الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسلافنا المزارعون

الهيموت عبدالسلام

2020 / 6 / 5
الصناعة والزراعة


على مدى 2.5 مليون سنة تغذى البشر على النباتات وصيد الحيوانات ،انتشر العقلاء (الإنسان الحالي) من شرق إفريقيا ثم الشرق الأوسط ومنها إلى أوربا ليصلوا أخيرا إلى أميركا وأستراليا ،وكانوا في كل مكان ذهبوا إليه واصلوا العيش بجمع النباتات البرية والحيوانات البرية، كل هذا تغير قبل 10 ألف سنة، بدأ العقلاء في تكريس كل جهدهم في تدجين بعض الحيوانات والنباتات ،فقاموا من شروق الشمس إلى غروبها في زرع البذور،وسقي النباتات ،ونزع الحشائش من الأرض،وقادوا الخراف إلى المراعي الجديدة وهم يتطلعون إلى مراكمة مزيد من الثمار والحبوب واللحوم ، إنه انتقال من مرحلة القطف والصيد إلى الثورة الزراعية.
بدأ التحول للزراعة قبل 10 ألاف سنة في الجنوب الشرقي لتركيا ،وغرب إيران ،وشرق المتوسط ، زُرع القمح ودُجن الماعز قبل حوالي 9000 ق م، وزرعت البازلاء والعدس حوالي 8000 ق م ،أما أشجار الزيتون فزرعت في حدود 5000 ق م ،ودجنت الخيول حوالي 4000 ق م،وزرعت كروم العنب حوالي 3500 ق م ،ومع هذه السنة اكتملت الموجة الكبرى للزراعة والتدجين ،وحتى اليوم ومع كل تقنياتنا الحديثة فإن أكثر من 90٪ من السعرات الحرارية التي تغذي البشرية تأتي من تلك الحفنة الأولى من النباتات التي زرعها أجدادنا في الفترة مابين 9500 و3500 ق م كالقمح والرز والذرة والبطاطس والدخن والشعير،بدأ الناس في أمريكا الوسطى في زراعة الذرة والفاصوليا دون أن يعرفوا شيئا عن زراعة القمح والبازلاء في الشرق الأوسط ،وتعلم سكان أمريكا الجنوبية كيف يزرعون الذرة ويربون اللاما دون أن يدركوا ما يحدث في المكسيك أو الشرق الأوسط ،أما الثورة الزراعية في الصين فبدأوها بالرز والدَّخن والخنازير ،وكان أوائل المزارعين في شمال أمريكا قد تعبوا من تمشيط الشجيرات المتشابكة بحثا عن قرعيات للأكل فقرروا زراعة اليقطين ،تحكم سكان نيوغينيا بقصب السكروالموز ،بينما أنتج المزارعون في إفريقيا الوسطى الدخن الإفريقي والرز الإفريقي ونجيل السورغم والقمح ،وبحلول القرن الأول الميلادي أصبح أغلبية البشر حول معظم العالم مزارعين.

السؤال لماذا انطلقت الثورة الزراعية في الصين والشرق الأوسط وأمريكا الوسطى وليس في أستراليا أو ألاسكا أو جنوب إفريقيا ؟ ببساطة لأن معظم النباتات لم يتمكن العقلاء من استئناسها ،تربية الفطر صعب ،والوحوش الضخمة متوحشة جدا ،ومن بين آلاف الأنواع التي اصطادها أو جمعها العقلاء كان القليل منها ملائمة للزراعة والتدجين ، وهذه الأنواع القليلة التي عاشت في أماكن محددة هي الأماكن التي حدثت فيها الثورات الزراعية. يتحدث الباحثون أن الثورة الزراعية كانت بمثابة قفزة عظيمة نقلت الإنسان من الحياة القاسية للصيادين الجامعين إلى حياة الفلاحين المستقرة ، الحقيقة أن الحياة الجديدة للمزارعين لم تؤذن بحياة سهلة للفلاحين بل أصبحت حياتهم أقسى وأصعب وأتعس من حياة الصيادين الجامعين ،قد زادت الثورة الزراعية بكل تأكيد من المجموع الكلي لكمية الطعام الذي أصبح تحت تصرف البشر ولكن الغذاء الفائض لم ينتج عنه نظام غذائي أفضل أو وقت فراغ أكبر،عمل المزارع الاعتيادي بجهد أكبر من سلفه الجامع الصياد ،وحصل في المقابل على نظام غذائي أسوء،وأصبح ما يأكله الفلاحون حفنة من النباتات تتضمن القمح والرز والبطاطس حتى قيل أن ليس الإنسان من دجّن النباتات بل النباتات هي التي دجنت الإنسان.

كان القمح قبل 10 ألف سنة مجرد أحد أنواع الأعشاب البرية،كانت زراعته محصورة في منطقة صغيرة بالشرق الأوسط ،وحوالي 3000 سنة غدا منتشرا في جميع أنحاء العالم،وأضحى القمح من أنجح النباتات في تاريخ الأرض،وأصبح القمح يغطي ما يقارب 2،25 مليون كلم مربع من سطح الأرض ،أي ما يساوي عشرة أضعاف مساحة بريطانيا،بعدما كان الإنسان يعيش حياة الصيد والقطف بجهد أقل والكثير من أوقات الفراغ ،أصبح الفلاح يعمل من الفجر إلى الغسق لرعاية القمح ،حقول القمح لا تحب الأرض والحصى ،القمح لا يحب مشاركة مساحاته أو مائه أو غذائه مع بقية النباتات ،يعمل الفلاحون حتى تتكسر ظهورهم ،ويكابد النساء والرجال وهم يزيلون الأعشاب تحت الشمس الحارقة،وحين يمرض القمح على الفلاحين أن يراقبوا الديدان والطفيليات ،وحتى لا يتعرض القمح للجراد والفئران بنى الفلاحون سياجات ووقفوا حرسا عند الحقول ،وحين يعطش القمح يجب على الفلاحين أن يجلبوا له الماء من السواقي والينابيع البعيدة ، بل إن جوع القمح ودَلاله جعل الإنسان يجمع روث الحيوان لتغذية الأرض التي ينمو عليها.
لم يتطور جسم البشر العقلاء للقيام بهذا العمل المضني ،تكيّف لتسلق أشجار التفاح وصيد الأرانب والغزلان ،وليس لتنظيف الحقول من الحجارة والحصاد والحرث وحمل دلاء المياه ،إن الذي دفع الثمن هو العمود الفقري والركَب والأكتاف والرقاب ،تشير دراسة الهياكل العظمية العتيقة إلى أن التحول إلى الزراعة نجم عنه العديد من العلل كانزلاق الغضاريف والفتق والتهاب المفاصل ،أضف إلى ذلك الكثير من الوقت الذي يفرض على الفلاح أن يكون في حقله .
كيف أقنع القمح الإنسانَ ليقبل بحياة بائسة ؟ فالقمح لم يمنحه غذاء أفضل ،والحبوب شكلت نسبة ضعيفة من نظامه البشر الغذائي المتنوع قبل الثورة الزراعية، وأن النظام الغذائي التي يعتمد على الحبوب نظام فقير من حيث الأملاح المعدنية والفيتامينات ،وصعب الهضم وسيئ للأسنان واللثة ،كان الجامعون الصيادون قبل الثورة يعتمدون على عشرات الأنواع في غذائهم وكان يمكنهم النجاة في سنوات القحط دون تخزينهم للطعام ،فإذا شُحّ نوع من الأنواع توفرت أنواع أخرى،بينما اعتمدت المجتمعات الزراعية في أغلب استهلاكها على أنواع قليلة من الحبوب وأصبح الغذاء الرئيسي القمح و البطاطس والرز ،وإذا انقطع المطر ووصلت أسراب الجراد وأصابت الفطريات الحقولَ مات الفلاحون جوعا بالآلاف والملايين.
جلبت الزراعة العنفَ أكثر مما عاشه الجامعون الصيادون ، زراعة القمح اقتضت توسيع الأراضي والبحث عن مراعي جديدة وحرق الغابات مما أشعل نزاعات وحروب وحين ينسحب الفلاح تكون خسارته أكثر فهو لا يقدر أن يحمل معه مسكنه وحقوله ومخازن الحبوب الشيء الذي يجعل الفلاحين يقاتلون لآخر لحظة.

تشير الدراسات الأناسية والآثارية إلى أن العنف البشري في المجتمعات الزراعية كان مسؤولا عن 15٪ من الوفيات ،كان العنف في نيوغينيا مسؤولا عن وفيات 30٪ من الذكور في قبيلة غاني ،وعن 35٪ في قبيلة إنجا ،وحوالي 50٪ من الذكور البالغين في قبيلة ووراني في الإكوادور.
جلبت الزراعة فوائد للمزارعين ككل إذ حمتهم من الحيوانات المفترسة والأمطار والبرد ولكن لم تجلب الغذاء الكافي والأمن للفرد الواحد ،كما لا يقاس النجاح الاقتصادي لشركة ما بكمية الدولارات في بنكها بل بسعادة موظفيها.
صفقة القمح مرهقة جدا في تاريخ الإنسان والتحسينات البسيطة تحولت إلى أغلال في أعناق المزارعين ،بعدما كانوا ينشرون البذور على السطح بدأوا يجرفون الأرض ،وحين ودّعوا حياة الرحل واستقروا وبنوا بيوتا حجرية ، وازداد عدد الأطفال واعتمدت الأم على العصيدة بدل حليبها ضعُف الجهاز المناعي ،وكثرت الأمراض للاحتكاك بالحيوانات ، واحتاجت الحقول لأيدي عاملة والتي ستصبح أفواه إضافية في حاجة للطعام ،وأصبحت صوامع ومخازن الحبوب تغري اللصوص والأعداء فاضطر الفلاح لبناء الأسوار والحراسة ...
مِلكية الفلاح هي السبب الرئيسي في فقره ومهانته ، في ظل تطور النظام الإقطاعي أصبح الفلاح قنا ،وفي ظل التطور النظام الرأسمالي أصبح عاملا أجيرا ،الفلاح من يعمل أكثر ويستهلك أقل ،الفلاح وحده من تجده رأسماليا يستخدم نفسه كأجير،ومالك أرض ،وعامل يعمل لدى نفسه ،كرأسمالي يحصل على الربح ،وكمالك أرض يحصل على الريع (الإيجار)،وكعامل يحصل على أجر ، وغالبا ما تنهب الرأسمالية الربح والريع ولا يتبقى له إلا الأجر ، ومع كل ذلك يقول ماركس "إن الفلاح يظل مرتبطا بغرام شديد لقطعة الأرض التي لديه وبملكيته المحض إسمية "،
الفلاح الصغير الشقية والتعيسة حياتُه الذي جرب كل أشكال الضنك والكدح والعبودية والرهن والديون والضرائب والهدرة بقي معلقا بين الخوف من أن ينزلق إلى عامل أجير ويطمع في أن يصعد لصفوف المالكين المتوسطين والكبار.
إنه مسلسل قاس وتعس ولم يعد هناك مجال للعودة للوراء فالفخ قد انطبق بإحكام .

عن وبتصرف في كتاب "العاقل مختصر موجز للنوع البشري " مؤلفه "يوفال نوح هَراري" ترجمة "حسين العبري" و "صالح بن علي الفلاحي"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تغطية خاصة: قيس سعيد رئيسا لتونس لولاية ثانية بـ90.69% من ال


.. التداعيات الكبرى.. كيف غير 7 أكتوبر المشهد الجيوسياسي في الش




.. أتراك يحيون ذكرى مرور عام على طوفان الأقصى بإسطنبول


.. مراسل الجزيرة يرصد اللحظات الأولى بعد قصف إسرائيلي على مخيم




.. مسيرة داعمة لفلسطين ولبنان في شوارع ميونخ الألمانية