الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميات مضيق الرمال (6)

طارق حربي

2020 / 6 / 10
الادب والفن


يوميات مضيق الرمال
6
آلة تقطيع الخبز
لا يفضل النرويجيون تقطيع الخبز، ونُسمّيه في العراق الصَّمُّون، بالسكين! فنسبة كبيرة من القوم هنا تقدم بهم السنُّ، وأصبحوا لا يقوونَ على قطع الصمّون بالسكين! ومنذ سنة 2005 أُدخلتْ آلة كهربائية إلى الخدمة، وأصبح في وسع الزَّبون تقطيع الصمّونة في متاجر بيع المواد الغذائية، على شكل شرائح متساوية لعمل سندويشات، لا يستغني عنها العمال والموظفون في مواقع عملهم، والتلاميذ والطلاب في مدارسهم!

في اليوم الثاني على انتقالي إلى الشقة الجديدة، سألتُ سيدة في متجر (ki wi) عن الآلة المفقودة، وكانتْ في الماضي توضع بجانب رفوف، صُفَّ عليها ما لذَّ وطاب من أنواع الصمّون، فقالتْ بأن السلطات الصحية منعتْ استخدامها منذ بدأ (كوفيد-19) بالتفشي في النرويج، في شهر آذار الماضي.

في الأسبوع الماضي، سُمِحَ للمتاجر في أرجاء البلاد كافة بإعادة العمل في الآلة، وصرتُ أقيس انحسار الفيروس وانفراج الأزمة، بِحرّية الاحتكاك والتلامس بين البشر، بما في ذلك آثار أصابعهم على الألمنيوم اللماع للآلة! ومن دون الاطلاع على الإحصاءات اليومية لتفشي الفيروس في وسائل الإعلام، تولدتْ لديَّ قناعة بأن أيامه الأخيرة في النرويج بدأتْ فعلا.

توفي اليوم أحد المصابين ولم يتوفى سواه خلال الأسابيع الماضية، وأصيب 14 ليصبح العدد الكلي من المصابين في النرويج 8561 خلال ثلاثة أشهر، وهو رقم ضئيل بالمقارنة مع الإصابات في الولايات المتحدة، التي ما زال الفيروس يتفشى فيها بلا هوادة، أما البرازيل فقد نُكبَتْ بإصابة 700 ألفاً من مواطنيها خلال بضعة أسابيع!، مع الأخذ بنظر الاعتبار فارق عدد النفوس بين البلدان الثلاث.

أكثر من 7 ملايين مصاباً وناهز عدد الوفيات النصف المليون في العالم، يقابله هبوط الخط البياني لعدد المصابين في النرويج، من 300 في شهر مارس إلى 30 حتى مطلع شهر يونيو! وفي مقاطعتنا الجنوب شرقية (vestfold og telemark) 270 مصاباً، 41 منهم في مدينتنا السياحية! أغلب الظن أنْ تلتحقَ المدنُ المصابةُ بالفيروس بعد هزيمته فيها قريباً، ب 78 مدينة وبلدة لم يطرق أبوابها على طول خارطة النرويج!

أقوى دليل على هزيمته، أن أخباره ومنذ أسابيع، لم تتصدر واجهات الصحف وشاشات التلفاز. طغتْ عليها في صحف الإثارة وأشهرها (VG) مثلا، آخر أخبار لغز اغتيال أولف بالمه، رئيس وزراء السويد في سنة 1986. الأرجح بسبب وساطته لإيقاف الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي. وقيام شرطي أمريكي أبيض قبل عشرة أيام، بخنق جورج فلويد ذي البشرة السوداء في ولاية مينيابوليس، وتداعيات ذلك في تظاهرات عارمة ضد العنصرية في 30 ولاية أمريكية، امتد تأثيرها إلى فرنسا وبريطانيا، ووصلتْ إلى ذروتها في لندن قبل أيام بإسقاط تمثال تاجر رقيق من العهد الفيكتوري. وكذلك اختطاف السيدة هاجن في نهاية شهر أكتوبر لسنة 2019، وهي زوجة أكبر مستثمر في العقارات في النرويج، وطلب الخاطف لفدية مقدارها 9 ملايين يورو، تُدفع بالعملة الرقمية! حيلة جديدة ومبتكرة للخاطفين، للحيلولة دون اقتفاء أثرهم وملاحقتهم!

ومن علامات هزيمة الفيروس في المضيق، أن ثمة بارات ومطاعم كانتْ مغلقة في شهري آذار ومايس، أعيد فتح أبوابها في مطلع شهر يونيو. وهل أشَقُّ على نفس النرويجي من غلق البارات والمطاعم؟ وتحول المضيق إلى مدينة أشباح تحت غيوم سوداء ورمادية تقبض النفس؟ ففي المطاعم والبارات يجد في لقاء أصدقائه سلواه، هو المعزول عنهم في منزله وحيداً، منذ ما قبل تفشي الفيروس وتعليمات التباعد! كما أعيد فتح أبواب نصف متاجر المدينة الغافية على شاطىء البحر، ويقف فيه أحياناً لاجئون عراقيون وفلسطينيون ومن أوربا الشرقية، ويصطادون السمك بالصنارة، ترسو وراءهم سفينة عملاقة بثماني طوابق، ينتظر قبطانها إشارة من السلطات المختصة، ليطلق صافرة الإبحار إلى مدينة سترومستاد السويدية، في رحلة ساعتين ونصف بين الجزر والشواطىء الخلابة، وارتشاف البيرة اللذيذة في بارات السفينة بما يعادل نصف ثمنها في النرويج، ناهيك بالمواد الغذائية المتوفرة في سوقها في الطابق الرابع، حيث يهرع إلى شرائها الكثير من سكان المضيق، نرويجيون وأجانب لرخص أثمانها!

تحت أشعة الشمس من بين قطعان الغيوم التي تسوقها الرياح نحو الشمال، أشاهد من نافذة الشقَّة في الطابق الثاني، أعالي الأشجار المشذبة المورقة، على طول شارعنا المؤدي إلى الميناء، هازئة بالفيروس، فالطبيعة أعظم منه، أوليستْ هي من صنعته؟! إن لم تكن يدٌ شريرةٌ تلاعبتْ في جيناته! كما تضاعفتْ أعداد المتجولين في مركز المدينة والشوارع القصيرة المتفرعة منه، من بضعة أفراد قبل شهرين إلى حوالي 50 قبل شهر، حتى بلغ العدد أكثر من 100 في يوم السبت، بدء العطلة الأسبوعية والتسوق في النرويج. وراح الناس المتشمسون في الحديقة العامة وأنا منهم، بوضع فُتات الخبز المُقطَّعُ بالآلة والمفروك بالأيدي، لتنقره عصافير الدُّوري، وكلما أشاهدها في الحديقة المشمسة، يداخلني شعور بأنني مازلتُ أعيش في العراق، نظراً لأن ذُرّية هذا الطير انتشرتْ في كل أرجاء المعمورة، عدا القارة القطبية الجنوبية.
مضيق الرمال
8/6/2020








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث