و"في اليابان حيث تتعايش البوذية والشنتوية، من غير الممكن تحديد الدين بالعبارات نفسها المألوفة في الغرب، حيث أنّ كلمة الأصولية لا تنطبق هنا بالتأكيد. إلاّ أنّ هناك مظاهر واضحة في أشكال الشنتو القديمة استفاد منها النظام العسكري فيما قبل الحرب العالمية الثانية. من أجل أهدافه السياسية الخاصة. في عام 1989 أصدرت وزارة التربية قراراً مثيراً للجدل يقضي بأن يتعلم التلاميذ احترام الإمبراطور الذي هو الكاهن الأكبر للشنتو". ومع بدء عملية الإصلاحات في الاتحاد السوفيتي (السابق)، ورفع القيود، وتنفس نسيم الحرية بدأ لهيب الأصولية الدينية الإسلامية، والمسيحية يلفح البلاد، وأخذ الأذريون المسلمون والأرمن المسيحيون يتذابحون في القوقاز، مع بروز علامات أصولية مسيحية. وفي إسرائيل التي تدعي تبني العلمانية والديموقراطية، تنمو الأصولية المتزمتة، ويجري الاعتداء على اليهود الذين لا يمارسون الشعائر الدينية من قبل اليهود الأصوليين الذين تعود أفكارهم وأنماط حياتهم الاجتماعية إلى قرون من العيش في "الشِتل" (بلدات صغيرة خاصة باليهود في أوربا الشرقية) التي تعود إلى ما قبل العصر الصناعي في أوربا الشرقية وطوائفهم في الشرق الأوسط. وفي الهند يمزق المتطرفون كشمير وشبه القارة الهندية.
و"قد شنّ الأصوليون المسيحيون الغاضبون من الرفض الإلحادي الذي أعلنته الحركات الهيبية ضد المسيحية التقليدية التي بلبلها تصدع عالمها المألوف، شنوا حرباً مضادة مضنية ضد العلمانية اتخذت في الحال شكل عمل سياسي فعال إلى درجة قصوى...
"إنّ ما نشهده هو هجوم منظم، إنّه تعتيم في سماء وأفكار عصر الأنوار...
وإذا كانت جميع هذه الحركات تختلف بوضوح فيما بينها، وتصطدم كل منها بالأخرى في كثير من الأحيان. وإذا كان بعضها متطرفاً والبعض الآخر غير ذلك، فإنّ جميع المتطرفين الذين يدعون التدين، يتفقون في نقطة هي عداؤهم للعلمانية، وهي الأساس الفلسفي للديموقراطية"(2).
ومن الأمور التي زعزعت عملية صعود الفكر العلماني، ووجهت ضربة له: الصراع الذي شهده العالم إبان الحرب الباردة، بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، وتسعر الصراع بين الطبقتين العاملة، والبرجوازية...
من المعروف أن وعي الطبقة العاملة يأتيها من خارجها... كما أنّ الحامل الاجتماعي للعلمانية يوجد في الطبقة البرجوازية والطبقة العاملة وأحزابها... مع تسعر الصراع بين المعسكرين والطبقتين، أخذ كل جانب يبحث عن كافة الوسائل المساعدة له في صراعه ضد الجانب الآخر، وهذا لم يمنع البرجوازية التي تعد حاملاً رئيسياً للفكر العلماني من اللجوء إلى الفكر الغيبي والديني، وربما الهيبي بما فيه المتطرف في صراعها مع الطبقة العاملة والمعسكر الاشتراكي... ويوجد تساؤل مشروع عن دور الشركات الضخمة في انحدار النقابات وتمزقها، وانتشار المخدرات والجريمة وتفكك الأسرة... وفي الوقت نفسه ومع انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 في روسيا، نشأ افتراق بين الطبقة العاملة والبرجوازية التي يعد مفكروها أحد مصادر وعي الطبقة العاملة، وولد تصور وكأن الطبقة العاملة ستضع الفكر الخاص بها بمعزل عن المفكرين من أصول برجوازية، وأخذ بعض مفكري الطبقة العالمة المنحدرين من أصول فلاحية ينتجون فكراً أقرب إلى الفكر الغيبي، وإن حمل اسماً وعنواناً علمانياً... وهكذا بدأ الفكر العلماني يتضعضع مع تناحر حامليه الاجتماعيين، كما أنّ بعض أحزاب الطبقة العاملة الاشتراكية والشيوعية لم تنتبه إلى أهمية الدين، وسلمت لأعدائها سلاحاً ماضياً تحاربها فيه، نتيجة عدم تقديرها السليم لأهمية الفكر الديني المتنور في معالجة الكثير من المشاكل الاجتماعية... من هنا تأتي أهمية وضرورة اعتماد مناهج مركبة عند البحث في أسباب تراجع العلمانية، وهيمنة التطرف والظلامية... والابتعاد عن النظرة المباشرة والسطحية عند تحليل آليات الصراع في المجتمع، ورؤية دور جميع فئاته في كل مرحلة من مراحل تطوره، والبحث عن نقاط الاتفاق بين مختلف فئات وطبقات المجتمع، لتجنيبه مخاطر الغرق في الصراعات التناحرية والتطرف... وهنا تبرز أسئلة حول إمكانية تلاقي الطبقة البرجوازية والطبقة العاملة وأحزابهما الليبرالية، والاشتراكية، والشيوعية لبناء الدولة على أسس حضارية علمانية ديموقراطية، وتلاقي الفكر العلماني والفكر الديني المتنور لبناء مجتمع حر خال من العنف والتطرف والاستغلال...
يوجد من يعترض على التآلف بين العلمانيين والمتدينين المتنورين، واصفاً مثل هذه الأفكار بالطوباوية بحجة أنّ رجال الدين المنظم كانوا يحتكرون مصادر إنتاج، ونشر المعرفة في المرحلة الزراعية، وما قبل الزراعية، قبل عصر التنوير وحلول الديموقراطية في الغرب، وهم يعملون اليوم على إعادة "إحياء هذه السلطة الاحتكارية على العقول"، وهم بذلك يسدون جميع سبل الاعتراف بالآخر العلماني... ويوجد متدينون متعصبون ومتطرفون قرروا أن يستولوا على السلطة، وعلى الحياة، والعقول في جميع الأمم والقارات، بل حتى على الكوكب جملة، وقرروا انتزاع السيطرة من الدولة في كل مكان يستطيعون فيه أن يفعلوا ذلك، وقرروا أن يخنقوا الحريات التي جعلتها الديموقراطية ممكنة. والعودة بالحياة إلى عصر الظلمات. يساعدهم في ذلك الأزمة التي وصلت إليها البشرية نتيجة الصراع بين حوامل العلمانية... مما قاد إلى إحياء الأصولية الدينية التي تتمترس وراء المقدس لتشن هجوماً متعصباً ضد الحداثة وضد العلمانية، مستغلة في هجومها هذا الأخطاء، والجرائم التي اقترفتها بعض الأنظمة العلمانية بحق شعوبها سواء في أوربا الشرقية، أو الغربية المساندة للاستغلال والاستعمار، أو تلك التي قامت بمحاولة بناء أنظمة علمانية في البلدان النامية، التي استولى فيها على السلطة في الشرق الأوسط، على سبيل المثال أشخاص مقتنعون "بالتحديث" في بلدانهم وأعلنوا هدفهم مهمة بناء مجتمعات علمانية، لكن هذه الأنظمة التي بنوها لم تقطع مع الاستعمار الغربي.. فضلاً عن ازدهار الفساد والاستغلال والضرب بعرض الحائط بكل المبادئ الأخلاقية... ومن هنا انبعثت الاتجاهات القائلة بأنّ الدين هو البديل... ويرى آخرون أنّه الحاضنة الأساسية للتعصب والتطرف.
لقد أثبتت التجربة التاريخية أنّ الدين حاجة اجتماعية إنسانية، من الخطأ تجاهلها، أو محاربتها، مع التأكيد على أنّ الدين وحده لا يبني دولاً ومجتمعات متقدمة متطورة... ومن الضروري بناء الدول على أسس علمانية ديموقراطية تسمح بتفتح، وتطور جميع مؤسساته وبنيانه... كما أنّ الدين ليس عدو الديموقراطية، وفي مجتمع متعدد الأديان، ومع فصل واضح بين المؤسسات الدينية والدولة، يضيف تنوع المعتقدات واللامعتقدات أفقاً جديداً إلى التفاعل الاجتماعي الديموقراطي المثمر. وفي كثير من البلدان تشكل الحركات الدينية قوة أساسية إن لم تكن وحيدة تعارض استبداد الأنظمة... بل يلعب الدين دوراً وطنياً مهماً في مقارعة الاستعمار، والاحتلال... ولقد عرفت شعوب الشرق وشعوب أمريكا اللاتينية أمثلة حية على ذلك... مما يؤكد ضرورة تآلف القوى الوطنية من دينية وعلمانية لإنجاز مهام كل مرحلة تاريخية تنتصب أمام الشعوب والمجتمعات... مع الأخذ بعين الاعتبار أنّه خلاله اليقظة الدينية العملاقة في كثير من البلدان يتكاثر المتعصبون الذين يحاولون بضراوة إحياء سيطرة ثيوقراطية قاتلة على العقول والعادات التي لا تنسجم مع مبادئ الديموقراطية... وهذا لا يقتصر على الحركات الدينية، بل إنّ بعض الحركات العلمانية لا تنسجم مع الديموقراطية أيضاً بما فيها الأيديولوجيات السياسية التي تخلط الشمولية بالعلمانية. إنّ حركات كهذه هي متناقضة مع كل التعريفات الممكنة للديموقراطية. إن التمعن العميق في هذه اللوحة يبين وجود هوامش مشتركة بين المتدينين المتنورين والعلمانيين، من الضروري تطويرها وتعزيزها، على أسس الحوار الديموقراطي، لبناء مجتمع سليم معافى بعيداً عن التطرف والاستغلال..
يقر أغلب المفكرين بضرورة إحياء الديموقراطية، التي تعد العلمانية فلسفتها السليمة، كوسيلة مجربة، وأساسية لمعالجة التحديات التي تواجه المجتمعات البشرية في عصر المعلوماتية، والقرن الواحد والعشرين... ولما كانت بنية مجتمع القرن الواحد والعشرين تمتاز بالتعددية الاقتصادية والفكرية والثقافية، فمن الطبيعي أن تنمو فيها كافة القوى والاتجاهات الديموقراطية: العلمانية، والاشتراكية، والليبرالية، والدينية، مع وجود بقايا المتطرفين من علمانيين ومتدينين وليبراليين وهيبين، التي قد ينجب بعضها التطرف والإرهاب... ولمجابهة هذا الخطر من الضروري أن يلتقي العلمانيون والمتدينون المتنورون من مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية، لقطع الطريق على القوى التي تسعى لمصادرة مستقبل ومصير المجتمعات البشرية... ومن الضروري الاستفادة من أخطاء المرحلة السابقة لاستبعاد المجابهة التناحرية بين هذه القوى والتيارات منعاً لتغذية التطرف والإرهاب.
طرطوس 16/6/2006 شاهر أحمد نصر
[email protected]
الهوامش:
(1) ـ (2) ألفين توفلر ـ تحول السلطة ـ ترجمة حافظ الجمالي ـ أسعد صقر ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1991 ـ ص 673:680
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. ماذا وراء استئناف الخطوط الجوية الجزائرية رحلاتها الجوية من
.. مجلس الامن يدعو في قرار جديد إلى فرض عقوبات ضد من يهدّدون ال
.. إيران تضع الخطط.. هذا موعد الضربة على إسرائيل | #رادار
.. مراسل الجزيرة: 4 شهداء بينهم طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزل
.. محمود يزبك: نتنياهو يريد القضاء على حماس وتفريغ شمال قطاع غز