الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (21)

احمد جمعة
روائي

(A.juma)

2020 / 6 / 7
الادب والفن


توحد راشد بالصلاة، جعلها مثواه تُسَكّن آلامه الجسدية والروحية، حلقت به الصلاة لمقر روحي لا توجد فيه سوى الجنان والغلمان والحور والأنهار وكل ما ذُكر في القرآن، كان يصلي في اليوم أكثر من خمس صلوات، ويذهب للمسجد على عكازه خمس مرات ثم يعود ويصلي في الدار عدة مرات ويخاطب طوال الوقت نفسه، لا يتوقف عن الكلام إلا حين يُرْهَق ويعجز عن فتح فمه، وَصَمَه البعض بالجنون ووصفه الجيران بالوفاء لزوجته لكثرة السؤال والدعاء لها بالجنة، كان طوال النهار يدعو لها وفي الليل يستغفر لها ويأمل من الله أن يغفر لها ويسامحها وكان إذا عجز عن الكلام تغرق عيناه بالدموع، عاش بعد وفاة والدته رقية التي لا يذكر أحدٌ من الحي أن لها أسماً آخر غير رقية، اقْتات وتدبر أمره على صداقات الجيران وما ترسله له دلال بين فترة وأخرى من مساعدة بعد أن أغلقت دارها واكْتفت بمنزل صغير وسط الحي بعد أن افْتتحَت لها بجانبه دكاناً صغيراً لبيع السلع الجديدة الطارئة عقب انْتشارها بعد نهاية الحرب، كالمعلبات الغذائية مثل معجون الطماطم والأناناس، بالإضافة لصابون الجسم وعصير البرتقال والبسكويت وغيرها مما تدفقت على البلاد. كان عبدالرحيم المرجاني والد تقي أحد وكلاء هذه السلع، انْقلبت الحياة في المنطقة وتبدلت، بتحول دار دلال إلى مقر لنادٍ رياضي لكرة القدم في الحي يَؤمه شباب المنطقة، هُدِم المسجد القديم المهجور القريب من منزل راشد وأُعيد بناؤه وبدأ يؤمه السكان، كما تداعى منزل راشد وأصبح قابلاً للانهيار في أي ساعة بعد اندثاره من الداخل والخارج، تشققت جدرانه وانطَرت أعمدته كما تدلت بعض أخشاب سقفه، ومع ذلك لم يتبرع أحدٌ بلفت نظر ساكنه أو حثه على مغادرته لعلم الجميع بانعدام قدرتهم على تدبير سكن مقابله، ظل يعيش داخله ولم يطرأ تغيير سوى من جاره بو احمد الذي بادر بتمديد تيار الكهرباء له ليضيء مصباحين فقط، واحدٌ في الفناء والآخر في غرفته، أما الشجرة وسط الفناء فقد بادت واحترقت أوراقها ثم تساقطت ومحتها الشمس والرطوبة من فوق الأرض ولم يبادر صاحبها على كنس بقاياها، ظلت أغصانها شاهدة على وجود حياة فيها ذات مرة، فسر البعض ممن وَلَجوا المنزل لتوصيل غرض ما للساكن، موت الشجرة جاء حزناً منها على رحيل صاحبة الدار رقية الكفيفة.
واصل راشد بحثه الدائم عن جوري بين وقت وآخر رغم ترحمه عليها وطلب المغفرة لها، تابع بلا كلل يسأل كل من له علاقة بها، طرق الأبواب في المناسبات كالاعياد وخلال حلول شهر رمضان لعله يسمع خبراً أو يَشْك في نبأ يدور حولها، ما أنفك على هذا المنوال حتى حدث وصادف صبياً صغيراً لحق به وهو عائد من المسجد عند صلاة المغرب وصرخ فيه بصوته الجهوري.
"رأيت جوري تركض، رأيتها على ساحل البحر.
سقط عكازه، وجَمَدَ في مكانه، سمعه جاره الخارج من المسجد للتو وكان يمشي خلفه وقد تناهى له ما صرح به الصبي، الذي كان حافياً ويرتدي ثوباً رقيقاً تغير لونه، بدا رمادياً مما لا يعرف كيف كان قبل ذلك.
"دعك من هؤلاء الشياطين، إنْهم يَهْزأون منك.
أقسم الطفل مرة أخرى أنه رآها، فزجره الرجل وأسرع والتقط العكاز ووضعه في يد راشد الذي ظل منتصباً في مكانه.
"لا تلتفِت لهؤلاء الأشقياء، ترحم عليها وادعو الله أن يغفر لها ويسامحها ويسامحنا جميعاً
"آمين.
مضى كل من الصبي والرجل ومَكثَ راشد مكانه يتلفت حوله، اشتم رائحة البحر، خُيِل إليه صوت الأمواج تتلاطم بقربه، مَيَّز هذه الرائحة وأنْصَت للصوت وشَخَّص أنه البحر إياه الذي غدر به، لا بل القرش هو اللعنة الإلهية التي تكمن وراءها ولاشك في حكمة السماء، تقبل الأمر من جديد بعد سماع صوت الصبي وهو يذكر البحر الذي لم يَطْأهُ ولم يقف قبالته منذ عاد آخر مرة من الغوص محمولاً وقد بُترت ساقه وفخذه، نسخ البحر الجحيم وحلاً في قعره، اعتبره قاع الظلمة الحالكة وهاوية النهاية التي أقرتها السماء، آمن بحكمة الله ولكنه لعن البحر وشتم القرش فيما تواصلت رائحة مياهه التي تدين له بِسَقْمه الأزلي، طفح بسطحه وعبقه يلتصق بأنفه ويجره بتعويذة لا تقاوم نحو البحر، حل المساء بعتمته وسطع ضوء القمر وقد هَتكَ ظلمة الطريق وأفْسح للمارة سهولة المضي في السير. سار يزحف بساق واحدة وعكاز أدمى أبطه الذي يتكأ به عليه، كانت المسافة بعيدة على معاق مثله، ورأى في نظرات بعض من صادفه شفقة عليه ود لو تزال من عيونهم، فهو ليس بحاجة لنظرتهم البائسة تجاهه، رد التحية على من حَيَّاهُ في الطريق وأرْدَف عبوره وقد أرهقه السير، توقف عدة مرات والتقط أنفاسه ثم اسْتَطرد المشي وقد ثابر على المضي لبلوغ بحره الغادر.
رسى عند حافة البحر، جمد يَرْقبَه، بدت فترة المَدْ وقد هاج الموج وراح يتأمله وبداخله في قاع روحه خطابٌ طويلٌ يود لو يلقيه عليه، شعر أنه لا طائل من وراء الشكوى أو المناجاة، فقد جاء يسأله فحسب إن حمل في قعره سر جوري، أو عرف عنها شيئاً فقد وُجِدَت جثث فتيات عدة على ساحل البحر أو في قاعه بعد اخْتفائهن، هناك من يسرق روح هذه الورود ويَزْهقها على البحر أو في أعماقه، لكن الصبي رأى الفتاة تجري لعلها هاربة من ذئبٍ بشري، رغب في الجلوس على صخرة قريبة منه ولكن العتمة كانت تحيط بها، كما أنه أحس بالهواء يخنقه وهو يحمل عبق الأمس، ود لو يغفر له ما فعله به ولكن الجرح ما زال غائراً وطرياً.
"سلام أيها المعتوه وغفراناً من رب السماء، أَنْتَ تدين لي في عنقك بحياةً سلبتها مني، فلا أقل من سرٍ تطلعني عليه، أين جوري؟
توهج وجهه وبرزت صرامة ملامحه المشدودة نحو البحر الذي خيم عليه الظلام إلا من بعض الومضات الضوئية الضئيلة مُنْعكسة على سطحه من السماء، حيث القمر يشع بقرصه الباهي المستدير ومئات النجوم ترقص متناثرة كحبات اللؤلؤ التي كان يسكبها على سطح السفينة حينما كان يغوص ويجلبها والتي حلم طوال عمره بواحدة من تلك اللآلئ لجوري، حين يتم فلق المحارة تغوص عيناه كما يغوص هو ذاته في ثنائية المصراع، يتأمل جوف المحارة لعل هناك درّة، يحملها لزوجته البائسة، امْتدت وقفته الحائرة أمام البحر حتى الليل، واندمج فيه رغم غدره، تراءى له من الأفق اللُّؤْلُؤَانُ، وهو لون اللؤلؤ حين يصبغ الكون من حوله.
"جوري، جور..
توجه نحوى الصخرة، وبصعوبة بالغة تمكن من الجلوس بعد أن اتكأ على الصخرة التي كان بجانبها جزء من مقدمة قارب صغير مهترئ، أسند ظهره على الصخرة وراح يغني موال حفظه من على ظهر سفينة الغوص حين كان يغنيه أحد البحارة، رن صوته في الليل كما البلبل الحزين، عند المساء، رن الشجن وفاضت روحه بالغناء فاستمر بالشدو.
يا صاح من جور جوري زر عقلي وفر”
وصغار الأبكار دوّرها زماني وفر”
أين المحيص الذي عنها وأين المفر”
ما قدر الله على كل الخلق جوري”
العبد ماله مفر مكتوب له جوري”
عضد الجناح انكسر مالي مطير مفر غير جوري”
اطفأت عيناه وغاب صوته، غفا مكانه حتى الفجر حين أحَس به خميس الأعمى وهو متجه للبحر، اقترب منه وتَحَسسّه فأيقظه، عَرفه من صوته وقال بنبرة متسائلة.
"راشد؟ ماذا تفعل هنا عند الفجر؟
كانا يعرفان بعضهما من خلال لقائهما اليومي بالمسجد، الحي كله يعرف خميس الأعمى الذي يخرج وحده كل فجر ويأخذ قاربه الصغير ويتجه به "للحضرة" لجني محصولها من الأسماك ويعود بسلة ملونة من ثمار البحر، رغم كونه كفيفاً لكنه لم يتعرض مرة لأي انتكاسة.
كانت الصخرة مكانها قابعة، مع خيوط الصباح سكب الضوء وشاحه على الساحل الذي بدا ناعساً، إنساب صوت الموج يرتطم باليابسة، شعر راشد بالتراب يلطخ فخذه وساقه، فرك عينيه وتطلع للرجل الكفيف الواقف حَذْوَه، اكْتسب خميس الأعمى بنية نحيفة لكنها صلبة وتضاريس شديدة البأس تصبغ وجهه مع بشرته البنية اللون، كان فارع القوام طويل الساعدين وحافي القدمين، أصر على المضي فجراً كل يوم، لم يعرف المرض في حياته ولذا لقبه بعض سكان الحي بخميس الحي.
"يالجنونك يا راشد.
قهقه الأعمى واستدرك.
"جار عليك الزمن من جوري، إنساها يا رجل.
"تقدر تنسى توأم روحك يا خميس؟
سحب عكازه وقبض عليه ثم رفع بصره ومد يده الأخرى في الهواء وقال بنبرة آمرة.
"ساعدني يا خميس على النهوض بدلاً من أن تنتقدني.
مد خميس يده مباشرة نحو يد راشد وكأنه يعرف مكانها ثم راح يسحبه قائلا وهو يضحك.
"هل تنوي الليلة المَبيت هنا؟
رد الآخر مازحاً بدوره.
"أسعدني وجودك يا خميس الحي.
مضى الآخر نحو البحر، وانتصب راشد ناظراً للبحر وقال مودعاً إياه.
"لنا لقاء يا بحر.
ثم مضى قافلاً وهو يردد جوري يا جوري.
***
حَلَقت به الريح فوق السحاب، ومن نافذة الطائرة وهي تقترب نزولاً من الأرض، خالَ تقي المرجاني نفسه يحط في لندن للمرة الأخيرة بعد عشرات المرات، إن لم تبلغ المئة مرة التي يزورها بعد المرة الأولى في أربعينات القرن الماضي، حين بعثه عبد الرحيم المرمجاني لاستكمال دراسته، كان ينظر عبر زجاج نافذة الطائرة الضخمة قبل أن تحط، تذكر عدد المرات التي شاهد خلالها هذا المنظر للأراضي الخضراء والمنازل والشوارع وخزانات المياه أو ربما الوقود، كأنه المنظر ذاته الذي رافقه طوال السنين الآنِفة في كل هبوط لبلاد الإنجليز، سواء كان مسائياً أو نهارياً فقد صان هذه المدة الزمنية ذكرياته منذ إقامته في منزل إيما البرت مروراً بعلاقته بابنة أختها إفيلين.
لم يكن عناقاً بين سفيان وتقي، بل إلتحامٌ، الْتَأم شملهما بعد فراق قارب العام، تبدل حال الدنيا خلال المدة السالفة التي انقضت من عمريهما، عمر الزهور وعمر السنديان. انْبَلَج وجه تقي عند سفيان كبيت قديم أُعيد ترميمه فتراءى له كقامة لا يطالها الزمن. كما تَجَلَّى وجه سفيان لوالده مشعاَ يانعاً كما لم يره قبلاً، إذ لاح فيه الْزَهو والْخُيلاء. شَرَدَّ الاثنان بفكرهما يحدقان في بعضهما غير مصدقين أن جمعتهما لندن هذا المساء، كانت الطائرة الإماراتية قد حطت عند الساعة الثانية عشرة والربع ظهراً، غير أن لقاءهما لم يَتبدّ بهذا العمق إلا عند الساعة الثالثة وعشرين دقيقة حين اسْتقَر تقي بفندق كافيه رويال بقلب لندن وقد اعتاد عليه في السنوات الأخيرة. كانت اللحظة التي بلغ فيها غرفته، أدرك أنه في لندن ومعه سفيان.
"no، no، no
قالتها بِجَلَد مكررة الكلمة غير مصدقة، ما قاله عن وجود تقي في لندن، عرفت عن الرجل أكثر من سفيان ذاته لشدة ما سرد لها عنه، زخات القصص والحكايات توالت منذ عادت وظهرت في حياته، سرديات بلغت حد الأساطير منذ الحرب العالمية الثانية رواها كلما جاء ذكره، لم يخف عنها شيئاً تقريباً من حياته، لذا اضْطَر أن يحذرها من سرد أي معلومة عن مغامراته الغرامية، لم يكن يتوقع حتى لو في الحلم أن يجده معه في لندن وبوجود شيري التي لم يسبق وحدثه عنها بالتفصيل، أجل الخبر الصاعق حتى حضوره هنا، لم يرد أن يذهله وهو هناك أو يبطل المفاجأة عبر الأثير، تاق إلى رؤية الذهول ينفجر في وجهه أمامه، حين أخبرها في الهاتف أصرت على الحضور، هدأ من حماستها ولكنها أصرت على رؤيته بسرعة الضوء كما قالت بلهجة آمرة حاسمة.
خرجَ تقي ووالده من الفندق في المساء يمشيان على أطراف أرصفة لندن قبل غروب شمس المدينة الخافتة، عبرا ميدان البيكاديللي، شعر الرجل الكبير أن المدينة أصبحت أكثر جلبة وقذارة وازدحاماً، هذا ما أفاض به لولده الذي سار إلى جانبه ينتظر الفرصة ليلقي له بخبر أجله لأسابيع، وكلما هم باطلاعه وجد نفسه محاصراً بردة فعل غامضة، كان تقي يتحدث معه عن المدينة وعن تاريخها والسنوات التي قضاها فيها وكيف تغيرت؟ من لندن العتيقة ذات النكهة الاستعمارية إلى لندن الهندية كما وصفها.
"كانت ابني سفيان، كلمة لندن في وقتنا تعني الدنيا، من يتلفظ بالكلمة يلتفت كل من حوله ليروا ماذا سيقول عنها، بل وصل الأمر ابني أن نضعها فوق البحرين، طبعاً لا أقصد سوءاً، هذا حالنا مع هذه المدينة.
توقف والتقط أنفاسه وراح يتلفت حوله، مرا بجانب بعض المتاجر الراقية التي حفظ بعضها وأختفى بعضها ولكن أغلبها لم يتغير مكانها، اسْتَفاض في الحديث عنها وعن زياراته لها، وقبل أن يَدْلف لاحداها أمسكه ابنه من يده، وتوقف بجانب طرف الرصيف بعيداً نسبياً عن زحمة المشاة.
"تقي كفى حديثاً عن لندن ومتاجرها، لم تَأْتِ هنا لتحدثني عن قذارة المدينة الهندية، لقد طرأ أمر جلل أبي.
نظر سفيان في وجه والده وقد بدا له أصغر سناً مما اعتقد، رأى وجهه مَكْسواً ببشرة ناعمة رغم تجاعيد الزمن، لكنها اكْتَسَبّت نضارة لم يرها حتى وهو في البحرين، استطرد قائلاً وما زالت نظرة الأب مُتَوجّسة.
"إِسْتَجدّ أمر، أنا رجل كامل أبي، ضاجعت امرأة مرات عدة وقذفت كرجل حقيقي، لم أعد أحْتاجّ العملية.
"تعال نجلس في مكان.
استدار الأب خلفه، وجَرَّ معه ابنه الذي عَلَت وجهه ابتسامة فيما أمسك تقي عن التعبير لكنه لم يقدر على إخفاء نشوة غائرة منذ أمد بعيد، ظلت بَهْجَتة محبوسة لم يفصح عنها منذ تنبه لأول مرة لحالة ابنه التي بانَّت تدريجياً وعلى مراحل منذ نشأته حتى مراهقته وشبابه، كثيراً ما أنكر الأب ادعاءات بعض أفراد عائلته بشأن حالة سفيان الشاذة، ولكنه تمسك بالأمل والرجاء، ظل ينكر تلك الندبة السوداء في الابن حتى جاءت منه مباشرة، فلم يكن بعدها من بُدّ إلا الاسْتسلام للحقيقة الْمٌرة. عادا للفندق وسأل الأب وهو يعبر ردهة المكان، بنبرة من يفضل العزلة؟
"المطعم أم جناحي؟ الوقت مبكر على الأكل.
أخيراً جلسا متواجهين في شرفة الجناح التنفيذي الذي أراد تقي جعله المكان اللائق للقاء ابنه إبّانَ مُكوثه في العاصمة البريطاني تلك التي صان لها في غَوْر وجدانه أعمق الذكريات، انتهز سفيان وُلُوجَه الجناح الفخم الذي خُيل إليه أنه فندق لا يقيم فيه سوى كبار الرؤساء والقادة الزوار للندن، ما حدا به ليمازح الرجل قبل أن يستدركا الحديث.
" من تعتقد يقيم في هذا الفندق غيرك تقي؟
رد تقي ضاحكاً
"أنا..
ثم اسْترسَل وقد اصطنع هيئة ماكرة، ونبرة حذرة.
"أنتَ تراوغني سفيان، إما أَنْكَ حذقٌ أو لديك خطة في رأسك تضللني من خلالها، هي المرة الأولى والأخيرة، لن أسألك مرة أخرى، من هي المرأة التي تقصدها؟
أخذ سفيان يحوم حول المكان، ويحدق في الديكور العصري المناقض للمظهر الأثري للفندق، كانت غرفة وصالة تقي شاخصة بالمظهر العصري، السرير الملكي بفرشه الأبيض مع الحزام البرتقالي فوقه، كان يطل على مدخل الصالة الواسعة التي تتسع لأسرة بكاملها، كانت هناك نافذتان تطلان على الخارج وقف عند أحدهما سفيان وقال مازحاً.
"أسعى لقضاء شهر العسل في هذا المكان، بل في هذا الجناح بالذات لو لم تمانع تقي؟
مد تقي ساقه على الطاولة التي أمامه، بعد أن خلع معطفه وألقى به على الكنبة الطويلة المرصوفة في مقدمة السرير بِلَوْنها الرصاصي الغريب، نظر لولده وهو يخفي سعادته بما يسمع، لقد اعتاد طوال حياته إلا يتسرع في الحكم على الأشياء والمواقف والأشخاص، وحانت ساعة المواجهة الصارمة.
"إبني سفيان..
قاطعه سفيان معتذراً، وقد اتجه نحو بار الغرفة، فتح باب الصندوق الأشبه بباب خشبي مخبَّأ وسط الجدار وسط دهشة الأب الذي ظل مبتسماً، فتح الزجاجة الصغيرة من الويسكي، احتسى جزءاً منها وظل ممسكاً بها، عاد وكرر اعْتذاره ثم اسْتدرك قائلاً بنبرة دَمِثة.
"قبل أن تسترسل تقي أود أن اطلعك على أمرٍ سريٌ، لقد كنت ضحية لعبة احتيال كبرى من القدر ومن البشر، القدر وضعني في خدعة لم أتوقعها والبشر استغلني أحدهم ولكن أصبح قدري معه أخيراً، نحن في الدنيا أبي أشبه بورقة تلعب بها الأقدار، كريشة في الهواء.
جال الأب بذهنه بعيداً تاركاً ابنه يتأمله، جاب الأماكن والرؤى والذكريات كلها في ذرة تكثفت أمامه لدى ذكر ابنه للريشة في الهواء، بدا كما لو تجول في أرجاء المعمورة ثم عاد للغرفة التي تجمعهما وبدأ عبارته التي قاطعها ابنه منذ قليل.
"تعرف إن ما يسعدني هو رؤيتك رجلاً فِطْريّاً، كما أنا وغيري، أَصْدقني القول، ماذا يجري من حولك؟ هل كنت كما أخبرتني من قبل ناقصَ الرجولة ثم اكتشفت العكس؟ وما قصة الفتاة التي أَفقت لتجد نفسك سوياً معها؟ لم هي بالذات؟ أخبرني القصة من أولها؟
تجرع سفيان من الزجاجة الصغيرة التي كانت بيده، وضعها على حافة منصة المصباح القائم وجلس على المقعد الجانبي من الصالة وقال بنبرة لا تخلو من رَهْبة.
"من شغاف قلبي المسكون بِحُبِك تقي، أود أولاً أن أشكرك على تفهمك وحدك لي من بين سائر البشر، كُنْتَ خير صديق ومعاضد ومتفهم فشكراً يا أبي
توقف برهة، حدق في سقف الصالة ثم اسْتأنف.
"نويت أن أتحول للجنس الآخر حينما تخلى عني جسدي وخذلني طوال سنوات مرِيرة ذقْت خلالها الارتعاب والتوجس والهلع والذعر والجزع وكل ما يحتويه القاموس من مرادفات الخوف، عشتها وحدي من دون أي صديق أو رفيق أو أي كائن تَجشَّم وكابد معي هذا العالم النائي من مفردات الفزع، كنت وحدي ضائعاً، أبكي الليل وأتألم النهار، سافرت، تركت أرضي وأهلي والقليل من أصحابي واخْتَبأتُ هنا في جحرٍ لا أرى فيه سوى نفسي مكشوفة عارية من أي غطاء سوى الوحشة والعار الذي ألْحَقته بكم، تقبلت الأمر وتَجرّعت الكأس المُرَّ وقررت أن أصلح خطئي الجسدي بالعودة لأصلي الأنثوي، لا تنكر أبي ما كنت عليه وأنا معكم، صحيح تقبلتموني كلكم ولكن نظرتكم ظلت تُذَكرني بخطأ تكويني وتسْلبني منكم، فلم أشعر سوى بالعار وهو قدري تقبلته وحملته على ظهري وانْسَلَخت عن عالمكم وهربت من الدنيا.
توقف، ونظر حوله مبتسماً، لم تترقرق عيناه ولكنها احمرت وتورد وجهه، انْتَصب الأب بِعْسر وتوجه وسط ومضة الصمت نحو صندوق المشروبات في الجدار وجلب زجاجتين صغيرتين، ناول أحدهما ابْنه وفتح الأخرى، جلس مكانه ومد قدميه النحيفتين.
"قضيت أيامي هنا في لندن- ومعذرة لكل التكاليف التي تكبدتها معي تقي- (هز تقي رأسه غير مكترث) أبحث عن مخرج لهذا المأزق، لا أستطيع العيش في البحرين وسط مجتمع يعري أمثالي من آدميتهم ولا أَقْدر على الحياة هنا في لندن ولا حتى في الجحيم، اتخذت قراري بالتحول لأنتقم منكم ومن كل ما حولي، هذا هو سبب قرار تحولي بالثأر وسامحني أبي على روحي العدوانية لكني أردت العودة لجذوري والقِصاص من العالم كله، هل يعاني كل هؤلاء الذين وجدوا أجسادهم في المكان الخطأ مثل هذا الشعور الجحيمي؟ كان الله في عونهم.
توجه نحو والده وقبله على رأسه وعاد مكانه فيما ظل وجه تقي صافياً من أي تعبير سوى التركيز المفرط على وجه ابنه أثناء الحديث.
"ماذا أُريد من الدنيا أبي؟ لا شيء سوى غفران كل من خذلتهم وأولهم أَنْتَ أبي أن تَصْفَحَ عني، وفي مُسْتَهَل من أردت رد الدين الذي في عنقي له هو أنت تقي بالاعتراف الكامل والواعي والصادق بأني صَحَوْت مرة على جسد فتاة وأنا بكامل رجولتي وكررتها مرات فإذا بي سوي كأي رجل طبيعي. وأَفْضي هنا أمامك بأني ألْغَيت العملية لأني خرجت من الكمين الذي دخلته طوال الوقت، وسأعرفك لاحقاً بالفتاة التي لن أعيش الحياة من دونها، وللعلم تقي، لقد احْتالت عَلَيَّ في البداية وكلفتني الكثير.
ضحك الأب وأسْقط قدماً على الأرض وترك الأخرى معلقة، بدا عليه الانْشراح وبانت أساريره مبتهجة.
"حان وَقْتُك تَحْتال عليها.
ضحك سفيان ثم عانق والده الذي ما زال جالساً، وقال بعد أن ابتعد عنه مسافة.
"سأُّدَفعها ثمناً غليظاً، تقي.
إعْتَرى المكان صمت، هدأ بال الرجل القادم من وراء البحار، كان صوته الداخلي ينبئ عن قرار اتخذه ولم يفصح عنه، كان قد ترك البحرين وفي باله أن يستقر فترة في لندن، طبخ في رأسه الذي كَسَتهُ طبقة خفيفة من الشعر الأبيض الناعم جملة من الأفكار منها أن يشتري شقة صغيرة ويستقر فيها مع الابن الفار، لكن الخطط تتغير بفعل تغير الأحداث، سرح لفترة وجيزة أيقظه منها سفيان مقترحاً.
"ما رأيك تقي الليلة أفرجك لندن على طريقتي، سأرجع معك لأيام الشقاوة.
تنهد تقي ونهض متجهاً إلى الحمام وهو يقول متردداً.
"إذهب لِفتاتك ودعني أقضي وقتي هنا، فأنا أعرف الطاقم هنا كله تقريباً.
تهيأ الابن للإنصراف وحمل معه علبة السجائر التي كانت مع القداحة قد تركها على شرفة النافذة من الداخل.
"تقي سأذهب لساعتين ثم أعود لنسهر وتحكي لي قصتك الطويلة الشائكة مع لندن.
"ابْني، خفف التدخين.
" انْظروا من ينصحني؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع