الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكومة الكاظمي والانقسام الاحتجاجي

علي زغير

2020 / 6 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


مثلما تؤثر الحركات الاحتجاجية في طبيعة التفاعلات السياسية والحكومية الرسمية, كذلك يمارس التَغيُّر السياسي على المستوى الرسمي والحكومي تأثيرات متعددة على خطاب وفعل الحركة الاحتجاجية. في عراق ما بعد تشرين الأول 2019 يمكن أن نعد موقف الحركة الاحتجاجية من مسألة تسمية وتكليف مرشح رئاسة مجلس الوزراء الذي يجب أن يحل بدلاً عن عادل عبد المهدي المستقيل, المثال العملي الأبرز لمثل هذه الجَدليَّة. فعلى الرغم من كل محاولات المتظاهرين لتجنب الوقوع فيما وصفوه بفخ تسمية رئيس الوزراء, إلا أنهم في النهاية, وبحكم حتمية الاشتراطات الواقعية وضغط المحددات العملية, وجدوا أنفسهم وقد انغمسوا في سلسلة من الانقسامات الداخلية المتمحورة حول هذه المسألة بالذات.
لم ينفع اللجوء إلى تكتيك الاكتفاء بتحديد المواصفات التي يجب توفرها في شخص رئيس الوزراء, والذي تم تبنيه من قبل الكثير من ناشطي ساحات الاعتصام, في أن يوجد حالة من الاتفاق الموحد بين كافة خطوط الطيف الاحتجاجي. وما أن شرعت أولى خطوات القوى السياسية في تسمية مرشحها المقترح تكليفه من قبل رئيس الجمهورية, حتى بدأت خطوط الصدع في مواقف المحتجين تظهر, وتتسع شيئا فشيئا مع مرور الزمن, وتوالي محاولات التكليف والإخفاق التي استغرقت أكثر من خمسة أشهر متواصلة.
ومن بين جميع هذه المحاولات تحظى محاولة تكليف مصطفى الكاظمي بأهمية كبيرة مقارنة بمن سبقها من المحاولات, وذ لك نظراً لاعتبارين اثنين تميزت بهما. الأول يكمن في كونها قد تمخضت عن النجاح في اختيار رئيس مجلس وزراء بديل وكابينة حكومية جديدة. أما الاعتبار الثاني فيتجلى في أن الكاظمي هو الوحيد الذي ضمت قائمة وزرائه المقترحة أسماءً محسوبة على ساحات التظاهر, الأمر الذي أدى إلى خلق موجة واسعة من ردود الفعل المتعارضة داخل صفوف الحركة الاحتجاجية.
مثل ظهور قائمة أسماء الكابينة الوزارية المقترحة من قبل الكاظمي للتداول الإعلامي بتأريخ 24 نيسان, نقطة البدء الفعلية لانقسام المحتجين إلى فريقين, أحدهما مؤيد لها وداخل بالفعل بمرشح وزاري ضمن أسماء نسختها الأولى, والآخر رافض لدعمها أو المشاركة فيها. ومن خلال سلسلة النقاشات التي ملأت مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة, بذل كلا الفريقين كل ما في وسعهما من أجل حشد مجموعة من الحُجّج العملية المسوغة لموقفيهما المتعارضين. وبينما غلبت على موقف الرافضين للكاظمي وحكومته ما يمكن أن نسميه بنزعة المبدأية الجذرية, فإن موقف المؤيدين للمشاركة قد اتسم بنوع من البراغماتية التبسيطية المفرطة في تفاؤلها.

تؤكد أول حُجّة قدمها المؤيدون لدعم موقفهم القاضي بضرورة الدخول في حكومة الكاظمي, على أن مثل هذه المشاركة إنما هي السبيل الوحيد المضمون الذي من شأنه تمكين ممثلي المحتجين من أن يكونوا من ضمن دائرة اتخاذ القرارات الحكومية. وهو ما سيتيح لهم إمكانية فتح ملفات كل من: الانتخابات المبكرة, ومحاكمة المتورطين بقتل المتظاهرين, وحصر السلاح بيد الدولة, وتقديم الفاسدين للعدالة. نقطة الضعف القاتلة في هذه الحجة تكمن في حقيقة أنها تضع أهدافا أكبر من قدرة حكومة الكاظمي على تنفيذها, فمن المؤكد بأن معالجة مثل هذه الملفات الإشكالية يحتاج إلى توافق سياسي عابر للأطر الرسمية وغير الرسمية المحلية في نفس الوقت, شأنها في ذلك شأن ملف تسمية رئيس مجلس الوزراء الذي أصبح موضوعاً لصراع الإرادات الإقليمية والدولية. يضاف إلى ذلك بأن معالجة ملفي حصر السلاح بيد الدولة ومكافحة الفساد هو مما يتطلب فترة زمنية أطول بكثير من عمر حكومة الكاظمي الموصوفة بالمؤقتة.
الحُجّة الثانية لهذا الفريق تنص على أن إسناد حقيبة وزارية لشخصية مستقلة تنتمي لساحات التظاهر, هو من الأمور المهمة التي ستضمن قابلية التأثير الإيجابي في الرأي العام, وذلك اعتماداً على ما سيقدمه هذا الوزير المستقل من كفاءة بيروقراطية ونزاهة وطنية, سيؤديان في النهاية إلى أن ينجح في اجتثاث مظاهر الفساد والمحاصصة من مفاصل وزارته. لا يوجد تفسير مقبول لتقديم مثل هذه الحُجّة الواهنة, سوى أنها قائمة على فهم سياسي في غاية التبسيط. فمن المعروف بأن حقيقة الهيمنة السياسية والحزبية على الوزرات في العراق هي أعقد بكثير من هذا الطرح الاختزالي. فالوزارات كلها, والهيئات غير المرتبطة بالوزارات أيضاً, قد تحولت بفعل نظام المحاصصة إلى ماكينات توظيف زبائنية, يسيطر فيها أتباع القوى السياسية على معظم المفاصل الحساسة فيها, بدءاً من منصب الوزير, مروراً بالوكلاء, ووصولاً إلى المدراء العامين. كل شخص مستقل ممكن أن تساعده الصدفة في الوصول إلى منصب وزير, سيجد نفسه عملياً محاط بمجموعة من الوكلاء والمدراء المدعومين حزبياً. وفي ظل هكذا مؤسسات محكومة بمنطق النظام المحاصصاتي عادة ما يختل مقدار السلطة الموضوع في المنصب التنفيذي لصالح من يمتلكون دعماً سياسياً أقوى, فيصبح الوكلاء, أو مدراء المكاتب, هم المتحكم الفعلي في تسيير شؤون الوزارة, بينما يغدو الوزير اللامتحزب مجرد واجهة تكنوقراطية وظيفتها الأساسية التمويه على المحتوى الزبائني الفاسد.
لا يعني قصر عمر حكومة الكاظمي وتغلغل المحاصصة والزبائنية في مؤسسات الدولة بأن على المحتجين أن يرفضوا بالمطلق مسألة المشاركة فيها, أو في أية حكومة أخرى يمكن أن يتبنى برنامجها, وبشكل حقيقي, مجموعة الأهداف الأساسية للحركة الاحتجاجية. الدلالة الأهم لضعف حجج الطرف المؤيد لا تتعلق بمسألة المشاركة في حد ذاتها, وإنما بنوع الأهداف الصعبة المرجو تحقيقها منها. ومع التخفيض من سقف هذه الأهداف إلى الحد المعقول تصبح المشاركة, وبما توفره من قدرات تواصلية, ومالية, وسلطوية, خياراً مفهوماً من وجهة النظر البراغماتية, لمن يحاول أن يوجد لنفسه مَوطىء قدم على أرض وسط سياسي محكوم بضعف الدولة وقوة المجاميع المسلحة الخارجة عن سيطرتها.
إن كان هناك من كلمات مناسبة يمكن أن نختارها للتعريف بحُجّج فريق المتظاهرين المعارض للدخول في حكومة الكاظمي, فإننا لن نجد ما هو أفضل من وصف (الطابع الراديكالي) لنطلقه عليها. فالجذرية الموقفية هي من أوضح السمات المميزة لخطاب وفعل هذه الفئة من المحتجين. وحججهم المقدمة في الجدل الذي يخوضونه, غالباً ما تكون معبأة بنوع من الرفض شبه المطلق للتعامل مع شخوص, ومؤسسات, وقوانين النظام السياسي القائم.
تقوم الحُجّة الأولى لهذا الفريق على أساس من أن شخصية مصطفى الكاظمي لا تتوفر فيها الشروط التي من المفترض أن يتمتع بها الرئيس المؤقت لمجلس الوزراء, والتي تم تحديدها مسبقاً من قبل ساحات الاحتجاج. ولعل من أبرز هذه الشروط هو أن لا يكون المرشح لشغل هذا المنصب ممن سبق وأن شارك في العملية السياسية, سواء في جانبها التشريعي المتمثل بعضوية مجالس المحافظات أو البرلمان, أو في شقها التنفيذي المتجسد بتسنم أحد المناصب الحكومية. ومن المعروف في هذا الصدد, أن الكاظمي سبق وأن شغل منصب رئيس جهاز المخابرات في حكومتي حيدر العبادي وعادل عبد المهدي.
لا تختلف الحُجّة الثانية من حيث جوهرها الرفضي عن الأولى كثيراً, إلا من حيث أن الأولى تركز على رفض الأشخاص, بينما تقوم الثانية برفض الآلية السياسية التي تتحكم في إنتاج هؤلاء الأشخاص. ووفقاً لمحتوى هذه الحجة فإن المتظاهرين المطالبين بالإصلاح, لا يمكن لهم أن يباركوا أو يدخلوا في حكومة ولدت من رحم المحاصصة الاثنوطائفية, كحكومة الكاظمي. وإلى جانب هاتين الحُجّتين, يضيف الفريق المعارض للمشاركة في حكومة الكاظمي حُجّة ثالثة مفادها أن النأي بالحركة الاحتجاجية عن المشاركة في الحكومة, هو الطريقة المثلى لتجنب التداعيات السلبية التي من الممكن أن تلحق بالحركة فيما لو أخفقت الحكومة في إنجاز المهام الموكلة إليها.
أي تحليل موضوعي للحُجّج الثلاث التي يقدمها الفريق المعارض سيكشف لنا, وبكل وضوح عن مدى الاستحالة العملية التي تنطوي عليها. فلكي يحصل أصحاب هذه الحجج على رئيس وزراء مستقل بالكامل, وحكومة لا تحاصصية تحارب الفساد, هم بحاجة إلى موافقة رؤساء ونواب الكتل المتهمة بالفساد, وهو ما لا يمكن حصوله واقعياً. فالقوى والأحزاب الممسكة بزمام السلطة في العراق لا يمكن أن تسمح بإجراء أي تغيير من هذا النوع في قواعد اللعبة السياسية, والذي من شأنه, لو حدث فعلاً, أن يضع مصيرها ومصالحها أمام أشد أنواع الخطر الوجودي تهديداً, وذلك بفقدانها السيطرة على أهم مصادر قوتها المادية, والمتمثلة بالوزارات وما توفره من أموال, ووظائف, وسلطة تنفيذية.
لم تقتصر آثار الانقسام الاحتجاجي بشأن المشاركة في حكومة الكاظمي من عدمها, على الجدل الدائر في أروقة مواقع التواصل الاجتماعي وخيم المعتصمين, بل سرعان ما بانت نتائجه الواضحة على الموقف من موجة التظاهرات التي انطلقت بعد أربعة أيام من مصادقة مجلس النواب العراقي على حكومة الكاظمي. وعلى العكس تماماً من حالة الاتفاق شبه الموحد التي غلبت على طبيعة الحراك السابق لكتلة المحتجين المدنيين, بدا واضحاً بأن الانقسام هو من قد تسيَّد المشهد صبيحة أحداث يوم 10/5, والتي عرفت باسم تظاهرات (مهلة واسط).
تؤكد قراءة تفاصيل التظاهرات التي انطلقت في هذا اليوم وما رافقها من خطابات, على أن أغلب الداعمين لخيار المشاركة في حكومة الكاظمي لم يشتركوا فيها, أو حتى يشجعوا على تأييدها, وهو ما ساهم, وإلى جانب عوامل موضوعية أخرى, في حصر رقعة انتشارها, والتقليل من عدد المشاركين فيها, حيث اقتصرت الجغرافيا الاحتجاجية لهذه التظاهرات على كل من مدن واسط, وبابل, وبغداد, والبصرة, والديوانية, والناصرية, ولم تشمل بقية المدن. وفي حين كان زخم المشاركة كبيراً في واسط وبابل, فإنه قد اتسم بالمحدودية في كل من بغداد, والبصرة, والناصرية, والديوانية. ولم يختلف الأمر كثيراً مع البيانات التي صدرت عن ساحات المعتصمين؛ إذ افترقت بدورها ما بين تلك التي ترفض الحكومة بوصفها نتاجاً للمحاصصة( بيان محافظة واسط, وبيان معتصمو ساحة التحرير), وبين من تدعو إلى منحها مهلة من الوقت( بيان ثوار النجف الأشرف, وبيان الاعتصام الطلابي لجامعة الكوفة).
من الواضح بأن ما دفع هذا الانقسام لأن يكون له مثل هذه التأثيرات بالغة الخطورة على زخم الحركة الاحتجاجية, هو أنه قد جاء في أشد الأوقات حَراجةً من عمر الانتفاضة التشرينية. فعقب الخلاف الكبير الذي حصل ما بين الصدريين والمدنيين, وبعد ظهور فايروس كورونا, وما تبعه من قرارات منع التجمعات البشرية, وحظر التنقل, لم يبقَ لدى المتظاهرين من العدد , والقوة المعنوية, ما يكفي لمقاومة أية تصدعات جديدة. وإذا كانت موجة احتجاجات مهلة واسط قد انتهت من دون أن تحقق شيئاً يذكر من أهدافها المعلنة, فمن المؤكد بأن حالة الانقسام الاحتجاجي التي ظهرت في صفوف المحتجين مع ولادة حكومة الكاظمي ستستمر. وفيما يخص المستقبل القريب, من المتوقع بأن آثار هذا الانقسام ستلقي بظلالها على أية محاولة جادة ستبذل من أجل توحيد قوى الاحتجاج المدنية في إطار حركة سياسية منظمة. وفي النهاية سيبقى الاختبار الحقيقي لمصداقية أو بطلان حجج المؤيدين والمعارضين, وما سيترتب عليه من صعود أو هبوط في نسبة الرأسمال الرمزي لكل منهما, مرهوناً بنوعية الأداء الفعلي لحكومة الكاظمي وما يمكن أن يترتب عليه من نجاح أو فشل في إدارة الملفات المتعلقة بالمطالب الأساسية للمحتجين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. العراق: السجن 15 عاما للمثليين والمتحولين جنسيا بموجب قانون


.. هدنة غزة تسابق اجتياح رفح.. هل تنهي مفاوضات تل أبيب ما عجزت




.. رئيس إقليم كردستان يصل بغداد لبحث ملفات عدة شائكة مع الحكومة


.. ما أبرز المشكلات التي يعاني منها المواطنون في شمال قطاع غزة؟




.. كيف تحولت الضربات في البحر الأحمر لأزمة وضغط على التجارة بال