الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حريّة التعبير لا تشمل تبرير الجريمة

زاهر رفاعية
كاتب وناقد

(Zaher Refai)

2020 / 6 / 5
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


صاحبنا يؤمن بحقّ الإنسان في الكرامة, فقط حين يمسّ أحد ما كرامته!
يؤمن بحقّ الإنسان في الحياة, فقط حين يلتفّ حبل المشنقة حول رقبته !
يؤمن بحق الإنسان في الحريّة, فقط حين يقع هو شخصيّاً في الأسر والاستعباد!
صاحبنا كاتب كبير, يستيقظ في الصباح الباكر, يحتسي القهوة على مهل وهو يتمتّع بالحريّة و الأمان الذين تفرضهما الدّولة في المجتمع استناداً إلى شرعة حقوق الإنسان, ثم يمسك قلمه ويكتب لنا أنّ الكرامة, الحريّة والأمن هي امتيازات وليست حقوق, ولا يجوز للدولة أن (تقسر) أحد على التقيّد بحدودهم, لأنّ حريّة الفرد هي „حقّ مقدّس“!
صاحبنا يصنّف نفسه من دعاة الحريّات حين ينتقد التسلّط الديني, ولكن دعوته للحريّة لا تشمل حريّة الناس في الاعتراض على جريمة قتل واضحة وضوح الشمس في كبد السماء, ذلك لأنّ القاتل ينتمي لعرق صاحبنا المثقّف أو آيديولوجيّته, أو إلى عرق وآيديولوجيّة أولي نعمة هذا الكاتب وقلمه, بينما القتيل ينتمي لأنصاف البشر الذين أعجزوا صاحبنا الأبيض عن إمكانيّة دمجهم في الحضارة, ولم يبق أمام صاحبنا داعية الحضارة والتمدّن سوى أن يعود فيستعبدهم أو يتسلّى بقتلهم, وإن لم يجد حيلة لذلك, فلا أقلّ من أن يعمل قلمه وكلماته في نصرة القاتل ويجدّ فلسفيّاً في توصيف واقعة القتل بالـ”حادثة” بدلاً من الــ”جريمة”
يقول الفيلسوف الفرنسي- الرّوماني “إميل سيوران” : (نحن لا نعيش حياة, نحن نعيش لغة).
وبمناسبة الكلام عن اللغة يسعدني أن أخبر صاحبنا بالمدلولات الحقيقيّة لبعض الألفاظ التي يتلاعب بها طوال الوقت في تعاطيه مع قضيّة قتل مواطن أميركي أسود تحت أقدام شرطي عنصري أبيض, وكيف يستعملها كاتبنا في تشكيل عبارات مليئة بالهراء مرصّعة بالذهب كرمى لدولارات المؤسسات الثقافيّة التي يعمل لحسابها.
هناك مصطلح يا صاحبي يسمّى الجريمة, ويشير إلى فعال تلحق الأذى بأناس آخرين. وتشتمل كلمة أذى في الحدّ الأدنى على ثلاث كلمات تحيل إلى تمثّلات في الواقع (القتل-الاغتصاب- التعذيب). هذه الفعال الثلاث تسلب الإنسان حرّيته, كرامته وأمنه. هذه الفعال الثلاث تورث الألم والموت في جسد ونفس الإنسان-الضحيّة. وعلى فرض أنّ صاحب القلم يعتبر نفسه واحداً من النّاس, وعلى فرض أنّه لم ينزع عن الضحيّة إنسانيّته, فحينها يكون لزاماً عليه أن يعترف بأنّ من يمارس القتل والاغتصاب والتعذيب بحقّ إنسان آخر إنّما يقوم بفعل ينطبق عليه وصف الـ”جريمة“, وهذا التّوصيف لا يتعلّق بأي محددات خارجيّة على الإطلاق لأنّه مبدأ وليس وجهة نظر. طبعاً على فرض أنّ صاحبنا يعترف بالمبادئ.
والله غريب يا صديقي أن يكون عندك ضرب رقاب الكفّار بيد الدواعش ينتمي للإرهاب والعنصريّة الدينية, بينما ضرب رقاب الأفارقة بيد الرّجل الغربي الأبيض ينتمي لمفهوم قلّة المهنيّة والحادثة الفرديّة الغير مقصودة!! كلاهما إرهاب عنصري يا صاحبي.. فحق الحياة مبدأ وليس ذريعة.
ونحن هنا بالطبع لا نحمّل الإنسان الغربي الأبيض مسؤوليّة جريمة قام بها أحد المنتمين لهذا العرق, ففي النّهاية كلنا ننتمي للبشريّة. ولكننا نحمّل المجرم بذاته مسؤوليّة فعل الجريمة الذي قام به عن “قصد” وأكرر “عن قصد” وليس مجرّد انعدام مهنيّة في أداء الواجب. هل تعلم لماذا يحقّ لنا أن نقول بأنّه جريمة مقصودة؟
هل تعلم ماذا يحصل لو أنّنا ضغطنا بقوّة ثمانون كيلو غرام أو أكثر لمدّة ثمان دقائق فوق رقبة إنسان؟ سينقطع الهواء عن الرئتين وسينقطع الدم عن الدّماغ وستتحطّم عظام الرّقبة. كلنا يعلم ذلك ولكن الشرطي هو وشركاه في الجريمة لم يعيروا اهتماماً لذلك طوال أكثر من ثمان دقائق كانت كفيلة بإنهاء حياة المقبوض عليه. هل هذا مؤشر على فشل الشرطي في مادّة علوم الأحياء في المدرسة أم مؤشر على نيّة متجددة في القتل ثانية بعد ثانية حتّى تم التأكّد بالكامل من مفارقة الضحيّة للحياة؟
حين تأتي بإنسان وتوثق يديه وقدميه وتسيطر على حركة جسده بالكامل ولكنّك بدلاً من احتجازه وتوثيق ضبط شرطة ضدّه ومن ثمّ إحالته للقضاء أصولاً, رحت تضغط على مجراه التنفسي بركبتك لمدّة 486 ثانية متواصلة ولا تتوقّف رغم سماعك استغاثاته إلى تتأكّد بالكامل من مفارقته للحياة. هذا ليس فشلاً مهنيّاً يا صديقي, هذه جريمة قتل مقصود. ينطبق عليها ذلك الوصف سواء أقام بها سايكوبات في قبو منزله أم شرطي على قارعة الطريق.
وهنا يحضرنا قول الفيلسوف الفرنسي الرّاحل “ألبير كامو” حين قال: (نحن لا ننشد عالماً ليس فيه قتل, بل عالماً لا يبرر فيه القتل)
أما بالنسبة للحريّة فيسعدني أن أذكّرك بأنّ تأييد المجرم هو جريمة وليس حريّة تعبير, لأنّ ما قام به المجرم هو فعل جرم وليس وجهة نظر! وما الإنسان الذي يؤيّد المجرم إلّا مجرم مع وقف التنفيذ, مجرم مؤجّل, مجرم ينتظر الفرصة, مجرم في انتظار الوقت والإمكانات.
وإنّي والله ليصدمني حين أسمع منك دائماً قولك بأنّ تأييدوتهليل وتقديس بعض رجال الدين من المسلمين اليوم للغزوات والفتوحات الإسلاميّة إنّما هو شراكة في جرائم الحرب تلك وليس حريّة تعبير أو معتقد, بينما نجد من عندك تأييداً وتبريراً لجريمة قتل عنصريّة تشبه أكثر ما تشبه مشاهد الافتراس التي نراها على قنوات ناشيونال جيوغرافيك! لذلك حقّ لنا أن نسأل حضرتك السؤال التّالي: هل كان القتل والاغتصاب والاستعباد للشعوب الأخرى في الماضي جريمة أم حوادث فرديّة تنمّ عن انعدام المهنيّة في الدّعوة؟
حين نقول حريّة فنحن نقصد حريّة الإنسان في ذاته, وليس حريّة الإنسان في أن يسلب الآخرين حرّيتهم وأمنهم. الحريّة لا تشمل حريّة تبرير الجريمة والتهليل للمجرم والتصدّي بالكلمة والسلاح للصحافة الحرّة وللمواطنين الذين يصرخون في وجه المجرم, ليس هناك حريّة في إخراس الناس الذين يقومون بتوصيف جريمة المجرم ويطالبون بمحاسبته وعدم منحه حصانة عرقيّة أو فوقيّة أو حزبيّة.
لا يشفع للمجرم الذي يقوم بفعل جريمة يحمل علائم القصديّة أي توصيف أو تنميق, سواء أقام المجرم بهذا الجرم بدافع الفوقيّة الدينيّة أو العرقيّة, ولا يشفع للقاتل أنّه كان يقوم بتأدية الواجب والحرص على تطبيق القانون في أن يقوم بأكبر خرق للقانون ويرتكب جريمة تستدعي سلب حريّة أو حياة أي إنسان.
لا فرق بين دواعش الدّين الذين تعرض لنا صورهم وتصف فعالهم بالإجرام بين كل سطرين في مقالاتك وبين دواعش العنصريّة والفوقيّة النخبويّة الذين تبرر فعالهم وتدافع عن جرائمهم بحق الأقليّات والمضطهدين. لا فرق بين سكّين الداعشي فوق رقبة القبطي أو الصحفي وبين قدم الشرطي العنصري الأبيض فوق رقبة مواطن من السود. الفرق لا يكمن لا في المشهد ولا في الدلالات, فإنّها لا تعمى الأبصار, ولكن تعمى الأقلام التي تخطّ فوق الأوراق. الأقلام التي أعمتها دولارات المراكز البحثيّة التي تموّلها الشركات العابرة للقارات.

وفي الختام: ما حصل في أميركا هو جريمة, ومن حقّ النّاس أن تخرج وتصرخ وتقول عنها أنّها جريمة, ومن حقّ الناس أن تطالب بالعدالة وتطبيق القانون على الجاني, لأنّه وبغير ذلك فالدور لن يطول حتى يأتي عليهم جميعاً.
المجرم هو رجل الشرطة وزملاؤه العنصريون الذين قاموا بقتل “جورج فلويد” بدم بارد وعن كامل القصديّة, هم وكل من تواطأ معهم في تأديتهم لجريمة الخنق حتّى الموت. هم وكلّ من يبرر تلك الجريمة ويتّهم المتظاهرين بأنّهم هم المجرمين, هذا لم يعد وجهة نظر وحريّة تعبيرفرديّة, لاسيّما إن كانت تصدر من عند كاتب يدّعي الثقافة والقلم إلذا أنّه يغمس قلمه في دم القتيل قبل أن يتحفنا بمقالاته حول مهنيّة عمل الشرطة وحريّة تأييد القاتل والتركيز على جريمة تزوير 20 دولار واستحقاق فاعلها للإعدام الميداني خنقاً حتّى الموت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السيسي ينصح بتعلم البرمجة لكسب 100 ألف دولار شهريا!


.. تونس.. رسائل اتحاد الشغل إلى السلطة في عيد العمّال




.. ردّ تونس الرسمي على عقوبات الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات


.. لماذا استعانت ليبيا بأوروبا لتأمين حدودها مع تونس؟




.. لماذا عاقبت الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات تونس؟