الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بضعة أعوام ريما: الفصل العاشر/ 2

دلور ميقري

2020 / 6 / 6
الادب والفن


الغلام ذو الحادية عشرة من العُمر، سمِعَ الرجلَ المهيب الطلعة، المكتسي لباساً رسمياً، ينطق الحكم بحقه: " النفي إلى الأناضول الغربيّ لمدة ثلاث سنين ". عقبَ ذلك، تم تسليمه إلى خفير من قوة الجندرمة يحمل بندقية. اكتفى هذا بإمساك الغلام من ساعده، دونَ أن يجدَ حاجة لتقييده. ثم ما لبثَ حدّو أن سُحب إلى خارج مبنى المحكمة، ليجد شاحنة عسكرية كبيرة بانتظاره. وضعوه في الصندوق الخلفيّ للسيارة، وكان فيه بعضُ المحكومين من أعمار مختلفة. سأله أحدهم بالكردية ما أن تحركت السيارة: " كم مدة سجنك، يا هذا؟ "
" حكموني بالنفي إلى الأناضول الغربيّ لمدة ثلاث سنين "، أجاب حدّو. عاد الرجل للسؤال: " ماذا كانت تهمتك؟ ". كان الغلامُ من النوع الصموت، لكنه خشيَ أن يُغضب هذا الشخص الفضوليّ، الذي تلوح على سحنته علامات الشر. على ذلك، رد باقتضاب كاذباً: " سرقة ". اكتفى الرجلُ عندئذٍ بالتعليق في نبرة ساخرة، مخاطباً البقية: " هذا ظلم والله! ". بينما راحَ هؤلاء يعلقون بدَورهم على الأمر، كان رأسُ حدّو قد أثقله النعاس وبدأ يرتخي إلى صدره. أغفى دونَ أحلام، لشدة ما عانى من وسن وقلق وإرهاق.
أفاقَ بهزة من كتفه، فسمع أحدهم يقول: " وصلنا إلى نصيبين ". كان الوقتُ على حد المساء، وما عتمَ الهواء النقيّ أن لفحَ وجهه. لكن الجو كان خانقاً، ينفثُ حرارةَ النهار الملتهب. من جديد، أوكلت حراسة الفتى لذات الخفير. إذا به يتكلم مع حدّو بالكردية، لكن بلهجة صارمة: " سنسافر بالقطار إلى وجهة النفي، وما عليك إلا أن تكون ولداً مطيعاً كيلا تتسبب لنفسك بالمزيد من المشاكل "
" أمرك، يا عماه "، قالها حدّو مخفضاً رأسه ويداه متشابكتان في وسطه. يبدو أن الحارس أخذته الشفقة على هذا الغلام، المستيقظ للتو وهوَ يتثاءب، غير عالم بما ينتظره من شقاء خلال ثلاثة أعوام من النفي. أشغال السخرة، كانت هيَ العقوبة الأساسية للمنفيّ: لقد تكرر مع حدّو ما حصل لأبيه، عندما وقع في شبابه بأيدي الجندرمة. من غرائب المقدور أيضاً، أن الأب عمل حينئذٍ سخرةً في تمهيد الطريق لسكة الحديد نفسها، المتعين على الابن أن يستخدمها في طريقه إلى المنفى.

***
كان الظلام مخيماً، لما أمرَ الحارسُ سجينَهُ الغلامَ الدخول إلى مقصورةٍ في القطار، بينما بقيَ هوَ خارجاً. دُهشَ حدّو لوجود امرأة شابة، جالسة على المقعد العريض لوحدها. لكنه حينَ أراد الجلوسَ بمواجهتها، انتبه لوجود صبيّ صغير مغطى بما لاحَ أنه معطفٌ نسائيّ. قالت له هذه، بالتركية: " بوسعك مشاركتي في المقعد ". من مظهرها، كان واضحاً أنها نصرانية. شكرها وهوَ ينضم لمجلسها، وكان يظنها مسافرة عادية. باب المقصورة، وكان مزججاً بالبلور في نصفه الأعلى، كشفَ أن الحارسَ حصل أيضاً على مقعدٍ.
" ماذا جنيتَ، يا بني، كي يعتقلوك وأنت بهذه السن؟ "، استفهمت منه المرأة. فاجأه السؤالُ. وكان إذاك قد استرخى بمجرد تحرك القطار. تململ في مكانه، ثم أجابَ بنبرة محرجة: " أحد أقاربي كلفني بمراقبة تحركاتِ شيخٍ بدويّ، وما لبثَ هذا الشيخ أن قتل في كمين "
" بماذا حكموك؟ "
" بالنفي إلى الأناضول الغربيّ لمدة ثلاث سنين "، رد بشكل آليّ وكأنه يتلو من كتاب. حركت رأسها يمنةً ويُسرة، تعبيراً عن الأسف: " يا لهم من وحوش، أولئك الأتراك! "، دمدمت من شفتين مرتجفتين رسمتا علامة الكراهية. ثم عادت تُحدّق خِلَل بلور النافذة، وكان ضوء المصباح قد جعله مثل مرآة. قال حدّو في نفسه، بينما يتأمل انعكاس صورة المرأة: " إنها أرمنية؛ هذا واضح من لهجتها. ولكن، كيفَ تغامر بالسفر في هذه الظروف؟ ". كأنما رفيقة السفر قرأت فكرته، فإنها ما أبطأت في تقديم ذاتها: " اسمي نيللي. وأنتَ، ما اسمك؟ "
" يدعونني حدّو، وأهلي من نواحي ماردين "
" أنا من مدينة مرسين، وقد اعتقلني الجندرمة عندما كنتُ أهمّ باجتياز الحدود إلى بلاد الفرس "
" آه، أنتِ أيضاً محكومة بالنفي؟ "
" لم أحكم بعدُ، مثلما أنني لا أعرفُ إلى أين يمضون بي "، أجابت المرأة. تبادل الحديثَ معها على هذا المنوال لساعةٍ أخرى، لحين أن لحظ رغبتها بالنوم. قال لها عند ذلك: " سأجلس بالقرب من طفلك، وأنتَ تتمددين براحتك على المقعد. ابتسمت في إعياء، ثم قالت مشيرةً إلى العليّة: " ثمة مكان للنوم فوق، وما عليك إلا الصعود إليه ".
وهذا ما كان؛ وجد حدّو العليةَ الخشبية مفروشة ببطانية خَلِقة، فتمدد عليها بحيث تكون قدماه باتجاه النافذة كيلا يشعر بالبرد أثناء النوم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال


.. الفنانة ميريام فارس تدخل عالم اللعبة الالكترونية الاشهر PUBG




.. أقلية تتحدث اللغة المجرية على الأراضي الأوكرانية.. جذور الخل