الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بضعة أعوام ريما: بقية الفصل العاشر

دلور ميقري

2020 / 6 / 10
الادب والفن


4
على الأثر، توقفت نيللي ثم طلبت أن يعودا أدراجهما من نفس الدرب: " لقد أخذني الحديث، فلم انتبه إلى الطريق. الحقيقة أن منزل بربارا ابنة خالتي على مقربة من محطة القطار، لكنني شئتُ سلكَ دروبٍ فرعية كيلا نصطدمَ بالجندرمة "
" لكن حارسي أكّدَ أن الفرنسيين باتوا يسيطرون على المنطقة، وإلا لكان من المحال أن يدعني أهرب لما في ذلك من مسئولية عليه "
" لنأمل بأنه حقيقة وليسَ شائعة، خبرُ دخول الفرنسيين. على أي حال، الدولة هُزمت في الحرب وستدفع ثمن جرائمها جميعاً "، قالتها نيللي بنبرةٍ تنبض ألماً وحقداً معاً. غير أن ذلك لم يطمئن خاطر الفتى، المحكوم بالنفي: أينجو من عقوبة ثلاثة أعوام شغل، لكي يقع بين أيدي منتقمين لن يتورعوا عن قتله ـ كما حصل في بداية الحرب، لما اجتاح الجيش الروسيّ الولايات الشمالية وتسلى مع حلفائه الأرمن والنساطرة بقتل المدنيين المسلمين من كرد وشركس وترك وغيرهم.

***
كان ثمة ضباب خفيف، تغلغل في الشارع العام لحي البلديات، لم ينتبه له حدّو في خلال سيره الملهوج والمضطرب. ذلك تتميّز به فجراً، المدنُ الواقعة على مسافة قريبة من البحر والجبال. أشار إليه، وكأنما يراه لأول مرة مذ خروجه من محطة القطار: " ضباب.. "
" هذا هوَ، أخيراً، منزل ابنة خالتي "، كذلك كان رد رفيقة الرحلة. كان للمنزل واجهة متواضعة، يتصل مدخله مع الباب الرئيس بسلم خشبيّ من بضع درجات. عدد من الأشجار الصنوبرية، بقامات قصيرة نوعاً، توزعت على مقربة من الجدران وكانت تلوح مثل الأشباح في هذا الوقت من الفجر. لحُسن الحظ، وصلوا في الوقت المناسب. لأن الطفل أفاقَ جائعاً، فأخذ يئنُ فيما يتطلع بفضول إلى الغلام الغريب. أخذته الأم من حدّو، وما لبثت أن ارتقت السلم الخشبيّ: " إننا في منزل خالتك مجدداً، فالشكر للرب أن منحنا النجاة "، خاطبته وهيَ تقبّله. هنيهة، واشتعل مصباح مدخل المنزل، الكهربائيّ. ثم ظهرت على الأثر سيدة شابة عند الباب الموارب، رآها الغلامُ الغريبُ حسناءً برغم علامات النوم على سحنتها.

***
مثلما انقشعَ الضبابُ مع أولى خيوط الشمس، كذلك كان حال مخاوف الفتى حدّو. لكن الأمرَ لم يحصل بين يوم وضحاه، بل مع مرور الوقت في هذه المدينة الجميلة ذات الحدائق والمنتزهات المتعددة. برغم أنه قضى عاماً في أضنة، حَسْب، فإنه بقيَ يحتفظ عنها في ذهنه بأروع الذكريات. كما أن الذكرى، تواءمت مع اسم لا يقل إثارة؛ " بربارا "، التي تعرف فيها على المرأة، للمرة الأولى!
حدّو، تعرف قبل كل شيء على عالم آخر، شكّلته المدينة الكبيرة. لكن الطابع الريفيّ كان غالباً على هذا الحي، برغم قدمه وقربه من المركز. سيعلمُ فيما بعد من المضيفة، أن هؤلاء الريفيين الكرد استولوا ببساطة على منازل النصارى وذلك عقبَ فتنة عام 1905. بينما آخرون استغلوا ظروفَ فرمان تهجير الأرمن، بعد عقد من السنين، كي يجلبوا المزيدَ من أقاربهم من القرى والضواحي القريبة والبعيدة. مع ذلك، حافظ جيرانُ بربارا على علاقة وثيقة معها، بحيث أنها لم تفكّر بالنزوح كما فعل عدد من أقاربها.
نيللي، من ناحيتها،، بقيت على قلقٍ مقيم وحلم الاستقرار في بلد آخر ما ينفك يراودها. هذا، مع أن الفصائل الأرمنية سرعان ما سيطرت على إقليم كيليكيا كله، فشكّلت إدارة حكم بعدما رفرفت أعلامها الوطنية على المباني الرسمية في أضنة ومرسين. بسبب ندرة أبناء جلدتهم في الإقليم، اضطر هؤلاء إلى استبعاد أي إجراءات انتقامية بحق السكان المسلمين. غير أن الفضل الأساس في ذلك، كان يعود لوجود القوات الفرنسية.
" فلول الجيش العثماني، تجمعت في الولايات الوسطى والشرقية تحت قيادة جنرال رفض الاعتراف بالسلطان الجديد. ويقال، أن هدف هذا الجنرال هو طرد الفرنسيين وحلفائهم الأرمن واليونانيين ومن ثم إعلان الجمهورية "، نقلت بربارا لابنة خالتها ما سمعته تواً من جيرانها. كان قد مضى أشهر على حلول حدّو في ظهراني السيدة الأرمنية الكريمة، بحيث أنه صار يفهم القليل من لغتها. في الأثناء، كانت ابنة خالتها لا تكف عن بث مخاوفها عن خطورة البقاء في أضنة. هكذا جاء الوقتُ، الذي سيتفرق فيه شملُ هذه العائلة الصغيرة: غادرت نيللي أولاً مع ابنها، راكبةً البحرَ باتجاه بيروت. أما بربارا، فإنها فضّلت النزوحَ إلى مدينة أقرب؛ وهيَ اسكندرونة. باعت بيتها لأحد أثرياء الحي الأتراك، تاركةً له الأثاثَ المعبق بذكريات العائلة.
باكياً، ودّع حدّو المرأتين الواحدة تلوَ الأخرى. لكن المضيفة زودته ببعض المال، كي يستعين به في السفر إلى أهله. قالت له، والدمع في عينيها الجميلتين: " لو حصل وحضرتَ إلى اسكندرونة، اسأل عني في الحي الأرمنيّ ".

5
كان حدّو يستعيد ذكرياته السعيدة، هنا في البلدة الكئيبة، وذلك بعدما أضرمتها المشاهدُ المثيرة لجسد خادمة أخته. هذه الأخيرة، ببساطة خلقها الريفيّ، أثيرت بدَورها بما عرفته عن مغامرة الغلام؛ وبالأخص قضائه عاماً تحت سقف أرملة شابة، نصرانية، ثمة في إحدى مدن الأناضول. بعض تفاصيل المغامرة، سمعتها على لسانه حينَ كانا يختليان معاً بغياب سيديّ الدار. رغم طبعه الكتوم، أفلت لسان حدّو غير مرة برغبته في مغادرة عامودا بأسرع وقت ممكن. قالت له حنيفة: " حرام أن تفعل ذلك بأختك، وأنت القريب الوحيد لها الباقي في هذه البلاد ". في أحد الأيام، عثرت بين طيات فراشه على مبلغ من المال. خوفاً من إغضابه، سلّمته له دونَ أن تخبر أخته. اكتفت بما قاله عن المال: " حصلتُ عليه من الأرملة النصرانية، لكي أستعين به على السفر إلى أهلي. لكنني خشيتُ ركوبَ وسائل النقل العامة، لألا أتعرض للاعتقال مجدداً ".
الوقتُ كان ما يفتأ خريفاً، لما غادر رمّو آغا الدارَ ذات يوم في رحلة صيد. أراد أخذَ حدّو معه، بيد أن هذا تحجج بتوعك صحته منذ اليوم السابق. عقبَ ذهاب صهره، صار يتحين فرصةً يفلت فيها من نظر الأخت. لقد صممَ على السفر إلى مدينة اسكندرونة، مستعملاً هذه المرة القطارَ. إذ تناهى لعلمه في الأيام الماضية، أن خط سكة الحديد بات تحت إشراف القوات الفرنسية، المسيطرة على إقليم كيليكيا والساحل السوريّ. نفس حجة المرض، أسمعها لريما في يوم تالٍ لما دعته لمرافقتها إلى منزل أحد الأعيان، وكانت مدعوة من لدُن امرأته على الغداء. عقبَ مغادرة أخته الدارَ مع ابنتها، طلبَ حدّو من الخادمة أن تعد له الزادَ في خرج صغير: " قررتُ اللحاقَ بصهري إلى تلك القرية، التي اعتاد أن يصيدَ فيها "، أوضحَ لها كاذباً. بعد قليل، سلمته حنيفة ما طلبه وهيَ صامتة. لما ودّعها عند الباب، تساءلت: " هل أخبرتَ أختك عن نيتك اللحاق برجلها في رحلة الصيد؟ ". أومأ رأسَهُ بحركة غامضة، وما لبثَ أن غادرَ بخطى عجولة وكأنه مُطاردٌ.

***
وصل نصيبين على حدّ الظهيرة، فلحق بقطار كان يتهيأ للانطلاق بعد نحو ساعة. ساعد عائلةً في نقل أمتعتها إلى مقصورة فارغة، وما عتمَ أن وجد مكاناً هنالك كما لو أنه أحد أفرادها. ذلك خلّصه من لجاجة الشرطيّ، المرافق لقاطع التذاكر. غبَّ ذلك استرخى في مجلسه بالقرب من طفلين صغيرين، وراحَ يستمع لحديث والديهما وشقيقتهما الكبيرة. مع سعادته لتوفقه في السفر، بقيَ في أعماقه نادماً بسبب خداعه لأخته وصهره. هذا الأخير، مثلما سبقَ وذكرنا أكثر من مرة، كان بمثابة الأب لحدّو منذ سكنه في منزله ببداية الحرب وحتى لحظة التورط بقتل الشيخ البدويّ. ولقد أظهر رمّو آغا عظيمَ فرحته بتخلص ابن حميه الصغير من المنفى، حدّ ذرف الدموع. تخلصاً من الشعور بتأنيب الذات، راحَ حدّو يُشارك في الحديث العائليّ. كان معتاداً على جعل الكبار يستأنسون بحضوره، وذلك نتيجة اختلاطه بالناس الأغراب في خلال سنةٍ من المنفى.
قال له رب الأسرة، وكان من قرية في منطقة أومريان: " وعدتُ عائلتي لو كان موسمُ الحصاد جيداً، أن أصحبهم في زيارة إلى الأقارب في مدينة حلب ". ثم ما لبث أن سأل الغلامَ، عن وجهة سفره. رد حدّو، مراوغاً: " أقاربي يقيمون في اسكندرونة، ولقد سبقني أهلي في السفر لأنني كنتُ مريضاً "
" عند وصولنا لحلب، سأساعدك في تأمين وسيلة نقل إلى اسكندرونة "
" شكراً لك، يا عم "
" تلك المدينة، بل ومعظم الأناضول والساحل، بات الكفارُ يسيطرون عليها. لكننا لم نسمع عن اعتداءات على المسلمين هناك، وإلا لما غامرتُ باصطحاب عائلتي إلى حلب "، قالها الرجلُ متكلّفاً نبرة مطمئنة. طبع حدّو، المعلوم، جعله يحذر من الاسترسال في الحديث. فاكتفى بالقول: " الحمد لله أن الحربَ انتهت، وصار بمقدور المرء السفرَ حيثما شاء "
" كيفَ نحمد الله على انتهاء الحرب بهزيمة دولتنا العليّة، وكانت في السابق تركّع أممَ الكفار كبيرها وصغيرها؟ "، علّقَ الرجل ممتعضاً. بقيَ الغلامَ ساكتاً، لا يدري ما يجيب. ما جعل الآخر يلتفت إلى امرأته، ليسألها في شأن خاص بصوت منخفض. انتبه حدّو لأول مرة إلى هيئة الرجل؛ عمامته البيضاء وجبته ولحيته المعطرة ـ كي يدُرك من ثم أنه إمام جامع أو ربما فقيه. كان يعلم منذ أيام القرية، أن لرجال الدين حصةً في جني مواسم الحبوب والخضار والفاكهة.

***
لسعد فأل حدّو، أن الحافلة الكبيرة أنزلته في اسكندرونة وكان الوقتُ ظهراً أيضاً. في الليلة السابقة، اضطر للنوم في الفندق بسبب وصوله مدينة حلب في وقتٍ متأخر. وجدها مدينة عظيمة تليق باسمها الذائع، يمتد عمرانها على مساحة تكاد تبلغ الأفق. تحقق له ذلك من شرفة الفندق، حيث ذكّرته الأضواء الكهربائية المبهرة، المنبعثة من المنازل والشوارع، بمدينة الذكريات الجميلة؛ أضنة.
وهوَ ذا في مدينة أصغر حجماً بكثير، تعبق بملوحة البحر. لما سأل معاونَ سائق الحافلة عن الحي الأرمنيّ، فإن هذا أشارَ إلى جهةٍ أقرب للشاطئ، أسطح منازلها القرميدية تبرز منها أبراج الكنائس: " ذاك هوَ، وفي وسعك الوصول إليه على الأقدام خلال دقائق قليلة ". سارَ إلى تلك الجهة، وكان يُصادف في طريقه الجندَ الفرنسيين، راكبين السيارات أو في دوريات راجلة. ارتاح لمرآهم، دونَ أن يخطر في باله عندئذٍ أنه سينضم إلى صفوفهم بعد أعوام قليلة، وذلك بفضل حاميته نفسها؛ بربارا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال


.. الفنانة ميريام فارس تدخل عالم اللعبة الالكترونية الاشهر PUBG




.. أقلية تتحدث اللغة المجرية على الأراضي الأوكرانية.. جذور الخل