الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأمير المتأمل في روحه لناصر خمير: فيلمٌ إيماني صوفي ناطقٌ بالسياسة

مريم الحسن

2020 / 6 / 6
الادب والفن


« بابا عزيز , الأمير المتأمل في روحه » هو فيلم تونسي الإخراج دولي الإنتاج . دعمته و شاركت في إنتاجه عدة مؤسسات ثقافية, حكومية ودولية , من بينها وزارات الثقافة في كل من تونس و إيران و فرنسا و سويسرا ومنظمة الفرانكوفونية الدولية. بدأ مخرجه ناصر خمير العمل عليه منذ العام 1992 غير أنه لم يستطع إتمامه إلا عام 2005 و من ثم تم عرضه لأول مرة عام 2006. يُعتبر هذا الفيلم بمثابة الجزء الثالث من ثلاثية سينمائية أطلق عليها ناصر خمير عنوان "ثلاثية الصحراء", و هذه الثلاثية عبارة عن رحلة صوفية بدأها خمير عام 1984 بفيلم "الهائمون" و من ثم تابعها عام 1987 بفيلم "طوق الحمامة المفقود" ليكملها عام 2006 بفيلم "بابا عزيز أو الأمير المتأمل في روحه".

كتب سيناريو الفيلم المخرج ناصر خمير و شاركه فيه الإيطالي تونينو جويرا الذي عمل مع أنتونيوني وفلليني وتاركوفسكي وأنجيلوبولوس وغيرهم من كبار المخرجين. تم التصوير في إيران وتونس، مع ممثلين من إيران والعراق وتونس وكردستان والجزائر. و الفيلم ناطق باللغتين الفارسية والعربية. إدارة تصويره أوكلت مهمتها للإيراني محمود كالاري أما الموسيقى التصويرية التي هي مزيج من الفارسية والهندية فكانت من تصميم المؤلف الموسيقي الإيراني أرمان عمار. أدوار البطولة الرئيسية في الفيلم تشاركها كلٌّ من الطفلة مريم حميد (عشتار) و الممثل الإيراني برفيز شاهنخو (بابا عزيز).

فكرة الفيلم
الدوافع التي قادت المخرج خمير إلى العمل على الفيلم يفسرها هو كما التالي: « لو كنت تسير مع والدك، وفجأة يقع على الأرض، ويتلطخ وجهه بالوحل، ماذا كنت ستفعل؟ حتماً سوف تساعده على النهوض وتمسح بقميصك الوحل عن وجهه. وجه أبي يرمز إلى الإسلام، وأنا أحاول أن أمسح بفيلمي الوحل عن وجهه.. وذلك بإظهار الثقافة الإسلامية الودودة، المتسامحة، المنفتحة، المليئة بالحب والحكمة. الإسلام الذي هو مختلف تماماً عن الإسلام الذي صوّرته "الميديا" بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك. فالتشدّد والتعصب، إضافةً إلى التطرّف، بمثابة مرآة محرّفة تعكس صورة مشوهة للإسلام. فيلمي محاولة متواضعة لاستعادة الصورة الحقيقية للإسلام. ليس هناك أي مهمة أخرى أكثر إلحاحاً، بالنسبة لي، من هذه المهمة: أن أقدّم "وجها" لملايين من المسلمين الذين غالباً، إن لم يكن دائماً، يكونون أول ضحايا الإرهاب الذي يمارسه بعض المتشدّدين. ومع أن هذا الفيلم مبنيّ على التقليد الصوفي البهيج والمانح للحب، إلا أنه أيضاً فيلم سياسي إلى حدٍ بعيد، وعلى نحو مقصود. من الواجب علينا، في الوقت الحاضر، أن نعرض للعالم مظهراً آخر للإسلام وإلا فإن كل واحد منا سوف يختنق من جراء جهله بالآخر».

أما عن مضمون القصة الأدبية التي نشأ عليها الفيلم فيقول عنها خمير : « فكرة “الأمير” خطرت لي عندما شاهدت في إيران صحناً جميلًا من الفخار، يعود إلى القرن الثاني عشر، يحتوي على رسم يُظهر أميراً ينحني على الماء، وثمة كتابة منقوشة تقول “الأمير الذي يتأمل روحه”. هذه الصورة أسرتني إلى حد إنني بدأت أفكر في استخدامها كنقطةٍ أبني عليها عملًا، وهذا ما جعلني أقرّر تصوير الفيلم في إيران. أن أحقّق الفيلم كعمل متصل بفنان القرن الثاني عشر. لا أعرف إن كانت مصادفة محضة (أم شيئاً آخر) أن نصوّر أجزاء من الفيلم في مدينة قاشان بإيران، وهي المدينة التي تم صنع ذلك الصحن فيها».

ملخّص الفيلم
تدور أحداث الفيلم في قالب صحراوي تماماً غير محدد بمعطى جغرافيٍ صريح , جلّ مشاهده كثباناً من رمال تمتد مشكّلة , على مدار ستة و تسعين دقيقة هي مدة الفيلم, لوحةً طبيعية أحادية اللون, أرادها المخرج خلفيةً بدوية الطابع و روحية الوجهة, لحبكةٍ إيمانية و فلسفية عميقة المعنى , زاوجت ما بين خيال و الفنتازيا و الفكر الصوفي, و تسلسلت بوقائعها بأسلوبٍ حواري قارب التعبير الحر أكثر منه النص المكتوب, فأبطاله يرتحلون في فضاءٍ واسعٍ مفتوح الأفق على معانٍ فلسفية و إيمانية عميقة لا يحدها قيد جغرافي معروف أو تاريخ زمني معلوم. أما الفيلم باختصار, فهو عبارة عن قصة صوفية, إطارها العام يروي تفاصيل رحلة حجٍ جماعي لمجموعة متفرقة من الدراويش ,غير المتعارفين , يجمعهم هدفٌ واحدٌ مشترك هو وصولهم إلى مكان حجّهم المقصود غير المعلوم الوجهة أو الطريق إليه, فكل واحد منهم يتبع بوصلة حدسه الإيماني و يسترشد بقلبه للاستدلال على طريقه نحو غايته المنشودة. أما إطار القصة الخاص , والذي هو محور الفيلم الرئيسي وعماده , فمبني على سرد حواري لتفاصيل رحلةٍ غامضة المغزى يقوم بها درويش صوفي , عجوز و ضرير , ترافقه حفيدته نحو غاية خاصة لا يعرف ما هيتها إلا هو, ولا تكتشفها حفيدته ,و معها المشاهد أيضاً , إلا في نهاية الفيلم.

تحليل الفيلم

رسائل ثقافية و أخلاقية
يبدأ الفيلم بمقدمة افتتاحية تتضمن , بالإضافة إلى عنوان الفيلم وعرض أسماء المشاركين بالعمل, مشهداً صوفياً لدرويشٍ رثّ الثياب يمارس رقصة الدراويش اللولبية دائراً حول نفسه في مكان مغلق غير معروفٍ ما هو, إلا أن الجدران الرملية المحيطة به توحي بأنه قد يكون ربما قبراً واسعاً. يترافق هذا المشهد الممتد على طول المقدمة منذ الثانية 00:00:26 حتى الدقيقة 00:02:00 مع خلفية صوتية قرآنية تردد الآيات (33) و (34) و (35) من سورة آل عمران. و ينتهي بمشهد وقوع الدرويش على الأرض مغشياً عليه, لتليه بعدها خلفية سوداء صامتة كُتب عليها باللغة العربية وبخط فني جميل العبارة التالية : « الطرق إلى الله بعدد نفوس الخلائق».

و كما يقول المثل الشعبي « فإن المكتوب يُقرأ من عنوانه ». و هذا المشهد الافتتاحي بكامل محتواه الصوتي و الصوري و الكتابي يُمثل واحدة من عتبات فهم مضمون الفيلم وأهدافه, بكل أبعادها الدينية و الفكرية و السياسية و الثقافية. فالافتتاحية تتلاقى بشكل واضح مع فكرة المخرج من الفيلم. و التي كان قد سبق وعبّر عها في عدة حوارات صحفية أجريت معه, و هي أن الهدف من فيلم ه"بابا عزيز" هو توجيه رسالة أرادها متفرعة إلى خطابين واحدهما ديني وثانيهما سياسي. فالخطاب ديني قصد منه خميرتعريف المشاهد المسلم على وجه الإسلام الآخر المغاير لما تربى عليه, ذلك الوجه المحب السمح و الرحيم المتمثل في الفكر الصوفي. والخطاب سياسي هدف منه مخاطبة الفكر اللا إسلامي (الغربي تحديداً) الذي يتخذ من وجه الإسلام المشوّه و العنيف الذي تمثله بعض الفرق و المذاهب لإسلامية حجةً للترويج لثقافة الرهاب من الإسلام و من المسلمين, و لتبرير قرارات محاربته فكرياً في الغرب و إخضاع بلدانه و شعوبها عسكرياً في الشرق.

مضمون الآيات القرآنية الواردة في المقدمة الافتتاحية, تشكل خطاباً إسلامياً صريحاً يؤكد على وحدة القيم المشتركة في كل الأديان السماوية, و تُظهر تقبل الإسلام لباقي الأديان بدليل احتواء القرآن على سُوَرٍ و آياتٍ تمجد كل الأنبياء السابقين لاسيما المسيح و أمه مريم, و هذا التأكيد يتجلى صراحةً في المعنى الذي تتضمنه عبارة « ذرية بعضها من بعض». أما الهدف الذي رمى إليه خمير من خلال إيراد هذه الأيات الثلاث في مقدمة فيلمه بالإضافة إلى عبارة التي ختمها بها « الطرق إلى الله بعدد نفوس الخلائق», هو توجيه رسالة مزدوجة الخطاب و ذات بعدين اثنين :واحدهما ديني أخلاقي يخاطب الذات المسلمة لتوعيتها و لتربيتها على قيم المحبة و المسامحة و قبول الذوات الأخرى المخالفة لها عقائدياً و فكرياً بدليل أن الطريق الموصلة إلى الله متعددة الأوجه من عدد ذوات محبيه ومتعبّيديه. و ثانيهما ثقافي سياسي يخاطب الذات غير المسلمة عبر مصافحتها بكلام قرآني , عربي الثقافة و إسلامي الفكر, يمجد أديان الثقافات الأخرى و يمدح رموزها المقدسة في مبادرة تحاورية فنية إنسانية عابرة للثقافات, الغاية منها إظهار القبول للآخر, وإماطة اللثام عن وجه معتدل موجود في الإسلام , لطالما لاقى الآخر بكل محبة وإنسانية و لا يزال ينتظر أن يلاقيه هذا الآخر بقبولٍ ثقافي مماثل.

رسائل سياسية ودينية
يقول ناصر خمير رداً على سؤال طُرح عليه عن سبب كتابته و إخراجه لفيلم باب "بابا عزيز" وعن دوافعه من عرضه في هذا التوقيت بالذات : «  أنا أحاول (…) إظهار الثقافة الإسلامية الودودة، المتسامحة، المنفتحة، المليئة بالحب والحكمة. الإسلام الذي هو مختلف تماماً عن الإسلام الذي صوّرته "الميديا" بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك (…) فيلمي محاولة متواضعة لاستعادة الصورة الحقيقية للإسلام. ليس هناك أي مهمة أخرى أكثر إلحاحاً، بالنسبة لي، من هذه المهمة: أن أقدّم "وجها" لملايين من المسلمين الذين غالباً، إن لم يكن دائماً، يكونون أول ضحايا الإرهاب الذي يمارسه بعض المتشدّدين. ومع أن هذا الفيلم مبنيّ على التقليد الصوفي البهيج والمانح للحب، إلا أنه أيضاً فيلم سياسي إلى حدٍ بعيد، وعلى نحو مقصود ».

هذه الفكرة بكامل رسائلها السياسية نجح خمير بمهارة في توصيلها من خلال عدسة كاميرته , و هي تتجلى صراحةً و بوضوح تام في فيلمه « بابا عزيز », و بلغةٍ سينمائيةٍ مجازية التعبير أتقن أداءها فمكنّته من إتمام تجسيد مقاصده ببراعة ملفته و ببلاغية تصويرية جميلة اعتمد فيها فن التورية أسلوباً, لا سيما في مقطعين اثنين حملا كل زخم هذه الرسائل التي أراد إرسالها إلى ملايين المشاهدين في الداخل الإسلامي و في خارجه: المقطع الأول يقع في بداية الفيلم أو بالأحرى يبتدئ به الفيلم عند الدقيقة 00:02:44 , والمقطع الثاني يقع تقريباً في نهاية منتصف الفيلم عند الدقيقة 00:48:15 و يمتد حتى الدقيقة 00:52:30.

رسالة المشهد الأول:
الولادة الجديدة
يفتتح الفيلم أولى رسائله السياسية بمشهدٍ مجازي يمتد من الدقيقة 00:02:44 حتى الدقيقة 00:04:19 , و هو يتمثل بخروج الحفيدة (عشتار) من تحت الرمال التي طمرتها باحثة عن جدها و منادية عليه : « بابا عزيز… بابا عزيز... » , ليجيبها الجد لاحقاً و هو ينفض الرمال عن وجهه و ثيابه : « ما هذه العاصفة؟ (…) حتى الكثبان الرملية انزاحت من مكانها, لكن لا يهم فلدي ما أحتاجه ». و من ثم يحثُّ حفيدته على متابعة رحلتهما قائلاً  : « هيا بنا ». معرفة المغزى السياسي من هذا المشهد يتطلب معرفةً مسبقة بالرموز التي انبنى منها و قام عليها. فمثلاُ ما معنى أسماء الأبطال : عشتار و بابا عزيز؟ و لماذا بدأ الفيلم بحدثِ خروج الطفلة البريئة "عشتار" من تحت الرمال بعد عاصفة رملية قوية, غيّرت بزخم عصفها كل خارطة الكثبان الرملية لدرجة أزاحتها عن مواقعها السابقة؟ و ما المقصود من حركة نفض الجد للغبار عن وجهه و عن ثيابه؟

الرموز الثقافية
من ناحية المعنى المبطن الذي تكتنزه الأسماء ( و للمناسبة فمصطلحات مثل :الرمز و الظاهر و الباطن والتورية هي من صميم لغة الفلسفة الصوفية) , فعشتار بحسب التراث الميثولوجي القديم تمثل إله الحب عند الشعوب المتوسطية (الفينيقية تحديداً) و هي تقابل أفروديت الإغريقية و فينوس الرومانية. كما أن "الحب" المتمثل بمرادفه "العشق" هو من أساسيات تعاليم الفلسفة الصوفية. أما اسم "بابا عزيز" فيقول عنه ناصر خمير : «  كلمة (بابا) بالفارسية والهندية والتركية تعني الدرويش، وقد حاولت في هذا الفيلم مسح الوحل عن وجه الإسلام بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001 وبعد أن أصبحت نظرة العالم للإسلام مخيفة.حاولت أيضاً أن أوضح صورة الإسلام بعد أن أصبح العالم بأطفاله ينظر إليه وكأنه منبع للشر». هذا ما قاله خمير عن مغزى اسم "بابا عزيز" , غير أن لهذا الاسم بعداً ثقافياً آخر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتراث الشعبي التونسي لم يذكره المخرج التونسي. فبابا عزيز في الثقافة التونسية هو لقبٌ عُرف به إذاعي تونسي شهير يدعى عبد العزيز العروي ( ). و هذا الإذاعي الذي لُقِّبَ بـ "بابا عزيز" كان حكواتياً متمرساً يقص حكاياته التربوية المستمدة من التراث الشعبي و على طريقة حكايات ألف ليلة و ليلة يومياً عبر برنامجٍ إذاعي خاص به بدأه عام 1938 مع انطلاقة الإذاعة التونسية و استمر حتى تقاعده و قد نشأ و تربى على حكاياته جيلٌ كاملٌ من التونسيين و من بينهم ناصر خمير الذي هو أيضاً امتهن الفن الحكائي و مارسه على المسرح في الثمانينات.

و بالعودة إلى تحليل المشهد الأول , فإن العاصفة الرملية , التي عصفت بالصحراء و غيرت معالم كثبانها وطمرت أبطال الفيلم تحت رمالها , ما هي إلا رمزاً مجازياً لأحداث 11 سبتمبر مع كل التداعيات التي نجمت عنها, لا سيما حرب الخليج المسماة "عاصفة الصحراء"و كل ما خلّفته من دمار و إرهاب وتشويه لصورة لإسلام استُهل على إثرها. و هذا ما عبّر عنه الجد بقوله : «  ما هذه العاصفة؟ .. فحتى الكثبان الرملية أزاحتها من مكانها » أي أنها غيرت كل معالم الثقافة الإسلامية القديمة. أما الطفلة "عشتار" فهي ترمر للحب الصوفي البريء الرقيق العفوي, و للذكاء المتجلي في خطاب دراويشه, وأيضاً للولادة الجديدة المنبثقة كطائر الفينيق من تحت الرماد. فعشتار الفينيقية, إلى جانب كونها إلهة الحب, تجسد أيضاً روح الخصب و الربيع. و ما خروج الطفلة عشتار من تحت الرمال إلا تجسيداً لهذه الولادة الجديدة لحبٍ يبحث عن مستقبله في ماضٍ عربيٍ واحدٍ لا غير يريد استرجاعه, هو الماضي المرتبط بزمن عبد العزيز العروي أو "بابا عزيز تونس". كما أن هذا الحب الوليد يجدّ خلف تراث فلسفي و ديني واحدٍ لا غير يريد اكتشافه و احياءه من جديد, هو التراث الصوفي المتمثل بثقافة و حكمة الجد الضرير و الدرويش.

رسالة المشهد الثاني:
إماطة اللثام
يبدأ المشهد الثاني عند الدقيقة 00:48:15 و يمتد حتى الدقيقة 00:52:30 , وهذا المشهد يُصور مجازياً عملية انتقال الحكمة من الجد " بابا عزيز" إلى حفيدته "عشتار" التي تكشّفت لها الحقيقة, ووصلت إلى درجة إدراك المعنى الحقيقي لظاهر الأشياء بعد شربها من نفس طاس الماء الذي شرب منه جدها على مدخل باب مسجد الدراويش. فعشتار الصغيرة , طوال كامل رحلتها و قبل وصولها إلى هذه الاستراحة في مسجد الدراويش, لم يتسنَ لها أبداً أن ترى درويشاً حقيقياً. وبوصولها إلى هذه الاستراحة اكتشفت لأول مرة معنى المذهب الصوفي و مظاهر طقوسه الصحيحة, فانبهرت به, و قد عبرت عن هذا الانبهار انفعالاتها و تقاسيم وجهها و هي تتجول مستمعة لصلوات الدراويش من حولها و لهمهمتهم و لتلويح رؤوسهم التأملي, اكتشفت رقصهم اللولبي و حجهم الحقيقي في دورانهم حول ذواتهم. أما أكثر ما بهرها فكانت الآثار الفنية على الجدران و على السقوف المتمثلة بالخط العربي (ناصر خمير خطّاط أيضاً).

أما الرسالة السياسية القوية التي استطاع خمير توصيلها من خلال هذا المقطع من فيلمه فتتمثل تحديداً في مشهد مجازي يبدأ عند الدقيقة 00:50:05 و يمتد حتى الدقيقة 00:52:18 . في هذا المشهد, و بعد أن أنهت عشتار تجوالها في المسجد و اكتشفت تقريباً كل مظاهر طقوس المذهب الصوفي, نراها تهرع نحو جدها منادية عليه : « بابا عزيز .. بابا عزيز... », و تقترب منه لتراه مستغرقاً في غفوة تأملية,و عند الدقيقة 00:50:05 تقترب الكاميرا من وجهه في لقطة ( Zoom-In ), لتظهر لنا الجد في وضعية (Portrait) تشبه إلى حد كبير (Portrait) معروف و شهير يُمثل ابن رشد, بعد هذه اللقطة تنتقل الكاميرا مباشرة إلى وجه الطفلة عشتار في لقطة ( Zoom-In) عند الدقيقة 00:50:10 مترافقة مع خلفية موسيقية و صوت أنثوي جميل ينشد, بصوت منخفض كأنه آتٍ من بعيد, أغنية كأنها صلاة لا تنفك تردد بإيمان الكلمات التالية : «  يا رحمن يا رحيم .. يا ودود يا كريم ».

الصوت العذب يلفت سمع عشتار فتحاول اكتشاف مصدره, فتنهض من أمام جدها و تتبع صدى الغناء, و نلاحظ أنها كلما اقتربت أكثر من مصدر الغناء يصبح صدى الغناء أعلى و أوضح. عندما تهتدي عشتار على مصدر الغناء العذب, تجد نفسها أمام مجموعة من ثلاثة نساء منقبات و متشحات بالسواد تماماً ,من قمة الرأس حتى أخمص القدم, يجلسن مصطفات جنباً إلى جنب على مقعد حجري. فتقترب عشتار أكثر منهن محاولة تحديد مصدر الغناء, و تتجه نحو أوسطهن, مقتربةً منها بشكل كبير لترفع عن وجهها النقاب, و حين ترفع عشتار النقاب عن وجه المرأة عند الدقيقة 00:50:35 يظهر لنا وجه المرأة الجميل و الشاب, و يقوى صدى غنائها أكثر ليُصبح أكثر وضوحاً و عذوبة , فتطرب به عشتار و تبدأ بتلويح رأسها مبتسمة و متأملة بعذوبة الغناء و معاني الكلمات الممجدة أسماء الله : «  آه .. إنتَ روحي..أه.. إنتَ السبيل.. يا رحمن يا رحيم.. يا ودود يا كريم...آه إنتَ المعين…آه إنتَ الغفور….لا إله إلا الله ».

غزال المعنى
بعدما أن أماطت عشتار اللثام عن وجه الإسلام الحقيقي بإزاحتها غطاء التطرف الأصولي عن معانيه الحقيقية وعن غاياته الرحمانية المتمثلة مجازياً بعذوبة الغناء و رقة الإيقاع الموسيقي و جمال وجه الفتاة الفتي و روحانية كلمات صلاتها الممجدة لأسماء الله. تعيد عشتار تغطية وجه الفتاة و تخرج من باب المسجد مسرعة نحو خارجه لتعتلي سطح المسجد مقتربة من قبته المنيرة, فنرى لحظتها انعكاس نور القبة على وجه عشتار عند الدقيقة 00:51:51 و هذا النور يرمز مجازياً إلى نور المعرفة و هو علامة على بلوغ عشتار أنوار الحكمة, و هو دليل خروجها من ظلام جهلها الذي كان مقيداً بمعرفة ظواهر الأشياء إلى نور المعرفة الحقيقي المتمثل بمعرفة عمق الظواهر و بواطن معانيها الروحية الملتصقة بها.

تلتصق عشتار بقبة المسجد المنيرة و تتأمل من مكانها العالي مظاهر الطقوس الصوفية داخل المسجد مستمتعة بعذوبة الصوت الجميل و بالرقص اللولبي الذي يؤديه درويش يحج حول نفسه بثوبٍ أبيض يلفه بالكامل. و عند الدقيقة 00:52:10 نرى وجه عشتار يلتفت فجأة من دون سابق مقدمات متجهاً بدهشة نحو الصحراء, تتبع الكاميرا نظراتها فيعرف المشاهد أنها لمحت الغزالة نفسها التي تتبع جدها دائماً و التي كانت قد أرشدته سابقاً, فيما ما مضى أثناء شبابه, إلى سبيل التأمل و معرفة الذات و فهم الوجود, إي إلى الحكمة المتمثلة بالفلسفة الصوفية. و كما فعل جدها قبلها تترك عشتار ما كانت مأخوذة بمشاهدته و تتبع الغزال في الصحراء. فيدرك المشاهد حينها أن عشتار قد أدركت غزالة المعنى, و أن الحكمة قد انتقلت إليها أخيراً. تماماً كما أراد جدها الذي رغب أن تتلاقاها عشتار عن طريقة رحلة الحج التي خاضوها سوياً, لكن كلٌّ منه نحو غايته الخاصة التي كان فقط حدس القلب الدليل عليها و مرشدها :

الجد نحو عرسه (الموت المادي) الذي به سيعبر نحو خلوده بزواجه الروحي مع الأبدية.
و عشتار نحو درب الحكمة و نور المعرفة و وراثة درب جدها بإدراكها لغزالة المعنى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا