الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دين، سياسة واقتصاد في المونديال

جوزيف بشارة

2006 / 6 / 22
العولمة وتطورات العالم المعاصر


هل يمكن فصل السياسة والاقتصاد والدين عن مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية والرياضية؟ الإجابة تختلف من مجتمع إلى أخر ومن بيئة ثقافية إلى أخرى ومن محفل إلى أخر. إذا نظرنا إلى الغرب نجد انه في الوقت الذي أمكن فيه بنجاح منقطع النظير السيطرة على الدين وفصله عن كافة المجالات، فإن الاقتصاد بقي يدس أنفه في كل مظاهر الحياة، في الوقت الذي احتفظت فيه السياسة بموقع في منتصف الطريق بين الفصل والخلط. الوضع مختلف تماماً في مجتمعاتنا، فالخلط بين الدين والسياسة والاقتصاد والمظاهر الاخرى للحياة يكاد يفرض نفسه وبقوة وباستمرار، حيث غالباً ما تستخدم السياسة والاقتصاد في الدفاع عن الدين ووجوده في مظاهر الحياة المختلفة. لعل القضايا الكثيرة التي تشهدها وتثيرها بطولة كأس العالم لكرة القدم "المونديال" التي تقام في ألمانيا حالياً تقدم لنا نماذج حية لاستخدام الرياضة لأغراض اقتصادية، وكذلك للخلط بين الرياضة والسياسة والدين. يرتبط العديد هذه القضايا ارتباطاً وثيقاً بالقضايا والاختلافات والفروقات السياسية والاقتصادية والدينية التي يتسم بها العالم في المرحلة الراهنة من تاريخ البشرية. وعلى الرغم من أنه من المفترض أن يتركز المونديال حول ممارسة ومتابعة رياضة كرة القدم، إلا أن هذه القضايا الساخنة تلقي بظلالها الداكنة على الحدث الرياضي الأكبر الذي ينتظره مئات الملايين كل أربع سنوات حتى تكاد تفسد متعته وبهجته على محبي الرياضة التي توصف بأنها الأكثر شعبية وجاذبية.

لعل اولى القضايا الشائكة التي واجهها المونديال الألماني كانت اقتصادية، وتمثلت في اختراق مبادئ الرأسمالية المتوحشة للوائح الاتحاد الدولي المنظم للعبه، والتي تحولت بموجبه اللعبة إلى لعبة اقتصادية استثمارية تهتم بالمقام الأول بالأرباح والخسائر المالية. بدأت مشاكل هذا الاختراق حين رفع الاتحاد الدولي لكرة القدم واللجنة المنظمة للمونديال عبارة "للأغنياء فقط" على حق متابعة المنافسات عبر شاشات التليفزيون، بعدما تم تشفيرها وبيع حق نقلها لمحطات بعينها. لم يتأثر بالطبع المشاهد الغربي الغني بقرار التشفير لأن شبكات التليفزيون الغربية عادة ما تشتري حقوق نقل الأحداث الرياضية الكبرى وتقدمها مجاناً أو بأسعار رمزية للمشاهدين عبر قنواتها المتخصصة. ولكن المتأثر الحقيقي بقرار تشفير النقل كان الملايين من المشاهدين الفقراء في دول العالم الثالث وبخاصة المشاهدين العرب والأفارقة الذين تم حرمانهم من المشاهدة المجانية التي اعتادوا عليها في الماضي. لقد اقتصرت مشاهدة مباريات كأس العالم الحالي في دول العالم الثالث على القادرين على تحمل الأعباء المالية الضخمة التي تفرضها شبكات النقل التليفزيوني، فتحولت اللعبة التي يستمتع بمممارسها الفقراء إلى رياضة يستمتع بمشاهدتها الأغنياء.

ما كاد المونديال ينطلق حتى بدأت بعض المشاكل السياسية في معرفة طريقها إلى شوارع وطرقات وملاعب المدن الألمانية التي تقام بها المنافسات. كانت المشكلة الأولى التي واجهتها الشرطة الألمانية هي التظاهرات المؤيدة والمعارضة للنظام الإيراني المثير للجدل. إذ سبق اللقاء الأول لإيران مع المكسيك مظاهرات كبيرة انقسمت ما بين مؤيدة ومعارضة لسياسات نظام الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد. فقد تظاهر عدد كبير من الإيرانيين المعارضين احتجاجاً على سياسات النظام الإيراني المعادية للحريات وحقوق الإنسان. كما تظاهر عدد من قادة وزعماء اليهود الألمان اعتراضاً على تصريحات نجاد المتعددة التي أنكر فيها الهولوكوست والتي طالب فيها بإزالة إسرائيل من الوجود. وحمل المتظاهرون في الحالتين رايات تصف أحمدي نجاد بالتطرف والعنصرية، وطالبوا بمقاطعته واتخاذ موقف دولي موحد منه ومن سياساته. على الجانب الأخر فقد أبدى عدد أخر من المتظاهرين تأييدهم ومساندتهم للرئيس الإيراني، ورفع عدد من المشجعين صور أحمدي نجاد في المدرجات خلال المنافسات. الغريب والمثير للجدل هنا هو أن المظاهرات المؤيدة لنجاد كانت من تنظيم النازيين الجدد (!!!!!) الذين يعرفون عادة بعدائهم لليهود والمهاجرين والملونين، وهو الأمر الذي دفع بعض المعلقين إلى الإشارة إلى التقاء اهداف نجاد مع رغبات النازيين الجدد.

قضية أخرى تفاعلت في الأسبوع الثاني من المونديال واتخذت منحى سياسياً وهي قضية رفع اللاعب الغاني جون بينتسيل للعلم الإسرائيلي أثناء وبعد انتهاء لقاء غانا مع التشيك. فقد فسر العرب والمسلمون المسألة على أنها سياسية يراد بها طعن العرب وقضيتهم الاولى ضد الإسرائيليين في محفل دولي. وأبدى الكثيرون من العرب والمسلمين حول العالم اعتراضهم وغضبهم الشديد من تصرف اللاعب الذي وصفه البعض بأنه حماقة وتحدي لمشاعر الملايين من الفلسطينيين الذين يخوضون صراع الحرية مع الدولة العبرية، تمسك البعض بمطالبة الاتحاد الدولي لكرة القدم لمعاقبة اللاعب لاستخدامه رموزاً سياسية مختلف عليها في أثناء التنافسات. لا شك في أن الحساسية الشديدة للقضية الفلسطينية هي التي دفعت العرب والمسلمين للشعور بالغضب تجاه تصرف بينتسيل، ولكن هذه الحساسية لا تعني بالضرورة صحة المشاعر العدائية التي أبداها البعض نحو الفريق الغاني. فالتصرف كان فردياً وربما مفهومة دوافعه لكون اللاعب عضواً بأحد فرق الدوري الإسرائيلي، هذا فضلاً عن أنه كثيراً ما يقوم اللاعبون بحركات غريبة في الملاعب للتعبير عن فرحتهم. رد الفعل العربي والإسلامي يدفعني للتساؤل عن موقف الغاضبين إذا ما رفع أحد اللاعبين علماً فلسطينياً، إلم تكن لتقام عندها الاحتفالات ترحيباً بمثل هذا التصرف؟ إذ أنه من المعروف عنا التهليل لمن يؤيدنا حتى وإن كان خاطئاً والعويل ضد من يعارضنا حتى وإن كان سليماً. لعلي لا أبرر هنا تصرف اللاعب، ولكني فقط لا أريد تحميله أكثر مما يعني بالحقيقة، الذي قد يصل البعض إلى تصويره على انه مؤامرة صهيونية ضد العرب والمسلمين والفلسطينيين.

من ناحية أخرى انعكست التوجهات السياسية والاقتصادية والعسكرية الأمريكية على أوضاع المنتخب الولايات المتحدة المشارك في المونديال. ولقد قاد الخوف من التعبير العنيف عن مظاهر العداء والكراهية تجاه الأمريكيين إلى ما يشبه العزلة الكاملة للاعبين الأمريكيين عن الجماهير. وأدت خشية المنظمين الألمان من أعمال إرهابية ضد الفريق الأمريكي - على غرار أحداث أوليبمياد ميونخ 1972 ضد الفريق الإسرائيلي - إلى تأدية الفريق الامريكي لتدريباته تحت اجراءات امنية مشددة وبالغة السرية والتعقيد. لا شك في ان العداء الذي يبديه البعض تجاه الفريق الأمريكي يشكل خلطاً واضحاً بين مشاعرهم السياسية والرياضية، فرغم أن الرياضة قد استخدمت في الماضي للمساعدة في زوبان الجليد بين القوى السياسية المختلفة كالصين واليابان والولايات المتحدة وروسيا، إلا أن القدرة على تجاوز الخلافات السياسية في المرحلة الراهنة التي تشهد تطرفاً في المواقف السياسية والدينية والأيديولوجية تكاد تبدو منعدمة. وعلى الجانب العربي فقد واجه الفريق الأمريكي حملات عدائية من البعض بخاصة في وسائل الإعلام، كما شجع العديدون من العرب والمسلمين بحرارة المنتخبات الإيطالية والتشيكية التي لعب معها الفريق الأمريكي املاً في خروج الفريق الأمريكي من البطولة بخفي حنين.

لعل مظاهر الكراهية التي أبداها البعض نحو الفريق الامريكي تدفعني إلى التطرق إلى تدخل عامل الدين والقومية في تشجيع الملايين من العرب والمسلمين للسعودية وتونس وإيران في مبارياتهم ضد منافسيهم. فقد بات واضحاً أن الدين يلعب دوراً مهماً في الأحداث الرياضية، ولعل استخدام بعض المشايخ لمناسبة بث مباريات الفرق الإسلامية حول العالم في محاولة إظهار تدين وخشوع وتسامح المسلمين من خلال التعليمات الموجهة للاعبين بالسجود لله شكراً عقب إحراز الأهداف تبرز مظاهر استخدام الدين في المجال الرياضي. من المؤكد أن العرب والمسلمين ينفردون عن كل شعوب العالم بأنهم الوحيدون الذين يحشرون الدين في القضايا الرياضية، تماماً مثلما يفعلون مع المظاهر الأخرى للحياة. إذ لا نكاد نسمع أن يونانياً قام بتأييد صربيا والجبل الأسود حين لعبت مع الأرجنتين لأنها دولة تدين بالمسيحية الأرثوذكسية، وبالمثل لا نقرأ أن كولومبياً قام بتشجيع فرنسا حين لعبت مع كوريا الجنوبية لانها تتبع المذهب المسيحي الكاثوليكية. وعلى الرغم من قيام بعض اللاعبين المسيحيين وبخاصة الكاثوليك بأداء علامة الصليب عند نزولهم الملاعب أو احرازهم أهداف، إلا انه هذه العلامة أصبحت تكاد تقترب من العادة والأسطورة والخرافة منها إلى التدين. فلاعب مثل البرازيلي الشهير رونالدو يحرص باستمرار على أداء علامة الصليب قبل نزوله الملعب، ولكن هذا اللعب قام بكسر واحدة من أهم القواعد الدينية الكاثوليكية حين قام بالتطليق والزواج مرتين.

لعل القضايا والاختلافات والفروقات السياسية والاقتصادية والدينية التي لا تغيب عن دهاليز مونديال المانيا 2006 وغيره من الأحداث الرياضية الكبرى تبرز الاستخدام الصارخ للرياضة في المجالات السياسية والاقتصادية والدينية. واللافت للنظر أنه في الوقت الذي يستخدم فيه الغرب - على الجانب الرسمي - الرياضة لنشر مبادئ الرأسمالية، فإن العرب والمسلمين خلطوا – على الجوانب الشعبية والإعلامية والرسمية – بين الرياضة والقضايا الدينية والسياسية. ولعل هذا الخلط وذاك الاستخدام يبرزان الفارق الجوهري بين اتجاهات الغرب والعالمين العربي والإسلامي، ففي حين يسعى الغرب لفرض سيطرته الاقتصادية على كافة المجالات والأنشطة عبر فرض النظام الرأسمالي كنظام وحيد أوحد، فإن العرب والمسلمين يندفعون خلف خلط الدين والسياسة (بغرض الدفاع عن الدين) بالمظاهر المختلفة للحياة. ولعلي لا أبالغ إذا قلت أن الصراع بين الاقتصاد والدين الذي قد يتخذ صوراً سياسية أو ثقافية والذي تبدو مظاهره في كل المحافل بما فيها الرياضية هو الذي يتحكم في كافة مظاهر الحياة في وقتنا الراهن. فهل نقول وداعاً للتنافسات الرياضية الخالية من تدخلات السياسة والاقتصاد والدين؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل.. تداعيات انسحاب غانتس من حكومة الحرب | #الظهيرة


.. انهيار منزل تحت الإنشاء بسبب عاصفة قوية ضربت ولاية #تكساس ال




.. تصعيد المحور الإيراني.. هل يخدم إسرائيل أم المنطقة؟ | #ملف_ا


.. عبر الخريطة التفاعلية.. معارك ضارية بين الجيش والمقاومة الفل




.. كتائب القسام: قصفنا مدينة سديروت وتحشدات للجيش الإسرائيلي