الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإصلاح في العالم العربي وإشكالية التكامل العقلاني للمصالح القومية والدولية-جزء 4

أشواق عباس

2006 / 6 / 22
مواضيع وابحاث سياسية


أسباب إخفاق المشروع النهضوي العربي.

إن البحث في الأسباب القائمة وراء إخفاق المشروع النهضوي كانت وما تزال موضوعاً للجدل الفكري والسياسي، وذلك بسبب حيويتها الفعلية بالنسبة للمعاصرة والمستقبل. وهي قضية لم تعد جزءاً من المعترك السياسي والإيديولوجي فقط، بل ووثيقة الارتباط بإشكاليات الإصلاح والصراع الدائر حولها سواء داخل العالم العربي أو خارجه. وليس مصادفةً أن يكون الخلاف المنهجي الكبير منذ بداية التنظير لفكرة النهضة والإصلاح وحتى اليوم يدور من حيث الجوهر بين تيارين مختلفين في تحديد أولوية الأسباب، أي ما إذا كانت داخلية أو خارجية. وهو اختلاف منهجي حدد بدوره إبراز الأوليات والمواقف والحلول. وهي الحالة التي نعثر عليها الآن أيضاً في المواقف المتصارعة والمتضادة بصدد "الإصلاح من الداخل" و"الإصلاح من الخارج". وهي معارضة وتضاد ميتافيزيقي الهوية، لكنه واقعي ومؤثر في المواقف العلمية والعملية. وفيما لو وضعنا مضمون القضية المختلف عليها، أي تحديد الأسباب الكامنة ومصادرها الأساسية، فإننا نعثر على اتجاهين عامين بهذا الصدد، الاتجاه الأول وهو الذي اعتقد ممثلوه فيما مضى وأتباعه الآن بأنَّ الأسباب الأولية لإخفاق النهضة تكمن في تأثير العوامل الخارجية، أما الداخلية فهي عوامل ثانوية. بينما التيار الثاني يؤكد على أنَّ الأولوية في الأسباب هي للعوامل الداخلية أو الذاتية، ومن ثم فإنَّ العوامل الخارجية هي ثانوية وإضافية.
ويمثل التيار الأول فيما مضى كل من جمال الدين الأفغاني ورعيل الفكرة الإصلاحية الإسلامية الكبار، ومن المفكرين المعاصرين سمير أمين وطيب تيزيني. أما التيار الثاني فقد مثله فيما مضى قاسم أمين وفرح انطون، ومن المعاصرين محمد عابد الجابري وعبد الإله بلقزيز وغيرهم.
وكان المقصود وما يزال من مفهوم العوامل الخارجية هي طبيعة العلاقات الدولية وأثرها المباشر وغير المباشر على مصير المشروع النهضوي العربي. وهي علاقات كانت محكومة آنذاك باشتداد الصراع والتنافس بين الدول الأوروبية من أجل الاستحواذ على ممتلكات الرجل المريض، وكذلك بمساعيها الملازمة لإجهاض أية محاولة مستقلة للنهوض والتقدم، يمكنها أن تشكل خطراً على المصالح الاستعمارية الآخذة في التكامل. وهو تلازم لم يكن معزولا عن بروز وسيطرة المنظومة الكولونيالية الأوروبية. أما المقصود بالعوامل الداخلية فهي طبيعة ومستوى تطور البنية الاجتماعية، وواقع الظروف السياسية للعالم العربي آنذاك، بمعنى خضوعه للسلطنة العثمانية، مما حدد بدوره تبعيته المزدوجة (للأتراك والغزو الأوروبي). وهي مقدمات أثرت بدورها على كيفية التعامل مع إنجازات الحضارة الأوروبية المعاصرة، وبالأخص مشروع النهضة (الإصلاح بالمعنى العام للكلمة).
وفيما لو حاولنا تكثيف الآراء والأحكام والمواقف العامة لأصحاب التيار الأول، فمن الممكن حصرها بما يلي: أنهم يربطون أسباب فشل المشروع النهضوي العربي الحديث بالتدخل والتأثير المباشر وغير المباشر في العالم العربي (والإسلامي). وهو تدخل اتخذ صيغا وأشكالا متنوعة من الدبلوماسية حتى الحربية مروراً بالثقافية، إلا أنها كانت تهدف جميعها إلى شيء واحد، وهو وضع أكبر قدر ممكن من الصعوبات والعثرات أمام نجاح المشروع النهضوي العربي. وهي الفكرة العامة التي يتمثلها الفكر السياسي العربي المعاصر المنسوب إلى هذه الرؤية، ولكن من خلال إبراز ما يدعوه بوجود مسافة تاريخية وحضارية بين المشروع النهضوي العربي وبين الحداثة الأوروبية. وهو تباين جعل المشروع العربي أسيراً للأوربي، أو خاضعاً له أو متأثراً به. ومن الممكن أن نعثر على هذا التأثير بأشكال ومستويات عديدة. إلا أنَّ الحصيلة واحدة، وهي أنَّ عمليات التحديث التي شهدها الوطن العربي، تحت تأثير السيطرة الاستعمارية الأوروبية، لم تحقق نهضة عربية. بل على العكس أدت إلى انفصام ثقافي بين نخبة تتخذ الثقافة الأوروبية المعاصرة مرجعية لها، ونخبة تتمسك بالمرجعية الثقافية العربية الإسلامية. ولم تستطع الدولة المستقلة بوصفها وريثة النموذج التحديثي الأنف الذكر، القضاء على هذا الانفصام، بل على العكس كان ينمو بطريقة لا انسجام فيها بحيث أخذت المكونات العصرية والتقليدية تتعايش بطريقة شبه مستقلة. مما أدى إلى إعادة إنتاج نفس المواقف من قضية النهضة، ولكن بصورة متشنجة ومتعارضة وأكثر خطورة مما كان عليه الأمر في القرن الماضي. في حين تحول هذا التعايش المتنافر، إلى قوة أفرزت تخريباً في ظل زيادة حدة التناقض بينها، وتحولها إلى حلقات مفرغة سواء من ناحية اشتداد الصراع اللاعقلاني بينها.
أما التيار الثاني فقد وضع الأسباب الداخلية في المقام الأول، حيث اعتبرها المسؤول الأول والأخير عما وصل إليه المشروع النهضوي العربي. انطلاقاً من أنَّ العوامل الخارجية ما كان لها أن تظفر ببلوغ مقاصدها، مهما عظمت واشتدت وطأتها لولا وجود أسباب ومقدمات داخل المشروع النهضوي نفسه. لكنه لا ينكر دور العامل الخارجي بهذا الصدد. وذلك لأنَّ أية قراءة لأسباب نكسة المشروع النهضوي العربي لن تكون صحيحة، ولن تستكمل نصاب الموضوعية، ما لم تأخذ بفرضية الدور المؤثر للعامل الخارجي (الاستعماري – الإمبريالي – الصهيوني)، في وأد هذا المشروع، وإلحاق الهزيمة به. كما يؤكد بعض ممثلي هذا التيار، بأنَّ مثل هذا التفسير لا ينتمي إلى عقيدة المؤامرة، وما يفرضه التوسل بها عادة من تعليق إخفاقاتنا على مختلف الأعداء الخارجيين الفعليين أو الوهمين. حيث تكفي الإشارة هنا إلى أنَّ مشروع محمد علي لم يسقط من الداخل. إلا أنَّ التأكيد على أهمية العوامل الخارجية تبقى جزئية وثانوية مقارنة بالأثر الذي لعبته وتلعبه العوامل الداخلية بالنسبة لإخفاق المشروع النهضوي.
وفي مجال تحليل مضمون العوامل الداخلية نعثر على صيغ متنوعة ومختلف بهذا الصدد. فهناك من يعتقد بأنَّ سبب إخفاق المشروع النهضوي القومي العربي يقوم في غياب نظرية في القومية. وذلك لأنَّ أصحاب النهضة العرب لم يقدموا إجابات نظرية متماسكة عن الأسئلة التي ظهرت في سياق تطور المشروع النهضوي نفسه. وفي مقدمتها السؤال المتعلق بالكيان القومي ذاته. فمعظم ما أنتجوه كان محصوراً في مجال النظرية الاجتماعية والثقافية والتاريخ والدراسات المقارنة، ولم يحفلوا كثيرا بالنظرية السياسية على الرغم من أنّها أساس أي مشروع نهضوي قومي. فقد تناول أصحاب النهضة الأوائل نظرية الأمة، لكنهم لم ينتجوا نظرية في الدولة القومية. وانشغلوا طويلاً في التفكير في أسس قيام الأمة ومصادرها، دون أن يقدموا تصوراً متكاملاً عنها. وهنا لا يمكن الاعتداد بدفاعهم عن فكرة الدولة القومية الموحدة لأنَّ الدفاع عن مبدأ لا يعادل – في حساب الأشياء- بناء معرفة نظرية رصينة عنه. لقد أراد المشروع النهضوي دولة وقومية عربية قوية، لكنه لم يوضح موقفه من طبيعة النظام السياسي فيها ومن الديمقراطية، ومن المجتمع المدني، ومن هي القوى القادرة على تحقيقها، وما هي طبيعة العلاقة بين هذه الدولة والمؤسسة الدينية، وما هو الموقف من الثروة القومية. إنَّ هذه الأسئلة وغيرها ظلت غائبة عن المشروع النهضوي القومي العربي.
في حين يتفق البعض مع الموقف العام لأولوية العوامل الداخلية، لكنه يرفض تفسيرها بمقولات ومعايير الرؤية الثقافوية والخصوصية الثقافية. فهو يرى جذر ما يسمى بأزمة العقل العربي وابتعاده عن العقلانية والرؤية العلمية وما شابه ذلك في مقدماتها التاريخية. من هنا بحثه في أولوية الأسباب السياسية والاجتماعية التي لازمت تطور المجتمعات العربية. وبالتالي، فإنَّ كل مكوناتها الجيوسياسية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية والتقنية، أثرت ولا تزال على عقليتها الحالية. فالثقافة هي أحد مظاهر الوجود الاجتماعي، وبالتالي ليست الوحيدة التي تتحكم بنظام الأشياء، وتطور المجتمع. وهي المقدمة المنهجية التي يضعها هذا النوع من تفسير أسباب إخفاق المشروع النهضوي فيما يتعلق بإبراز أهمية وتأثير العوامل الخارجية. ومن ثم أثرها على إنتاج القوى الفاعلة والمؤثرة، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو العالمي. وفي هذا أيضاً تأثيرها على صراع القوى وديناميات نشاطها، وبالتالي على ظروف تكونها ضمن منظومة العلاقات الاجتماعية، بما في ذلك ثقافتها الخاصة، ومنظومات قيمها، وأسس إنتاجها المادي، والشروط التاريخية والجيوسياسية التي توجد فيها، والتحديات التي تواجهها. ولعل انتهاء الفكرة القومية بالسقوط في أيدي المؤسسة العسكرية، هي الذروة التي تنعكس فيها تاريخية إجهاض المشروع النهضوي العربي من خلال تحطيم مكونات وبراعم المجتمع المدني والفكرة القومية.
غير أن هذا الاختلاف بين التيارين العامين هو خلاف منهجي محكوم ببواعث البحث عن أولوية الأسباب. وهو خلاف كبير ومهم ليس من الناحية النظرية فحسب، بل والعملية أيضاً. لأنه يترتب على كل منهما رؤية لأولوية البدائل. وهو خلاف في الرؤية مازال يحكم أغلب المواقف المتعلقة بمشروع إعادة تفعيل فكرة النهضة من خلال راهنية فكرة الإصلاح والمشاريع الإصلاحية.
مما سبق نستطيع التوصل إلى جملة من الاستنتاجات العامة وهي، أنَّ حصيلة دراسة أسباب ومقدمات ظهور النهضة العربية الحديثة وإشكالاتها، تشير إلى أنَّ مفهوم النهضة قد تعرض إلى تأويل متنوع من مختلف الاتجاهات، لكنه كان يرمي عموماً إلى محاكاة التجربة الأوروبية من خلال التأكيد على مفاهيم مثل الرقي والتمدن والحرية والديمقراطية. وهي محاكاة كانت تعكس طبيعة الإشكاليات الملازمة آنذاك للنهضة العربية. وهي إشكاليات متنوعة المستويات. لعل أكثرها أهمية وحساسية بالنسبة لتاريخ الفكرة الإصلاحية، هو ما يتعلق بأبعادها الفكرية والثقافية والسياسية. فالنهضة كانت تعني في آنٍ واحد استنهاض للنفس من السبات الطويل في ظل السيطرة العثمانية، ولكن بمعايير ومرجعيات الثقافة الأوروبية. وهي عملية متناقضة، لكنها كانت في بداية الأمر تفضي باتجاه تعميق وتكثيف الرؤية الإصلاحية. فإنجازات الثقافة الأوروبية في مختلف الميادين التي تأثر بها رجال النهضة العربية، كانت تشكل من حيث الشكل والمضمون رداًُ ونفياً عقلانياً على حالة الانحطاط التي كانت تميز العالم العربي آنذاك. من هنا تراكم المعرفة الايجابية فيما يتعلق بالإصلاح في فكر النهضة، لاسيما وأنّها كانت تتصادم مع الواقع المزري وتخلف العلاقات الاجتماعية والثقافية. وهو أمر جلي على مثال مساهمات مفكري عصر النهضة في إيجاد القرائن والتشابه مع إنجازات الفكر العربي القديم. وهي مساهمات كانت تساهم في توفير الحد الأدنى والضروري لجعل قيم الحداثة الأوروبية مقبولة ومعقولة بالنسبة للوعي الاجتماعي العربي العام. وفي هذا دون شك تكمن المأثرة التاريخية الكبرى لتيارات عصر النهضة، وأثرها في تعميق الفكرة الإصلاحية الحديثة.
إلا أنّها، شأن كل مرحلة تأسيسية كبرى، لم يكن بإمكانها التجسد في نظام اجتماعي سياسي واضح المعالم. بمعنى أنَّ الإنجازات الفكرية كانت بحاجة إلى مرحلة مخاض، وتجارب عملية لكي تتضح معالمها الدقيقة، ومعقوليتها بالنسبة للوعي الاجتماعي السياسي. وبغض النظر عن عجز حركة النهضة العربية في تحقيق أحلامها ومشاريعها الخاصة، إلا أنّها استطاعت ترسيخ جملة من المفاهيم والقيم مثل الحرية والتقدم والتطور والتسامح، والانفتاح والاهتمام بالعلم والعدالة، والأصالة الثقافية، ومن ثم المساهمة في تأسيس القيم والمفاهيم الضرورية بالنسبة للبدائل المقترحة لتطور الدولة والمجتمع. وفي هذا تكمن أهمية مرحلة عصر النهضة وتياراتها بالنسبة للفكر المعاصر، رغم بقاء أغلب ما عانته في مجال النظرية والتطبيق جزءاً من إشكاليات وجودنا النظري والسياسي الحالي. وهو الأمر الذي يضع الحركات الإصلاحية المعاصرة أمام امتحان تاريخي جديد كما يعطي لها فرصة إضافية لتحقيق أهدافها، فيما لو عملت على الاستفادة النقدية من أطروحات وأفكار تلك المرحلة، التي لم يفقد الكثير منها قيمته النظرية والعملية حتى الآن.
يتبع.......................................








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موسكو تنفي اتهامات واشنطن باستخدام الجيش الروسي للكيماوي في 


.. واشنطن تقول إن إسرائيل قدمت تنازلات بشأن صفقة التبادل ونتنيا




.. مطالبات بسحب الثقة من رئيسة جامعة كولومبيا الأمريكية نعمت شف


.. فيضانات عارمة اجتاحت جنوب البرازيل تسببت بمقتل 30 شخصاً وفقد




.. بايدن أمام خيارات صعبة في التعامل مع احتجاجات الجامعات