الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة1

محمود شقير

2020 / 6 / 6
الادب والفن


بدا الأمر كما لو أنه إشاعة، ولم يلبث أن اكتسب صفة اليقين، وأنا صرت متيقظاً لأية كلمة أو خبر. أخذت أسماؤنا تظهر على صفحات الجرائد، وتتردد في نشرات الأخبار. منذ سنوات ونحن أسرى لنشرات الأخبار، تتقرر مصائرنا وبعض شؤون حياتنا من خلالها. يرن جرس الهاتف في بيتي دون انقطاع (بيتي الذي استأجرته منذ ثلاث سنوات في حي عرجان القريب من دوار الداخلية في مدينة عمان، بعد عودتي من مدينة براغ، وفيه مكتبتي التي أعدت تأسيسها من جديد. فيه أشياء أخرى غير الكتب، وذكريات). ثمة أصدقاء يعبرون عن فرحتهم، ويرددون كلمات تليق بالمناسبة.
الساعات الأخيرة الفاصلة، كم هي عذبة! وكم هي مرهقة للأعصاب، بسبب مجموعة من الارتباطات! مثلاً: علينا أن نكون ظهراً في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية لإجراء بعض الترتيبات، وعلينا أن نذهب مساء لمقابلة بعض الجهات الرسمية الأردنية، لإضفاء مزيد من الأهمية على هذا الأمر الذي لم يحدث ما يماثله طوال سنوات الصراع، وعلي أن أكتب مقالتي الأسبوعية ومن ثم أرسلها للصحيفة اليومية التي داومت على الكتابة فيها منذ سنتين. سأكتب مقالة أودع فيها زملائي في الصحيفة وكذلك القراء.
وأثناء ذلك، كان علي أن أختلي بنفسي، ولو لدقائق، لكي أتمكن من استيعاب المفاجأة، ولكي أسرح النظر في سنوات المنفى، لأعاين ما تركه المنفى في نفسي من جراح وآلام، وما أدخله إلى نفسي من مباهج وآمال. لكنني لا أتمكن من ذلك بسبب ضيق الوقت، وبسبب كثرة الارتباطات التي فرضتها الساعات الأخيرة الفاصلة. أقود سيارتي في شوارع عمان (سيارة روسية حمراء اللون من نوع "لادا"، اشتريتها لا لجودتها وإنما لأنها الأقل ثمناً بين السيارات الجديدة المعروضة هنا)، أتوقف أمام الإشارات الضوئية، أتأمل بسرعة خاطفة البنايات والأشجار وجموع الناس، أبتسم حيناً، وتطفر الدموع من عيني حيناً آخر، وأمضي.
ها أنذا أعود إلى الوطن بعد غياب قسري دام ثماني عشرة سنة (إحدى الإشاعات التي تم تداولها تقول: إننا عائدون إلى الوطن لتولي مسؤوليات تنفيذ الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة، بالاتفاق مع الإسرائيليين. ولم يكن وقع هذه الإشاعة على أذني مقبولاً بالنظر إلى عدم شعبية فكرة الحكم الذاتي بمواصفاتها الإسرائيلية المجحفة).
لم أفقد الأمل في العودة، غير أن المنفى كان يأخذني إلى تفاصيل متشابكة، فلم أعد أفكر في شكل العودة التي سوف تأتي ذات يوم.
وها أنذا أعود على نحو لم يكن يخطر لي ببال.
أجتاز الجسر الذي لطالما تغنت به فيروز لأقف وجهاً لوجه أمام الجنود.
وكنت أعود ومعي أول فوج من المبعدين العائدين، الذين تركت سنوات الإبعاد الطويلة أثراً بيناً في نفوسهم، ونسجت شبكة معقدة من الروابط والمصالح وأساليب العيش التي يصعب بترها، مرة واحدة دون جراح.
تحدثوا عن الألم الذي تجرعوه حينما اقتلعوا من جذورهم الأولى قبل عشرين أو خمس وعشرين سنة، ثم ها هم الآن، وقد تقدم بهم العمر في المنفى، مرشحون لعودة مباغتة، يتعين عليهم بموجبها أن يمدوا جذورهم من جديد في تربة الوطن، رغم تعقد الأوضاع، ورغم الحقيقة التي تقول إن الوطن ما زال يرسف في الأغلال.
حينما سألني الصحافيون على الجسر: ما الذي ستفعله بعد العودة؟ أجبتهم كما لو أنني أضع على نفسي شرطاً مسبقاً: سأكتب وأكتب وأكتب. كنت أحاول -ولو عن طريق نثر الوعود- تعديل التوازن المفقود، بين رغبتي في الكتابة، وانهماكي في العمل السياسي المباشر الذي جرته علي هزيمة حزيران. كنت دائم القلق ولا أعرف الطمأنينة إلا على فترات متقطعة.
وكنت أعود وأنا أعاني من هزيمة أخرى، تمثلت في انهيار ما اعتبرته حتى وقت قريب، تجسيداً للفكرة التي آمنت بها. كانت لي أحلام كبيرة وتطلعات، فإذا كل شيء يتهاوى كأنه بناء من قش. كان أفق العدالة المنشودة يبتعد، وعلي الآن أن أمحص كل شيء من جديد، للخروج من تحت هذا الركام، لعلّي أظفر بطمأنينة ما.
على الجسر، أعادتني رطانة الجنود إلى أجواء السجن التي تثير الأعصاب. حاولت تبديد الأحاسيس الناتجة عن ذلك، بالنظر إلى التلال الصامتة المحيطة بالمشهد. كانت التلال سادرة في صمتها ولم يكن المشهد متوازناً، رغم ارتمائنا على صدر الأرض، نقبلها.
وها أنذا أعود ومعي زوجتي وابنتي. ابني أمين هو الوحيد من أبنائي الذي سيبقى في عمان، بسبب ارتباطه بعمل وظيفي في إحدى شركات الكمبيوتر. اثنان من أبنائي، خالد وعصام، مقيمان الآن في القدس، وكذلك ابنتي باسمة التي تزوجت قبل عام في عمان، وعادت مع زوجها إلى القدس. أحببت عمان، وتنوعت نشاطاتي فيها. عملت فيها مدرساً وصحافياً وكاتب دراما وناشطاً حزبياً، وكان يتعين عليّ في اللحظة الحاسمة أن أغادر المدينة.
يتبع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث