الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللصيق - قصة

طالب عبد الأمير

2020 / 6 / 10
الادب والفن


إستيقظت ذات صباحٍ، يشبه كل الصباحات الأخرى، مبكراً. وهذا بات ديدني في السنوات الأخيرة. هو أن أنام مبكراً وأصحو مبكراً. وقبل أن أذهب الى الحمام لأغسل وجهي وأزيل بقايا النعاس من عيني، تمتد يدي اليه بصورة تلقائية، أمسكه بهدوء ورقّة. فيستسلم ليدي الدافئتين و يغفو فيهما كعصفور ألمّ به البرد.
هكذا أصبحت علاقتي به في السنوات الأخيرة، على وجه الدقة. إذ بات يلازمني في كل خطوة أخطوها، فأنا لا استطيع إهماله أو الإستغناء عنه. وحتى عندما آوي الى سريري لأنام، فهو يقاسمني فراشي. لكنه لا ينام. ربما يغمض جفنيه قليلاً ويظل مستلقياً هناك حتى آخذه بين يدي فأحسه دافئاً فعالاً، صلباً كما هو دائماً. ودائماً هو يرافقني الى كل مكان أذهب اليه. كيف لا وهو لاصقاً بي كظلي. بل وأكثر من ظل، يعرف خطواتي وما أفكر أن أفعله اليوم.

هو بطبيعته لجوج، وفي الفترة الأخيرة أصبح متقلب الاهواء يلح كثيراً على الأشياء التي يريدها، فمثلاً في احدى المرات أجبرني مخيراً على التعامل معه وجها لوجه. بمعنى أن تكون علاقته معي ليست باللمس فقط، وانما بالنظر اليه. فأصبحت مجرد ما أقرّب وجهي منه حتى ينير لي المكان، ويفتح لي بواباتٍ لعوالم نائية، فألج ممراتها ودهاليزها المتفرعة، التي تمر عبر سيقان البلور الممتدة من واحة العشب المندى، عوالمٍ كانت حتى وقت قريب، مجرد التفكير بها ضرباً من الخيال.
قبل ذلك الوقت كنت أستخدم مفتاحاً سرياً لسبرأغواره، هو عبارة عن كلمات أو شفرات ورموز أستلها من مشجب الذاكرة. أرددها في سري، أو أكتبها على جسد ما، فيتلقفها لصيقي ويشرع لي أبوابه.
منذ أدركت تطوره وتناميه خلال فترة، من الزمن أكاد أجزم أنها ليست قصيرة، هي عمر هذا الكائن المميز العجيب التكوين، ذو الذاكرة الأسطورية. وهو يفتح لي الطريق و يقودني الى عوالمٍ خفية. و هو لا ينسى، بل يخزّن كل شئ في عروقه النابضة الظاهرة والمخفية في آن واحد. وهو يحتفظ حتى بالأشياء التي كنت أظن بأنها لم تبق في ذاكرتي، أو بالأحرى أُجبرت على نسيانها، لكن جل ملامحها، أوصداها يظل في ذاكرته. وهو في كثير من الأحيان يمثل دور المنبه لي ويذكرني بأشياء كثيراً ما أنساها وهو في مكانه.
العديد من الناس يصفونه بالصلب والذكي، بعد أن مر، بأزمنة نمو نوعية، صقلته وجعلته ذا خبرة في الأشياء التي لم تكن مألوفة في السابق، وخلال مدة غريبة في سرعتها، زمن أقل مايقال عنه قياسي، نسبة الى عمره، الذي قد يواكب عمري. أما حجمه لدي فهو متوسط، كما هو الحال عند آخرين مثلي. لكنه عند بعضهم يقصر أو يطول قليلاً أو كثيراً. لكن هذا لايهم. المهم هو كيفية إستخدامه بالشكل الصحيح، إذ أن البعض لا يجيد التعامل معه بالشكل الذي يتيح الاستفادة من إمكانيته الدفينة. بعضهم يرى أن الأهم من كل شئ هو أن يؤدي الغرض الأساسي المطلوب ولا يخيب الآمال، خاصة في الحالات الحرجة، دون الحاجة الى شحن استثنائي.
هذا الكائن اللصيق، وبخلاف كل الأشياء الأخرى التي تبدأ صغيرة ثم تكبر، ظهر ومنذ البداية مخالفاً لطبيعته، فقد بدأ ضخماً حين أصبح جاهزاً للأستخدام الفعلي. ثم أخذ حجمه يتضائل مع تقادم العمر والتطورات التي رافقت صيرورته، حتى بات اليوم أصغر من حجم الكف. أو من إصبع الإبهام حتى، لدى البعض طبعاً، وخاصة الكبار في السن.
فاجأني في أحدى المرات، بعد أن أسدلت عليه الستارة لأستريح منه أو ليستريح هو مني، لا يهم، فالأمر سيان، إذ أن كلانا أخذ يستنزف الآخر في الآونة الأخيرة. فاجأني بطلب، أو لنقل إقتراح، أن لا أستخدم كلمة السر في التعامل معه، وإنما هو سيتعرف علي بمجرد أن أنظر اليه فيسمح لي بالمرور الى عوالمه الجميلة، أو أن أضغط عليه بأصبع الإبهام في نقطة خاصة وحساسة في جسده، فوافقت على الاقتراح الأول. وها أنذا منذ ذلك الحين لم أجهد نفسي في تذكر كلمة السر الخاصة به. وحسناً ما فعل، فقد خفف عني ثقلَ تذكر أحد هذه المفاتيح الكثيرة التي يتوجب عليّ تخزينها في مكان ما من الذاكرة.
لا أخفي عليكم بأنني توجست من هذا الطلب، في البدء، وترددت كثيراً قبل الموافقة عليه. وكنت أتسائل ما معنى أن يحفظ هذا المخلوق وجهي وطلتي ليفتح لي المغارات والعوالم التي له قدرة الولوج اليها؟ هل سأكون مكشوفاً له فقط، أم أن هناك شخصاً ما، أو شبحاً أو فريقاً من الأشباح يجلسون في مكان ما من هذا العالم الفضائي يراقبون ويخططون لكل ما يقوم به؟ هذا الأمر أقلقني في البداية بعض الوقت، لكنني الآن إعتدت عليه، مثل آلاف الأشياء التي يجد المرء نفسه مخيراً أومجبراً على أن يعتاد عليها، والا أصبح متخلفاً عن الركب.
لكنه في صباح ذلك اليوم، عندما أخذته بين يدي، وكان الأمر تلقائياً، كما اعتدت القيام به، حدث شيٌ لم يكن مألوفاً. حدث ذلك، بالأحرى، مرتين، في تلك الفترة التي حسبتها قصيرة. وهي حالة، ربما تحصل كثيراً أو قليلاً لآخرين، كما سمعت من قصصٍ نُسجت حوله. لكن يندر ما تحدث لي. او هذه هي المرة الاولى التي تحصل معي. ليس لدي اي تفسير للاسباب التي تقف خلف هذا الأمر؟ لربما كان ذلك قد جرى في الحلم.!!!
فقد وجدته بعكس ما ألفت أن أراه في اليقظة، إذ كان منطفئاً، بارداً، ومنعزلاً تحت الغطاء. حسبته لفظ انفاسه . بعدها أخذ يهذي بكلمات لم تتلقفها أذناي بوضوح..ربما هي كلمات من لغة اجنبية، ومن رنتها في الاذن تبدو وكأنها يابانية او صينية. هذا لايهم الآن على الأقل، فالمهم هو مازال على قيد الحياة. غير أنه بدا خائفاً. هذا ما شعرت به. ولكي اطمئن أكثر مددت يدي نحوه فتحرك قليلاً، فأحسست بدفئه وصلابته.
لكن ما اقلقني كثيرا هو انه عاد الى الهذيان ثانية بكلمات تبدو اكثر وضوحا لكني لم اجد لها معنى او تفسير. كان يقول كي كو رو … او ما شابه. أو ربما كان ذلك في الحلم.. إذ على ما بدا أنني غفوت ثانية، في ذلك الصباح الباكر. وعندما استيقظت وامتدت يدي له بحكم العادة، لم أجده في مكانه، فراحت أصابع يدي اليمنى تبحث عنه في كل مكان، تلمست الاشياء التي عادة ما ترافقني الى فراشي. هنا كتاب وهناك قصاصات أوراق كتب عليها بعض نصوص واستعارات مجازية وابيات شعر شعبي وغير ذلك.. كلها موجودة، ثم تحسست جسدي واعضائه. كان كل شئ في مكانه الأ هو.. حاولت أن أستعين بيدي اليسرى، التي مازالت تحت الغطاء، فشعرت بخدرٍ فيها.. ولما رفعته عنها وسحبتها رويداً، فوجئت بأن ساعتي إختفت من معصمي وحل محلها سوارٌ شفّاف من السيلكون إلتف حولي وعليه أرقام ومؤشر للوقت بإضاءة ذات لون أخضر فاتح.
كان الوقت يشير الى الساعة السادسة والدقيقة العاشرة صباحاً. كان في السوار ثمة خيط رفيع، بمجرد ما لامسته أصابعي حتى خرجت منه شاشة ضوئية، ظهرت عليها كل الأيقونات التي عادة ما أستخدمها في جهاز الكمبيوتر، ولكن بألوان غريبة.. نقرت على أيقونة الكتابة (الوورد) ففتحت لي صفحات تحولت كل نصوصها الحرفية الى أرقام مشفرة بصفر و واحد. ومؤطرة في دوائر ومربعات وما شاكل ذلك. أغلقت الإيقونة وفتحت جارتها وكانت علامة الغوغل، وقد بدت لي غريبة بعض الشئ. بعد ذلك لمحت ايقونة جديدة ليست لدي معرفة بها من قبل. كانت الأيقونة تحمل صورة لنموذج إنسان آلي. وما أن لمستها يدي ، حتى رن جرس من احد جانبي المعصم... وسمعت صوتاً يرحب بي الى عالمي الجديد. لم يكن صوتاً آدمياً، وكان مضخماً ومدوياً كما لو أنه يأتي من العالم الخارجي.
حاولت غلق الأيقونة عدة مرات، لكنها كانت عصية على الإغلاق ، فقلت في نفسي ربما اصابها فيروس، لأنها كانت مصرةً على أن تأخذني الى دروب غير مؤمنة في هذا العالم الإلكتروني الجديد.
في تلك الإثناء تراءى الى سمعي نقرٌ على شباك غرفتي الوحيد المطل على الحديقة.. وعندما فتحت عيني، كانت ثمة حُبيبات من المطر طاردتها الرياح فجاءت تستنجد بنافذتي المغلقة. نهضت وتقدمت نحو النافذة فتحتها بتأنِ حتى لاتقحم الريح نفسها دفعة واحدة. داعب بعضٌ من رذاذ المطر وجهي وأشعرني بنوع من الحيوية. تطلعت الى معصمي. كانت ساعتي اليدوية في محلها ولم يعد للسوار الألكتروني أي أثر. بينما يدي الأخرى تمسك به، كما هو الحال في كل الصباحات التي أستيقظ فيها مبكراً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سكرين شوت | نزاع الأغاني التراثية والـAI.. من المصنفات الفني


.. تعمير - هل يمكن تحويل المنزل العادي إلى منزل ذكي؟ .. المعمار




.. تعمير - المعماري محمد كامل: يجب انتشار ثقافة البيوت المستدام


.. الجنازات في بيرو كأنها عرس... رقص وموسيقى وأجواء مليئة بالفر




.. إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا