الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حمامتان.. وقمر.. وثلج أيضاً

فرج بيرقدار
(Faraj Bayrakdar)

2006 / 6 / 21
الادب والفن


"فصل من مخطوط: خيانات اللغة والصمت"
ما من جهة تفضي إلى خارج هذه الغابة الملعونة.
كل الجهات إلى الداخل.. إلى الداخل فقط.
وأنت.. ليس لك إلا أن تقبض بيديك على جمر الحلم، وتطأ بقدميك على جمر الواقع، وفي صدرك جمر كثير، يحرس قلبك في الليل، ويوقظه في الصباح، لكي لا تنسى أن الله، ليس شيئاً آخر غير الغياب في أقصى تجلياته.
إلى أين إذن هذه المسيرة الكاوية؟!
حزن ومرارة ويأس وأحلام.
صباحات مضفورة بالشوك، ومساءات مسفوحة المعنى بين أجراس الصمت ومناديل الليلك!
تنازلات صغيرة ومناورات ومواجهات دامية مع الإدارة، يقابلها حنين وضحك وبكاء ومهاترات وتفاصيل يومية تافهة فيما بيننا.
أعدنا اكتشاف الأشياء والأدوات واللعنات الأولى، التي اكتشفها إنسان ما قبل التاريخ، بدءاً من إِبَر القشّ وسكاكين العظم، مروراً بتصنيع الخيوط والأمراس والحقائب من أكياس الخبز، وصولاً إلى اكتشاف الألوان والحبر والخمر والخلّ والذاكرة والجوع والخوف والنسيان والأمل والجنون.
تعلَّمنا كيف يمكن ترقيع الثياب أكثر من مرة.. وكذلك الروح والجسد وحتى الذكريات.
كان التضامن بيننا إلى حد الموت، والتشاحن إلى حد السباب والضرب والهستيريا.
أحياناً كان يبدو لي السجن أشبه بمجتمع نسائي شرقي، مليء بالحنان والثرثرة والقهر والشكوى والنميمة، وأحياناً أشبه بمجتلد روماني مخضَّب بزئير الوحوش الكاسرة والدم وصرخات الأسرى.
ليس لكم أن تأخذوا علينا مثل هذه التناقضات أو التحوُّلات، ولا أتمنى لكم تجربة مشابهة، لتغفروا لنا صغائرنا وانتحاراتنا. يكفي أن تتذكَّروا، مثلما كنَّا نتذكر دائماً، تلك التجربة الشهيرة، التي أجريت على الفئران، والتبدلات التي طرأت على سلوكها، عندما نقلوها من حيِّز واسع إلى حيز ضيق ومغلق.
خمسة أعوام ونحن من فرع إلى فرع، ومن سجن إلى سجن، ومن باحة إلى باحة، ومن مهجع إلى مهجع، ومن مقبرة إلى مقبرة.
قد تكون الذكرى الوحيدة الجميلة في تدمر، هي تلك الشرَّاقة، التي كنَّا نرى من خلالها الجزء العلوي لسروتين متجاورتين، تتهادل عليهما وقت الأصيل حمامتان عاشقتان، واحدة أكثر سواداً من آلامنا، والأخرى أكثر بياضاً من أحلامنا.
يا إلهي.. نسيتُ ذكرى ثانية، لا تقلُّ جمالاً:
القمر..
كنا نراه بضع مرَّات في الشهر، عندما كان ينحني إلى مستوى الشرَّاقات، وهو يعبرها واحدة واحدة، متيحاً لنا أن نحمِّله ما نشاء من الرسائل والوصايا.
ـ يا رفاق أقترح توزيع سيجارة إضافية.
ـ وما المناسبة؟!
ـ القمر.. ألم تشاهدوا القمر ليلة البارحة؟!
ـ الاقتراح واضح ووجيه وغانم.. سيجارة إضافية يا شباب.. من موافق؟
ـ تعالوا انظروا تعالوا.. يا ألله.. تصوروا.. تدمر وثلج؟! أقترح توزيع سيجارة يا رفاق..
ـ البارحة وزَّعنا سيجارة بمناسبة عيد ميلاد ابنتك للمرَّة الثالثة خلال أقل من نصف عام!
ـ صدِّقني أنها تستحق، أن تولد كل يوم.
ـ ولكن نقودنا أوشكت على النفاد..لم يبق غير الاحتياطي الأخير من أجل الأدوية.
كانت السيجارة الإضافية، تُقترح لأي مناسبة، بما في ذلك مناسبة سقوط القنبلة الذرِّية على هيروشيما. ولأن اليوم نفسه يصادف ذكرى تأسيس الحزب، فقد حظينا يومها بسيجارتين إضافيتين، واحدة للحزن وواحدة للفرح.
بالفعل خلال عام نفدت نقودنا، بما في ذلك احتياطي الأدوية، وقد انقطعنا من الدخان قرابة عامين، إلى أن حلها الغامض بغموضه الرحيم، فعادت اقتراحات السيجارة إلى سابق عهدها.
بعد الإضراب الأخير صارت حياتنا أشبه بمستنقع: عجز.. وإحباط.. وكآبة.. وزهد.. وغثيان.
في السنوات الأولى كنَّا كلما سمعنا في الليل صوت فتح الباب، أي باب حتى لو كان في الباحة الأولى، تتزاحم الأحلام والتوقعات في ردهة واحدة وحيدة: النقل إلى سجن صيدنايا.
وقد خابت أحلامنا عشرات، بل مئات المرات.
في التاسعة من مساء 4/ 5/1992 صلصلت الجنازير، وقعقعت المفاتيح والمزاليج في باب الباحة.
ـ ألله يعطينا خير هالفتحة يا شباب!
ـ على الأرجح مثل المرَّة الماضية.. سيسألون إذا كان عندنا حالات تسمُّم.
ـ ربما أحضروا الرمل والإسمنت لإصلاح الباحة، بعد ما لعنوا دينها بإصلاح المجارير.
ـ لا.. واضح أنهم سيفتحون باب المهجع.
ـ هذا صوت الرقيب “آسفين”.. هو الذي يفتح الباب.
دخل المساعد محاطاً بفصيلة من العساكر، وقد ارتدوا لباسهم النظامي كاملاً بما في ذلك البيريهات:
ـ ضبُّوا أغراضكم، وسلِّموا الكتب، وكونوا جاهزين بأسرع ما يمكن.
ـ هل نأخذ معنا العوازل والبطانيات؟
ـ لا.. أتركوا كل شيء في مكانه.
ـ إلى أين سيادة المساعد؟
داخل السجن أم خارجه؟
ـ بلا كثرة حكي.. ضبُّوا أغراضكم، وكفى .
لمحنا في وجه المساعد ظلال ابتسامة غامضة، كان يحاول تغطيتها بنبرات آمرة مفتعلة.
ما إن أُغلق الباب، حتى أشرقت ملامح الحب والغفران ورغبة تبادل الأحاديث والأمنيات والتعليقات المازحة الودودة. صار المهجع حديقة، تتشاهق فيها الملائكة والنجوم والأجنحة وروائح الأهل والأصدقاء.
ـ صار النقل أكيداً.
أ نعم، النقل من المهجع أكيد، ولكن إلى أين.. ربك أعلم.
ـ إلى أين يعني سيكون.. إما “صيدنايا” وإما “المزّة”.
ـ وإما المنفردات في الباحة الخامسة.
ـ طول عمرك متشائم.
ـ وأنت طول عمرك متفائل تاريخيّاً.
ـ وهل صار التفاؤل التاريخي شتيمة عندك؟!
ـ الوقائع تشتمه أكثر من خمس صلوات في اليوم.
ـ بعد قليل سنرى.
ـ عميت عيوننا لكثرة ما رأينا.
ـ على مهلكم يا شباب.. تفاءلوا بالخير تجدوه.
ـ أنت في الأصل كان لازم تكون مع الأخوان المسلمين، بس ألله غضب عليك أكثر مما غضب عليهم.
ـ يبلوكم أيكم أحسن عملا.
ـ بركاتك يا شيخ..
الضحك لا يتوقف.. جميع الآراء والتعليقات تؤخذ على محمل النوايا الحليبية الصافية.
لم ننم.. كنَّا جميعاً متحلِّقين حول سرير الوكيلة العامة لمجمَّع الآلهة.. بانتظار أن تستيقظ، وتباشر أعمالها.
أذان الفجر وشقشقة الطيور.. شروق الشمس وثغاء الأغنام وأصوات بعيدة لأطفال يشبهون أطفالنا، يهربون إلى المدرسة أو منها، ويزدحمون على بوابة وداع، لا يعرف كيف يبكي، و لا كيف يضحك.
في الثامنة صباحاً غادرنا الباحة السادسة إلى الخامسة، هناك توقفنا قريباً من البوابة المؤدية إلى الزنازين.
كان مساعد الذاتية وسجلاته في انتظارنا.
إذن.. فليسقط الهاجس الأخير المتعلِّق باحتمال النقل إلى الزنازين أو الباحات الأخرى.
ـ اصطفّوا جيداً يا أبنائي.. لا داعي للهمس أو الوتوتة.. كلكم شهادات عالية وتفهمون الكلام.. الآن بالدور.. كل واحد سيقدِّم اسمه، ويمضي بالسلامة باتجاه تلك السيارة.
حقاً إن هذه السيارة “القفص”، والمخصصة غالباً لنقل اللحمة، أفضل ألف مرَّة من ذلك الميكرو الشيطاني، الذي أقلََّنا من فرع التحقيق إلى تدمر.
ـ الأول.. تفضَّل إلى هنا.. الإسم والكنية؟.. اسم الأب؟.. اسم الأم؟ مكان وتاريخ الولادة؟
ـ الثاني بسرعة..
ـ بعده.. حرِّك لي حالك شوية..
سُبحة مقدَّسة تكرُّ حباتُها بكل ما للإيمان من خشوع ورضا وسعادة.
ـ بعده.. الاسم والكنية؟ الأب؟ الأم؟
تلكَّأ الرفيقُ قليلاً في الإجابة، فرفع المساعد وجهه عن السجلات.
ـ اسم الأم ألا تسمع؟!
ـ أسمع أسمع ولكن..
ـ ولكن ماذا؟!
ـ لا أتذكَّر.. لقد نسيته.
ـ تنسى اسم أمك؟! هل هناك أحد ينسى اسم أمه؟!
جمجم الرفيق وملامحه تعتصر مزيجاً من القهر والحزن والخجل:
ـ هنا يمكن أن ينسى المرء اسم أمه وأبيه وحتى اسمه.
همس له أحد الشباب..
ـ كأني أتذكر أن اسمها على وزن.. حزنة أو مزنة.
ـ نعم.. خزنة .. خزنة سيادة المساعد.. خزنة.
ـ يا حيف عليك.. قالها المساعد بنوع من العتاب والتعاطف، اللذين لا علاقة لهما بما في داخل هذه الفضيحة التدمرية المجيدة من خرائب وأشباح ودم وتوابيت.
ـ انتبهوا إلي جيداً..
انتبهنا إليه جيداً..
رائد من الشرطة العسكرية، لا أستطيع أن أصفه بأكثر من أنه شديد الشبه بالحكومة.
ـ لا أريد أي حركة أو شوشرة أو كلام طالع نازل.. لا مع الحرس ولا فيما بينكم.. يكفي أننا تركناكم بدون طميشات.
ـ والكلبشات سيادة الرائد؟
ـ لا.. هذه من أجل سلامتكم.
دار المحرك..
دقائق طويلة إلى حد الاختناق، أقلعت بعدها السيارة بتثاقل شديد في البداية، وهي تترنح يميناً وشمالاً، ولكنها ما إن تجاوزت الحواجز والمناطق السكنية، حتى راحت تشق أخدود الرحلة باندفاع يعزق الأعصاب.
وحش خرافي أعمى ينهب الأرض، منطلقاً كالسهم بين جرفين شاهقين من الصمت والضجيج.
كان زئير الأشطمان، ينتهك الدورة الدموية، على امتداد جرح إسفلتي طويل ومتعرِّج، يغطِّي ثلاثمئة كيلومتر، مخنوقة بالرمل، ومصهودة بالحرِّ والقلق والانتظار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي