الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بضعة أعوام ريما: الفصل التاسع/ 3

دلور ميقري

2020 / 6 / 3
الادب والفن


بطبيعة الحال، وصل خبرُ انتشار وباء الريح الأصفر إلى ريما فيما يصل من أخبار ما صارَ يُعرف بإقليم " ما وراء الخط الحديديّ ". في ذلك الخريف، المعقّب صيف الجائحة، كانت امرأة رمّو آغا الشابة قد أكملت عاماً من إقامتها في بلدة المنفى؛ عامودا. صُدمت في البداية من مشهد البلدة، الذي كان الصيفُ قد أحرقه وجعله أرضاً يباباً. البقعة الوحيدة، المحتفظة بالخضرة، كانت شريطاً مزدوجاً يحفّ جدولاً، يشق البلدة، مع نباتات متنوعة يستخدم السكان بعضها كغذاء أو دواء. المساكن، كانت رثة لا تختلف عن أمثالها في القرى؛ وربما باستثناء دور بعض الوجهاء؛ ومنهم بالتأكيد، رجل ريما. لكنها مع مضي الوقت اكتشفت جانباً جميلاً في هذا المكان الموحش، ألا وهوَ طيبة الناس وميلهم إلى المعاشرة والمرح والطرب.
كونها حضرت للبلدة في أوج موسم حصاد الحبوب، التقت ريما بالعديد من القرويات العاملات وما لبثت أن اصطفت إحداهن لخدمتها في الدار. " حنيفة " هذه، كانت تقريباً تماثل سيّدتها في السن، وكذلك في الطول والرشاقة؛ ملامحها حسنة، لكن بشرتها الحنطية مسمرّة بسبب جو المنطقة، القاريّ. فضلاً عن الخدمة، راحت تهتم برعاية بيروزا الرضيع، لتمسي مع مرور الأيام بمثابة المربية. ترملت حنيفة مبكراً دونَ أن ترزق بذرية، ما جعلها تصب حنانها على ابنة سيدتها. من ناحيتها، كانت ريما تعامل الخادمة كأنها من أهل الدار. أفردت لها حجرة نوم جيدة، وفي أوقات غياب الآغا كانتا تتناولان الطعام سويةً وتتبادلان مختلف الأحاديث. وإنها هيَ، حنيفة، مَن فتحت صباحاً بابَ البيت للغلام الغريب، الذي ما عتمَ أن تساءل بنبرة مترددة: " أختي ريما، تقيم هنا؟ ".

***
خلال ذلك، كانت ريما تتطلع إلى ناحية باب البيت وهيَ جالسة في صحن الدار مع طفلتها الصغيرة. لما تنحّت الخادمة جانباً، رأت ريما غلاماً قصير القامة، مطرقاً برأسه إلى الأرض. عرفته فوراً، وما أبطأت في النهوض نحوه هاتفةً: " أخي حّدو..! ". عانقته مطولاً، مرددةً: " الشكر لله، الشكر لله ". انخراطه في البكاء، علاوة على ملامحه التعسة، أحالتها ريما إلى معاناته من النفي وهوَ في سن الأولاد. بعدئذٍ طلبت من حنيفة تسخين ماء الحمّام، فيما سلّمت ابنتها للخال الصغير قائلة وقد أشرق وجهها: " ستبقى بيروزا معك، ريثما أحضّر الفطور ". تخففَ ما بداخل حدّو نوعاً، وما عتمَ أن أخذ يداعب البنت. بعد قليل، دُعيَ إلى الحمّام وكانت أخته ما تفتأ في المطبخ. عندما سلّمَ الطفلة للخادمة، اشتعل داخله مجدداً بالذكريات. لكنها كانت ذكريات أيام سعيدة، كان قد قضاها في مدينة أضنة تحت سقف امرأة، أرملة ووحيدة.
" مررتَ بالتأكيد على ميكار، أليسَ كذلك؟ "، سألت ريما أخاها بينما تضع لقمة في فمه. أومأ برأسه إيجاباً، ثم أجابَ باقتضاب عن سؤالها التالي عن أحوال الأهل: " كلهم بخير ". هنا أيضاً، تبخّرت شهيته لمجرد نبش صوَر المنزل المهجور والمقبرة الكئيبة. غيرَ أنه سرعان ما سلا كل ذلك حينَ استيقظ صهره من النوم، وصار في حضنه. هذا الأخير، كما سبقَ وعلمنا، كان بمثابة الأب الحنون لحدّو لما أقام خلال ثلاث سنين في منزل ماردين. رمّو آغا، التفت من ثم نحو امرأته ليسألها مبتسماً: " هل طمأنك عن الأهل؟ "
" بلى، إنهم بخير والشكر لله "
" إذاً سنؤجل زيارتكِ لميكار إلى الربيع "، قالها الآغا ثم استدرك ملتفتاً إلى ابن حميه: " ولكن لم تقل لي، أأطلقوا سراحك عقبَ انتهاء عقوبة النفي؟ ". بكلمات مختصرة، تكلم حدّو عن كيفية هروبه من مدينة أضنة، مستغلاً الفوضى الناجمة عن انتهاء الحرب وهزيمة الدولة.

***
حسّو الحوذيّ، لم يكن مستعجلاً في العودة إلى ميكار. على أثر اطمئنانه لاهتداء راكب عربته إلى منزل الأخت، بقيَ في البلدة لتناول الفطور. سأل عن مطعم، فأشاروا له إلى دكان سمانة صغير. طلبَ خبزاً ولبناً من البائع، وكان شيخاً مرسلاً لحيته البيضاء حتى صدره. ثم جلسَ على كرسيّ في مدخل الدكان، فأخذ يتبادل الحديث مع الرجل وهوَ يأكل. بعد قليل، تزايد عدد الرجال الفضوليين ممن جذبتهم حكاية الغلام المنفيّ وكيفَ عاد إلى قريته ليجد جميع أفراد أسرته قد رحلوا بوباء الريح الأصفر.
في مساء اليوم نفسه، حضرَ إلى منزل رمّو آغا أحدُ وجهاء البلدة وكان برفقة امرأته. هذه الأخيرة، وكانت متوهمة أن ثمة عزاءً في منزل الآغا، ما لبثت أن قابلت ريما قائلةً: " صَدَمَنا ما سمعناه، رحم الله والديك وأخوتك ". بقيت ريما جامدةً لبرهة مثل تمثال، وما لبثت أن تركت صالة الاستقبال لتهرول إلى حجرةٍ مخصصة لأخيها. بعد ثوانٍ، خرجت من الحجرة وكان صوتُ عويلها يسبقها ويشق هدوءَ المساء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال


.. الفنانة ميريام فارس تدخل عالم اللعبة الالكترونية الاشهر PUBG




.. أقلية تتحدث اللغة المجرية على الأراضي الأوكرانية.. جذور الخل