الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وجوه عصية على النسيان! المراثي مطهراً لألم الغياب

إبراهيم اليوسف

2020 / 6 / 13
الادب والفن


وجوه عصية على النسيان!
المراثي مطهراً لألم الغياب




إبراهيم اليوسف


ثمة أشخاص لاأستطيع الكتابة عنهم، ما إن أتلقى نبأ رحيلهم، بل أحتاج إلى فترة زمنية تطول أو تقصر، وذلك لدواع كثيرة، أولها مدى حضورهم الروحي في عالمي، بل مدى ارتباطي بهم، بالرغم من زعمي بأني من أكثرالذين يعنون بسؤال الموت، و أفقد اتزاني وأنا أتتبع أثر خطواته في عالمنا. هؤلاء الأشخاص الذين أثر فيَّ غيابهم هم مقربون: أهل. أصدقاء. كتاب، جيران. أو عابرون، التقيتهم، أوقرأت عنهم، أوشاهدتهم في التلفاز، فاستوقفتني ميتاتهم التراجيدية، على مختلف تصنيفاتهم، ما يجعلني أواجه فعل الغياب الأليم بالكتابة عنهم، عسى أن أستطيع موازنة معادلتي الروحية، بعض الاتزان، في أقل تقدير، وأنا لما أزل تحت صدمة النبأ الأليم. ولعل من بين هؤلاء من طلب مني أمراً ما، وما استطعت تحقيقه، لأراهم يرحلون بعد أيام، أو أسابيع، كما حالي إزاء غياب مناضل سياسي، وشاعر، رحل كل منهما في منفاه، و لم أستطع إيفاءهما ودهما لي، في لحظة حاجتهما، بالرغم من وقوفي إلى جانبهما: روحياً ومعنوياً، ولربما غيرذلك، أيضاً
ثمة آخرون من المقربين الذين ما إن أسمع برحيلهم حتى أشعر في داخلي بألم كبير، لأنني لم أتواصل معهم في أواخر أيامهم، لهذا السبب أو لذاك، وغالباً مايكون السبب الضغط اليومي الكبير الذي يعانيه المغترب عن أهله، وتراب مكانه، ويحضرني هنا أكثرمن قريب أو مقرب، ومن بينهم العم محمد نوري ملاحسين شيخ سعيد. ابن عم أبي"1939-2019، أحد هؤلاء الذين ما إن كنت أراه وأسمعه حتى أستعيد صورة- بحار العاطفة المتلاطمة- التي شهدتها في طفولتي، وبدايات فتوتي متمثلة في وجوه وأرواح أقرباء لي، عرفوا بحنانهم، سواء أكان هؤلاء فوق الخط، أم تحت الخط" في هذا الجزء من كردستان أو في الآخر، وأسماؤهم تحتاج إلى مسرد، لأنهم يذكرونني بمن هبطوا من عالم آخر، ليس بتقواهم، وارتباطهم بقيم العائلة، وإنما بدفء، بل بحرارة حنينهم، وشوقهم، ولهفتهم، التي كنت ألمسها، وكنت أراها جد شديدة علي، إلى حد الهروب منها، والانشداد إليها، في آن؟ كيف ذلك؟ لا أدري!.
محمد نوري أبو لقمان وهواسم ابنه الثاني ترتيباً، وهو في الحقيقة أبو آزاد، المحامي، والحقوقي، والسياسي والقيادي الكردي كان أول من واصل تعليمه في العائلة – إلى جانب عمنا محمد نذير ملاصالح شيخ سعيد- وكانت ميزة أبي لقمان هي أنه درس علوم الفقه في- تل معروف- لدى آل الخزنوي، ودرسه أعمامه: أبي- عمي عبدالقادر- الملا عبدالله قرطميني وآخرون، فاستطاع أن يتقدم إلى امتحان السرتفيكا ومن ثم الإعدادية والثانوية ويدرس التاريخ، بشكل حر، وليصل إلى السنة الرابعة في الجامعة وهو يحلم بكتابة التاريخ. التاريخ الكردي. ومن بينه تاريخ العائلة، على ضوء ما لدى أبيه. العائلة من شجرة محافظ عليها، إلا إن فجيعته بزوجته الأولى، وأطفاله زغب الحواصل بعد، اضطره لترك الجامعة، والعمل في مؤسسة بريد قامشلي حوالي ثلاثين سنة، وليكون أحد خبراء مؤسسة الاتصالات، توفده الوزارة إلى المحافظات السورية، ليبزَّ المهندسين، ويكون معلمهم، ويطور بعض أجهزة الاتصال، من دون أن يجلس على مقاعد المدرسة، أو المعهد، أو الجامعة يوماً، بل لطالما واصل دراسته بشكل حرٍّ إلى جانب دراسته الشريعة في معهد الخزنوي!

كما إنه بدأ بفتح محله الصغير لتصليح الأدوات الإلكترونية: الراديوات، ومن ثم المسجلات، و التلفزيونات، وسواها من الهواتف التقليدية، ثم الذكية، والذكية جداً، ومابعد الذكية، يؤمن بذلك رافداً اقتصادياً إضافياً إلى جانب راتبه الضئيل الذي كان يتناهب بين مصاريف البيت، وأطفال زوجتيه: الراحلة والجديدة التي رحلت، وهو على في مرحلة الحاجة إليها، بل ومصاريف معاهدهم وجامعاتهم، وهوالأكثر كرماً في الحياة الاجتماعية، كما كان يعرف بذلك.
فاجأني ذات مرة العم أبو لقمان، بأن تواصل بي عبر الفيس بوك، فإذ به قد أسس صفحة خاصة به، تكون نافذته للاتصال بأبنائه وبناته الذين توزعوا بين منفى الوطن ومنافي الغربة المضاعفة، لأسمع صوته، و نتبادل أرقام الهواتف، ويواظب على الاتصال بي بلهجته المثقلة بكهرباء العاطفة العالية التي تفوق طاقة التحمل لدي، لأكون متلقي مكالماته. اتصالاته. كما الابن الذي يمارس دلاله على أبيه، بالرغم من مرضه. شيخوخة صوته المتدفق ذي التوترالعالي، وهو الرجل الذي يعيش حالة إيمانية صوفية متفردة، إلى جانب عقله العصري، ليكون بذلك رجل دين ودنيا!
عندما عملت في المسرح- في بداية السبعينيات وكان عمري ثلاث عشرة سنة- وكان هو والعم سيد محمد نذير من وجوه العائلة من جهة الثقافة الدنيوية، كما يقال، ورحت أكتب بعض المقالات الاجتماعية عن الاختلاط، أحد الأخوان المسلمين أخرج مقالاً من جيبه بعد صلاة أبي في المسجد، وقال له:
انظر، ابنك، يكتب، مدافعاً عن الاختلاط بين الرجال والنساء!
.جاءني أبي، وهو جد منفعل، ليسألني عن ذلك، وليجدد إعلانه عن تحرجه من مشاركتي في عالم المسرح" التياترو"- ولم يكن أمامي من وسيلة إلا أن أشارك عبر وسائل المسرح والنشرالمتاحة آنذاك- فحاول الضغط علي، ليسمع بذلك: العمان، ويتدخلا، وأواصل الكتابة، وليفتخر بي أبي قائلاً: يسعدني في ما يكتب أنه يدافع عن المظلومين وهوما كنت أفعله حقاً لمن تابع ماكتبت في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وكان ذلك على حساب كل شيء:
لقمة الأسرة- الوظيفة- الكتابة الإبداعية، إذ كنت بعيد كل مقال نقدي أواجه عاصفة من المضايقات

العم محمد نوري، باعتباره كان يعمل في مؤسسة الهاتف، لتصليح أعطال الجهاز القديم، فقد كنت أحتاجه باستمرار ، بسبب كثرة أعطال الهاتف، بل بسبب عدم تمكني من سداد فواتيرالهاتف الذي حصلت عليه مبكراً في العام1981، مع أول دفعة ممن حصلوا الهاتف بسبب تسجيلي المبكر لطلب الاشتراك الهاتفي- وكان ذلك حلماً- ومساعدته لي، فقد كان يحلُّ مشاكلي الهاتفية المتواصلة- من جهة أعطالها المتكررة قبل أن أجد ذلك العامل مستعطي الإكراميات الذي كان يحل أكبرمشكل في مجاله- وكنت دائم التواصل معه، لاسيما في مايتعلق بشؤون واجباتنا الاجتماعية التي كنت أتابعها زعه وأقرباء آخرين.
صباحاً، عندما كنت أخرج إلى العمل في هذه المدرسة أو تلك، وأراه قادماً من حي قدوربك إلى مبنى البريد الذي يقع في أول حدود الحي الذي أسكنه: الغربي. ينزل من دراجته الهوائية، أو النارية، بسأل عن أحوالي. أهلي. عمه. عمته، ليكمل طريقه إلى العمل، ولربما ليفاجئني في آخرالدوام، أو ليلاً بزيارتنا، لاسيما حين يكون أبي أو بعض الأهلين في البيت!
وبالرغم من موقفه القومي، إلى جانب شعبه، فإنه كان منفتحاً على الآخرين: فقد كان أصدقاؤه من مختلف الطيف الجزري، وملله، ونحله، ولعل أرمنياً أو سريانياً أو آشورياً كردياً أو عربياً كانوا من عداد صفوة المتواصلين به، كما أصحاب الموقف القومي، وأتذكر أنه لطالما كان يناقشني في قضايا الماركسية، من موقف الرافض، ويحدثني عن بعض أمات الكتب التي قرأها:
لقد قرأتها لأختلف معها لأني لم ولا ولن أؤمن بها
ومع كل هذا فقد كان يتقبل رؤاي، ولا يعاملني من خلال موقفه كمؤمن وقومي، منفتح على الآخر، وإنساني!
أبولقمان الذي تأخرت بالكتابة عنه، بهذه التفاصيل، بعد مرور سنة أرثي فيه نبله، إنسانيته، صدقه، استقامته، نظافة يده وهوالذي عمل في مؤسسة موبوءة فكان مثلاً في عمله إلى جانب قلة من الشرفاء الذين عملوا باستقامة، وتفاصيل مواجهته عواصف وأعاصير الحياة، وتقشفه، ومكابداته من أجل أبنائه وبناته وشرف اسمه بعض المناقب التي تهيئه ليكون أنموذج الإنسان المكافح، المناضل المحب لقوميته، وإنسانه.
وأنا أكتب، اليوم، عن العم أبي لقمان الذي كان من مشجعي الأوائل على الكتابة الحرة، وممن كانوا يفتخرون بي، كلما قرؤوا لي- وقد كان دائم القراءة وله مكتبة بيتية متنوعة" مقالك في جريدة خبات أو مجلة متين أو مجلة كولان أعجبني أو كان عليك قول كذا" فقد كانت ملاحظاته جد دقيقة، ورؤاه جد عميقة، صاحب عقل منفتح، عصري، بل علماني- بمعنى الإيمان بالعلم ومن دون إنكارالخالق- غيرمتشدد، وفي صورة متزنة، وهو ما يتوافر في قلة، من الرجالات!
أجل، ها أنا أسدد بعض دين هذا الرجل الاستثنائي في ذمتي، بينما أجدني لما أزل غيرقادر بعد الكتابة عن أقرب اثنين إلي: أبي وأمي، بالرغم من بعض الشذرات التي كتبتها عنهما، هنا وهناك، في بعض أعمالي، وسيرتي، لأن الكتابة عنهما، وعن أشخاص من أمثال أبي لقمان إنما يصلح ليكون نواة عمل سردي طويل، شريطة أن أجد مالما أجده بعد. أن أجد ضالتي: الاستقرارالروحي. استقرار الروح المتأججة، ومقدرة رفع جدار العزلة الكتابية في مواجهة المحيط. العزلة التي لاأجرؤ على توفيرمناخاتها، لأني امرؤ خلق كي يتواصل مع الآخرين: واقعاً وروحاً، في آن واحد!

*
أنشر المقال في إطار أكثرمن رسالة: عامة وخاصة
**
لطالما كنت أطلب منه كتابة مذكراته كما كنت أفعل مع عميَّ العالم عبدالقادر شيخ إبراهيم ومحمد نذير ملاصالح
***
أردد دائماً:
ليتنا ندفع كبارالسن من أهلنا إلى كتابة مذكراتهم وهم في أوج صفائهم الذهني، وألا ليتنا نكتب عما يتبقى لنا من ذكريات وملامح بعض من هم قريبون أو مقربون منا، لاسيما في ظل غياب- معاجم العامة- أوحتى معاجم- الأعلام- في مجتمعنا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق