الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العنصرية والطائفية والرُكبات على الرَقبات

جلبير الأشقر
(Gilbert Achcar)

2020 / 6 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


في الوقت الذي تغمر بلدان الغرب موجة عارمة، بلغت في الولايات المتحدة الأمريكية حجم تسونامي بشري وسياسي، نبذاً للعنصرية والاستعلاء العرقي إثر حاثة اغتيال جورج فلويد، تمنّينا أن تغمر هذه الموجة منطقتنا العربية التي لا تقلّ فيها العنصرية تأصّلاً، بل تزيد في الحقيقة. فإن نماذج الحقد العرقي البشعة مستشرية في ربوعنا، سواء تعلّقت بلون البشرة أو بالأصل القومي/الإثني أو بالإثنين معاً. فمن الاعتداءات العنصرية على السودانيين في مصر إلى الاضطهاد العنصري الشنيع الذي يتعرّض له المهاجرون السود في ليبيا إلى شتى الممارسات العرقية في سائر بلدان المغرب الكبير (وهي تبلغ أوجّها في موريتانيا التي لم تتخطّ بعد تراث العبودية البغيض)، إلى العنصرية المؤسسية التي شكّلت ركناً من أركان نظام عمر البشير في السودان والتي لا تزال الميليشيات المسلّحة التي جسّدتها متربّعة على السلطة، إلى المشاهد المألوفة في منطقة الخليج حيث تكتمل العنصرية باستعلاء معمّم إزاء الأجانب ولاسيما أفقرهم وأفقرهنّ، أي سواد اليد العاملة، إلى الحقد العرقي إزاء الكُرد في العراق وسوريا، إلى الاضطهاد العرقي والطبقي والذكوري الشنيع الذي تتعرّض له عاملات المنازل القادمات من شتى البلدان الأفريقية والآسيوية في لبنان والأردن على غرار الدول الخليجية، إلى حالات كثيرة أخرى، فإن منطقتنا، والحق يُقال، هي إحدى أكثر مناطق العالم عنصرية على الإطلاق. وكم من «جورج فلويد» و«جورجينا فلويد» يُقتلان كل يوم في ربوعنا بدون أن يرفّ لمجتمعاتنا جفن!
ذلك أن الثقافة الرجعية الموروثة من أزمنة غابرة وجائرة لا تزال متأصلة في منطقتنا، تكرّسها أنظمة هي ذاتها موروثة من تلك الأزمنة، تُديم ثقافتها البغيضة وتروجّها يومياً بشتى الوسائط، بدءاً بما يسمّى «الإعلام» وهو أقرب إلى التجهيل. فإن قِيَم الزمن التاريخي الحديث، تلك التي بزغت منذ القرن الثامن عشر وانتصرت في قسم كبير من المعمورة، قِيَم «الحرية والمساواة والأخوّة» كما لخّصها شعار الثورة الفرنسية على الاستبداد المَلَكي، تلك القِيَم لم تترسّخ بعد في منطقتنا، ولا تزال تحاول شقّ جدار الظلم السميك، كما حصل أثناء مرحلة «الربيع» (أي الأشهر الأولى التي استحقّت فعلاً ذلك اللقب) في كل انتفاضة من الانتفاضات العشر التي شهدتها ربوعنا خلال العقد المنصرم.

بيد أن موجة الاحتجاج العالمي على العنصرية لم تطل ربوعنا، ويا للأسف، اللهّم سوى بتظاهرة صغيرة في تونس العاصمة وأخرى أصغر في بيت لحم ومواقف تضامنية هنا وهناك، كما في ساحة التحرير في بغداد. بل على العكس، فقد رأينا بعض الجماعات في لبنان تحاول الردّ على التضامن البشري الرائع الذي أبداه المناهضون للعنصرية من البيض الأمريكيين مع مواطنيهم السود، تحاول الردّ على ذلك التضامن بأشنع مواقف الاستفزاز الطائفي وأغباها. وهؤلاء من حيث يدرون أو لا يدرون أدوات لسياسة عريقة في القِدَم، تتيح لذوي الملكية والسلطة أن يفرّقوا بين القابعين في أسفل الهرم الاجتماعي كي يصونوا سيادتهم عليهم أجمعين.
قامت الانتفاضتان العراقية واللبنانية في الخريف الماضي وهما تنبذان بقوة التفرقة الطائفية، إدراكاً من المبادرين والمبادرات إليها أن تلك التفرقة هي أنجع الوسائل التي يحوز عليها أعضاء الطبقة السائدة بكافة مكوّناتها الطائفية كي يواصلوا الضغط برُكباتهم على رَقبات الشعب، على غرار ما أصاب جورج فلويد. ومنذ ذلك الحين وأعضاء الطبقة السائدة في البلدين يبذلون مساعي حثيثة وموتورة كي يعيدوا الأمور إلى نصابها الطائفي، وذلك بتحريكهم لذلك الجمع ضمن «بيئة» كل منهم، الذي يعميهم الولاء الطائفي (وما يرتهن به من أجر لدى بعضهم) إلى حدّ أنهم لا يرون أن أوضاع عائلاتهم المعيشية تنهار بسرعة فائقة وأن الشرخ لا يني يتعمق بين عامة الشعب بكل طوائفه في قاعدة الهرم الاجتماعي، والطبقة السائدة بجميع أعضائها في قمة هذا الهرم. إلّا أن عجلة التاريخ تدور بالضرورة في الاتجاه التقدّمي الذي تسير البشرية نحوه منذ آلاف السنين، ولو رجعت القهقرى من حين إلى آخر فإن قدرة الطبقات الرجعية على أن تخدع البسطاء تتقلصّ لا مُحال، لاسيما حينما تسرّع الأزمة الاقتصادية في تعريتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات الرئاسية الأمريكية: نهاية سباق ضيق


.. احتجاجًا على -التطبيق التعسفي لقواعد اللباس-.. طالبة تتجرد م




.. هذا ما ستفعله إيران قبل تنصيب الرئيس الأميركي القادم | #التا


.. متظاهرون بباريس يحتجون على الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان




.. أبرز ما جاء في الصحف الدولية بشأن التصعيد الإسرائيلي في الشر