الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بديل الكراهية

صبحي حديدي

2006 / 6 / 20
العولمة وتطورات العالم المعاصر


يؤثر عن بيل شانكلي، المدرّب الأسبق لفريق ليفربول البريطاني، هذا التعليق الصاعق حول كرة القدم: "يعتقد بعض الناس أن كرة القدم هي مسألة حياة أو موت. وأستطيع أن أؤكد لكم أنها أكثر جدّية من هذا"! والروائي الأمريكي بول أوستير اعتبر أن هذه الرياضة هي "البديل عن سفك الدماء" في الحروب الكونية، ولكن أيضاً في الحروب الأهلية. وفي مقالة قصيرة فاتنة حول أبرز دروس الألفية المنصرمة، اختار أوستير أمثولة كرة القدم بوصفها "معجزة" الأمم الأوروبية في ممارسة كراهية الآخر دون الإضطرار إلى تمزيق أوصاله في ساحة قتال: "البلدان اليوم تخوض حروبها في ملاعب كرة القدم، بجنود يرتدون السروال القصير. والمفترض أنّ هذه لعبة، وأن التسلية هي هدفها. غير أن الذاكرة الخفية لتناحرات الماضي تخيم على كل مباراة، وكلما سُجّل هدف ترددت أصداء الإنتصارات والهزائم القديمة".
والحال أن علم اجتماع اللعبة، في شطره التاريخي خصوصاً، لا يدنينا كثيراً من خلاصات كهذه فحسب، بل يكاد يبرهن عليها تحديداً، وقبل أي اعتبارات أخرى. ففي بريطانيا، بلد المنشأ، نعرف أن أبكر ممارسة لكرة القدم تعود إلى حادثة حربية وقعت في العام 1000 أو نحوه، حين احتفل البريطانيون بانتصارهم على قائد عسكري دانمركي قام بغزو بلدهم، وفشل، ففصلوا رأسه عن جسده، واستخدموا الرأس كرة قدم. بعد قرن لاحق من ذلك التاريخ، صارت إنكلترا تحتفل بأيام «ثلاثاء المَرافع» Shrove Tuesdays، وهو عيد ديني مسيحي، بإقامة مباريات لكرة القدم تستقطب بلدات بأكملها، وتضمّ قرابة 500 لاعب في كلّ فريق، وتستغرق المباراة اليوم كله، دونما قواعد ثابتة. ولقد عُرفت هذه اللعبة باسم "كرة قدم الدهماء"، لأنّ الأذى الناجم عن دوراتها شبه المنظمة كان يسفر عن العديد من الجرحى، حتى أن الملك إدوارد الثاني اضطرّ إلى حظرها في سنة 1314، وصدرت قرارات منع مماثلة عن إدوارد الثالث وريشارد الثاني وهنري الرابع.
ويشير أوستير إلى أن عنف هذه الرياضة لم يكن وحده سبب انزعاج الملوك، لأنهم في الواقع كانوا أيضاً يخشون من أنْ يؤدّي الكثير من الانغماس في هذه اللعبة إلى إلهاء الناس عن الوقت المخصص للتدرب على الرماية، وأنّ المملكة بذلك سوف تصبح أكثر ضعفاً في استعدادها العسكري لمواجهة الغزو الخارجي. وفي نهاية القرن السابع عشر تراجع دور الرماية في القتال، فاستردت اللعبة مكانتها بتشجيع خاص من شارلز الثاني، وأُدخلت عليها قواعد ثابتة عام 1801، و1836 حين وُضعت ـ في جامعة كامبرج العريقة، وليس في أي مكان آخر! ـ قواعدها الأساسية كما نعرفها اليوم.
وهذه الحظوة الخاصة التي تمتعت بها كرة القدم في ساحة القتال وفي العيد الديني كما في البلاط الملكي والحرم الجامعي، تفسر البعد السياسي العميق الذي يكتنف الكثير من المباريات، وطرائق ائتلاف الوجدان الجمعي لأمّة ما حول الكرة المستديرة. وفي نهاية الأمر، ألا يبدو ظهور الفريق الوطني موحداً هكذا في وجه أمم أخرى، وأمام أنظار مئات الملايين في أربع رياح الأرض، وكأنه المناسبة الوحيدة لتجسيد الوحدة الوطنية في صيغتها القصوى؟ ألم تكن هذه، بالضبط، حال الفريق الفرنسي حين حمل الكاس سنة 1998، بفضل لاعبيه السمر والسود والبيض، سواء بسواء، خصوصاً الجزائري زين الدين زيدان؟ وفي الدورة الماضية، هل كانت هزيمة فرنسا أمام السنغال (وليس أمام ألمانيا، او البرازيل، أو إيطاليا...) خالية من دروس علم اجتماع الإستعمار، وتصفيات الحساب المتأخرة بين المستعمِر والمستعمَر؟
ومن جانب آخر، ألا تبدو صورة «الصراع» من أجل الفوز في الملعب، وكأنها مناسبة استثنائية تتيح للأمّة أن توظّف طاقات أبنائها في قتال «نظيف» مع أمم أخرى قد تكون أكثر جبروتاً في جميع الإعتبارات، لكنها تخضع بالتساوي لقانون كوني واحد يضع الكاميرون على قدم المساوة مع هولندا، ويعطي إيران الحقّ في هزيمة الولايات المتحدة بعيداً عن معادلات الأساطيل والقاذفات والصواريخ الذكية؟ ألا يبدو ملعب كرة القدم وكأنه البرلمان الأمثل لاتحاد شعوب العالم، أو مجلس الأمن الدولي النموذجي، حيث تتساوى الشعوب في الخضوع لقوانين احتساب الهدف والخطأ وضربة الجزاء، وليس لأحد أن يكون عضواً دائماً حاملاً لسيف الفيتو المسلط على الرؤوس؟ وفي هذا الصدد بالذات، قد يكون مفيداً أن نتذكر أن عدد الأعضاء المنتسبين إلى الإتحاد الدولي لكرة القدم (الـ FIFA) يفوق ـ بكثير! ـ عدد الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة.
وإذا جاز أن تكون كرة القدم أكثر جدّية من مسألة حياة أو موت، كما رأى بيل شانكلي، فالأرجح أنّ جوهر السبب يعود إلى علم اجتماع اللعبة، وإلى السياسة الكامنة في باطن اللعب. ثمة الفخار القومي وراء هذا التصارع الرياضي الطبيعي، وانقلاب الملعب إلى ميدان استذكار الخصوصيات القومية والإثنية والثقافية، وانخراط اللاعبين في تنافس محموم للبرهنة على امتياز أممهم وهوياتهم وانتماءاتهم. وثمة، بالطبع، ممارسة تلك الهواية البشرية العتيقة: خوض الحرب الطاحنة، وإنْ بوسائل أخرى!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الزمالك المصري ونهضة بركان المغربي في إياب نهائي كأس الاتحاد


.. كيف ستواجه الحكومة الإسرائيلية الانقسامات الداخلية؟ وما موقف




.. وسائل الإعلام الإسرائيلية تسلط الضوء على معارك جباليا وقدرات


.. الدوري الألماني.. تشابي ألونزو يقود ليفركوزن لفوز تاريخي محل




.. فرنسا.. مظاهرة في ذكرى النكبة الفلسطينية تندد بالحرب الإسرائ