الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بضعة أعوام ريما: بقية الفصل التاسع

دلور ميقري

2020 / 6 / 4
الادب والفن


4
هوَ ذا عام 1920، المُختتم بمقتل رمّو آغا على يد البدو؛ العام، الذي سيشهَدُ أيضاً رحيلَ ريما أبداً عن مَوطن الأسلاف. لم يكن بلا سببٍ ، إذن، أن يتلوّن هذا المَوطن في ذاكرتها بالأحمر القاني، طالما أنّ فراقها له اتفقَ مع نوازل مُستطيرَة، مُستهلّة بخبَر فناء أهلها في جائحَةِ الريح الأصفر. إنّ حدّو، أخاها الأصغر غير الشقيق، هوَ من تعهّدَ إخبار زوجها بالأمر، إثرَ فرارهِ من منفاه الأناضوليّ في عشيّة انتهاء الحرب ووصولِهِ إلى عامودا. ثمّة، ما لبث النبأ المشئومُ أن ذاعَ بطريقةٍ أو بأخرى. عندئذٍ، راحت ريما، المَلولة والمَصْدومة، تلحّ على رمّو آغا في العودة إلى ميكار، وكأنما لتتأكّد بنفسها من حقيقة الواقعة، الفاجعة. كان رَجُلها يُدرك، ولا مِراء، حَجْمَ هكذا مُخاطرَة؛ هوَ المَحكومُ بالنفي من لدن الدولة. علاوةً على ذلك، كان على المَرء التفكير بالأحكام العرفيّة، المَفروضة على كردستان مذ بدء العمليات العسكرية على الجبهة الروسيّة.
شاءَ الآغا أن يَسلكَ طريقاً طويلاً، على شكل قوسٍ، كي يتجنّبَ المرور عبْرَ ماردين، خشيَة ً من عيون رجال الدولة. كان قد تريّث في الانطلاق إلى ميكار، لحين حلول الربيع، حيث اتجه بعدئذٍ في العربة المشدودة بالخيل صُحبَة زوجته نحوَ بلدة قوصر ( وكانت تدعى أيضاً " تل الأرمن " بالعربية ). ثمّة، في تلك البلدة الجبليّة، الجميلة، تسنى للآغا إنقاذ طفلةٍ نصرانيّة من براثن القتلة، المُتعصّبين، بأن عقدَ قرانه عليها، شكلياً. فعلَ ذلك بمَشورةٍ من الشيخ ذاته، الذي كان يقودُ الدهماءَ ويحرِّضهم صارخاً: " علينا كمسلمين فرضُ تنفيذ فرمان سلطاننا، خليفة رسول الله، القاضي بإبادة الكفار! ". من ناحيتها، فإنّ جدّتنا حَصَلتْ على " ضرّةٍ " جديدة، لا يتجاوز عمرها دزينة من الأعوام؛ هيَ من خلّفت وراءها في ماردين زوجات الآغا، اللواتي يكبرنها سناً. بيْدَ أن رَجُلَ ريما، الشهم والشجاع، لم يَبن بتلك الفتاة الأرمنيّة المتوحّدة، المُيتّمة للتوّ، بل صارَ يُعاملها كما لو كانت ابنته. وعلى أيّ حال، فإن الفتاة رافقت ركبَ الآغا وامرأته لنحو شهر، لا أكثر.

***
" سنضطرّ لتجَشم مَشقة السّفر إلى حلب، كي نحاول العثور على أقاربها "
خاطبَ الآغا زوجته ريما، وهوَ يُومئ إلى ناحية مرافقتهما الأرمنية. كانوا عند ذلك يَجتازون نواحي ديريك بعربتهم، وقد بَدَت علاماتُ القلقِ والتوجّس على ملامحهم. فجراً، حينما كانت العتمة البهيمة تستأنسُ بعدُ بقرص القمر المُنير، تسللتْ العربة خِللَ الدروب المُوحِشة، المُقفِرة، في طريقها إلى حاضرة جبل ميكار. إذ سبقَ وأن أنذِرَ رمّو آغا من طرف أحد أقارب زوجته، بضرورة مغادرة القرية على إثر ورود خبَرٍ عن عِلْمِ السلطات بوجودِهِ فيها. الحق، فلم يكن ثمّة ما يُغري بالبقاء، بما أن ريما ألقت النظرة الأخيرة على تربة أهلها وقرأت الفاتحة على أرواحهم. إنّ السنجق نفسَهُ، بل والبلاد كلّها، أضحَت غريبة الآن في عيون الآغا وامرأتِهِ؛ العيون المُفعمَة بدموع الحزن والغضب والقهر، بعدما أبصرَت خلال الأيام الأخيرة أهوالَ القتل والاستباحة والنهب والسلب والحرق والتدمير.

***
قبل انتهاء نار الحريق العالميّ، الأول، بعام أو نحوه، قتلَ رمّو آغا أحدَ مشايخ العرب، المعروفين، من المستوطنين مع قبيلته على أطراف ماردين. زوج جدّتي هذا، الأول، حُكِمَ عليه من لدن الأتراك بالنفي إلى بلدة عامودا، في حين تمت سرغنة أخيها الأصغر، غير الشقيق، إلى غرب الأناضول بتهمة إعانة صهره خلال التخطيط للكمين القاتل. الأخ غير الشقيق، حدّو، نجا بذلك من جائحة الريح الأصفر. والدة حدّو، كانت بنفسها ابنة أحد الشيوخ العرب من المقيمين في تلك البلاد. بعد مضي عام على السرغنة، عادَ أخ ريما الأصغر إلى أهله مستغلاً الفوضى الناجمة عن انتهاء الحرب العظمى بهزيمة الدولة.
" الأهل جميعهم بخير "، هكذ أجابَ حدّو تساؤلات أخته، المُلحّة والقلقة، بعدما انتشرَ خبرُ الوباء المُرعب. فما أن خلا الفتى مع صهره، حتى انفجرَ مُنتحباً بمرارة: " لقد اضطررت للكذب عليها. كلّ أسرتنا أفناها الوباء، كلها. ولم يبقَ أحدٌ على قيد الحياة ".

5
حينما اجتازت ريما دروبَ حلب، ثانيَةً، لم تكد تصدّق أنها المدينة نفسها، المُبهرة، التي سبق وأن أسرَت مشاعرها قبل أعوام كثيرة. على الرغم من حقيقة، أن مشاهِدَ العذاب والجوع والجثث كانت قد صاحبت طريق هذه المرأة الجميلة المناهزة العقد الثاني من عمرها، إلا أن ما أبصرَته في المدينة كان أكثر هَوْلاً وفظاعة. إنّ قوافلَ الناجين من فرمان الإبادة الهمايوني، ومعظمهم من الأرمن، كانت قد تناهت إلى حلب دفعة وراء الأخرى. ثمّة، كان الكثيرُ من هؤلاء المساكين، المنحوسين، يتساقطون على طرَفيْ الطريق وهم يرفعون أيديهم باتجاه العابرين: " خبز.. نريدُ خبزاً "، ثمّ تأخذهم غيبوبة الاحتضار.
" من المستحيل أن تهتدي هذه المرأة إلى ذويها، وَسَط هذه المَهْلكة الرهيبة "
خاطبَ رمّو آغا زوجته ريما بلهجةٍ تتبطن، معاً، الألمَ ونفاذ الصّبر. تلك " المرأة "، المَعنيّة، لم تكُ سوى طفلة أرمنية لم يتجاوز ربيعُ عمرها بعدُ الدزينة من الأعوام. كانت قد طلبت منه أن يَحملها إلى أقارب لها، تعرف على ما يبدو أنهم يقيمون في حلب؛ هيَ من أظهرَت قدراً كبيراً من الامتنان، المَمزوج بالدمع، بعدما سبق وأعلمها أنها باتت حرّة. قبل أقلّ من شهر، اتفق أن وَقعَت الفتاة على قدَمَيّ الآغا مُروّعة ً ومُتوسّلة، أثناء مُطاردتها من لدن جمع من القرويين المسلمين، المهووسين. يبدو أنها كانت قد نجحَت بالاختباء في مكان ما من المنزل، حينما داهمه أولئك المتعصّبون وقاموا بقتل جميع ساكنيه. وبما أنّ رمّو آغا كان ذا مقام رفيع في عموم منطقة ماردين، فمن الأحرى أن نتصوّرَ مبلغَ خضوع المهاجمين لإرادته، حينما بدا جلياً أنه يريد حماية الفتاة. غيرَ أن شيخ القرية، المُحوَّط بدَوره بمقام الوجاهة، تقدّمَ بحَزم ليُذكّرَ الآغا بفرمان السلطان.

***
" لا سبيلَ إلى مُخالفة أمر خليفة رسول الله.. "
خاطبَ المُلّا كبيرَ وجهاء الإقليم، ثمّ استطردَ مُستدركاً: " اللهمّ إلا بأن تقترن أنتَ بهذه الكافرة، فتجعلها تسلم على يديك ".عند ذلك، التفت الآغا نحوَ زوجته ريما، التي كانت تراقبُ عن بعدٍ مناسب ما يَجري. كانت هيَ رابع نساء رمّو آغا، والأكثرَ قرباً من قلبه. هذه المرأة، الدمشقيّة المَوْلد والنشأة، لم تكُ تتجاوز الرابعة عشرة من العمر حينما اقترن هوَ بها. قبل ذلك بسنوات سبع تقريباً، كانت ريما الصغيرة قد آبَت مع أسرتها إلى المَوطن الأول، المُستلقي على أكتاف ميكار؛ الجبل المُكتسي بخضرة أشجار العفص. في الطريق إلى ذلك الموطن، إذن ، وحينما أعلن حوذيّ العربة، التي كانت تقلّ الأسرَة، أنهم أضحوا على مشارف حلب، فإنّ قلب الابنة الصغيرة راح يُشحَن بالنشوَة؛ طالما أنها سَمِعَت قبلاً بعظمَة هذه المدينة ومُضاهاتها للشامَ الشريف عمراناً ونفوساً. ثمّة، خِلل دروب المدينة الشهباء، ذهَلت الصغيرة عن مأساة رحيل أسرتها، القسريّ، والذي جَدَّ بسبب رفض والدها تزويج شقيقتها الكبرى، " نظيرة "، من كبير أولاد " الحاج حسن "؛ زعيم حيّهم الكرديّ، الدمشقيّ.
وإذن خاطرَ رمّو آغا بحريّته ( هوَ المنفيّ إلى عامودا بحكم قضائيّ )، وقبِلَ مُسايرَة رغبة زوجته، المُلحّة، في العودة معها إلى القرية. وها هوَ يُمتحن الآن في هذا الاختيار، الصّعب، الذي اشترطه عليه المُلّا. ولكن، هيَ ذي امرأته تقتربُ رويداً من موقفه: " اقترن بهذه الفتاة المسكينة، اليتيمة، واكسَبْ ثوابها "، خاطبت ريما الآغا بصوتٍ خفيض ودونما أن تظهِرَ ملامِحُها أيّ اختلاجَة من الغيرة أو التبرّم. مثلَ تلك الأرمنية سواءً بسواء، كانت هيَ أيضاً قد فقدتْ جميعَ أفراد أسرتها بضربةٍ من المَقدور، واحدة وماحقة. إنّ أخاها غير الشقيق، حدّو، كان قد أسرّ لرَجلها بالخبَر الفاجِع إثرَ فراره من المنفى الأناضوليّ. إذ سبق لحدّو أن رجعَ على أدراجهِ إلى القرية، ليَجدَ من يُخبره بالنبأ الصادِم، الصاعق: " الوباء قد أهلَكَ أهلكَ كلّهم، بما فيهم الأشقاء والأخوة ". فما أن علِمَت ريما بحقيقة الأمر، حتى جنّ جنونها حزناً وكمداً. راحتْ من ثمّ تلحّ على الآغا بفكرة الإياب إلى موطن الأهل، على الأقلّ لكي تلقي النظرة الأخيرة على تربتهم ولترويها بسَيل عبراتها.

***
في ماردين، ولدت ابنة حلوة للآغا الماردينيّ وزوجته، الشاميّة. بعيد عام تقريباً، وضعت الحرب العظمى أوزارها وما عتمَ الخلق أن استبشروا بقرب انتهاء محن القتل والجوع والتشرّد والعذاب. فما أن دخلت الابنة، بيروزا، في عامها الثالث، حتى أتى خبرُ مقتل أبيها على يد أفراد من عشيرة شمّر، انتقاماً لدم أحد زعمائهم. كان رمّو آغا في رحلة صيد برفقة أحد معاونيه، حينما وقع فريسة سهلة بيد الأعراب، الذين سبق وراقبوا تحركاته بهمّة. بيْدَ أن " بافي بيروزا " ( كما دأبت جدّتنا على نعته بكلّ حبّ )، لم يستسلم لأعدائه. ويبدو أنه قاوم ببسالة، حدّ أنهم قرروا الحفاظ على حياته والتصالح معه. ولكنه اعتقد أن الأمرَ مجرّد خدعة، فما أن اقترب رسولُ الخصوم حتى بادر الآغا لإطلاق النار. إلى ماردين، أين تقيم أسرته الكبيرة المكوّنة من ثلاث زوجات وأولادهن، تمّ نقل جثمان رمّو آغا، المُسجّى على فرسه. مرافق الآغا، الذي أبقاه الأعرابُ حياً، هوَ من رافق جثمان سيّده وحدّث أهله بتفاصيل الواقعة الدمويّة، المُفجعة.

***
" لم أعُد أذكرُ اسمَ الفتاة الأرمنية، المسكينة "
اختتمَت جدّتي حديثها. ثمّ أضافت إثرَ هنيهة صمت: " لابدّ أنها أضحَت اليومَ عجوزاً، فيما إذا كان الله قد تعطفَ فأبقاها حيّة ". خلال الفترة تلك، التي كنت خلالها مقيماً بمنزلها، كانت الجدّة قد شارَفت على بلوغ الثمانين. كانت فضلاً عن طيبتها طريفة الخلق، حدَّ أن يَحلو لها أحياناً التجديفَ على الخالق؛ على من تنذرُ لرحمَتِهِ صلواتها الخمس: " لا أدري، ماذا تجني أنتَ من إيقاظنا من هناءة النوم؟ "، تخاطبُ جدّتنا الظريفة ربَّها بالكرديّة. وتكون حينئذٍ قد بدأت تتململُ في فراشها مع تناهي صوتُ مؤذن المسجد، الداعي لصلاة الصبح.
ولكن ما أدهشني نوعاً، عندما شاءت هيَ اختتام حكايتها، أنها تكلّمت بطريقة مُغايرَة فيما يتعلق بإشكاليّة اسم تلك الفتاة، الأرمنية. لأنها لم تستخدم عندئذٍ تعبيرَ " ميرات ماييْ " ( أيْ: المَنحوسة )، الأثير لديها عادةً؛ خصوصاً، حينما يكون مَشفوعاً بذكرياتها عن مَوطن الأسلاف. إنه المَوطن، البعيدُ، الذي فقدَتْ فيه ريما خلال فترةٍ وَجيزةٍ أهلها جميعاً، ومن ثمّ زوجَها الأول والدَ ابنتها، البكر؛ الرّجل، الذي كانت تدعوهُ في كلّ مرّةٍ بحبّ: " بافي بيروزا ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال


.. الفنانة ميريام فارس تدخل عالم اللعبة الالكترونية الاشهر PUBG




.. أقلية تتحدث اللغة المجرية على الأراضي الأوكرانية.. جذور الخل