الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة3

محمود شقير

2020 / 6 / 15
الادب والفن


جاء الناس للسلام علي.
جاء رجال العشيرة، وجاءت نساؤها. بالعباءات المقصبة وبالأزياء العصرية جاءوا. بأثواب الحبر السوداء، وبالفساتين المجلوبة من أسواق المدينة جئن. وفي صدر البيت تستقر صورة جدي الذي كان شيخ العشيرة. أحدق في الوجوه المتعبة، وأتساءل بيني وبين نفسي: هل فعلاً غيرت الانتفاضة سلوك الناس؟ هل طرأ تحول فعلي على عشيرتنا، بعد أن أصبحت قرية عرب السواحرة جزءاً من القدس؟
لا أستعجل البحث عن أجوبة، رغم إدراكي أن مجتمعاً يرزح تحت الاحتلال لا يمكنه التخلص بسهولة من التخلف والجمود.
جاء ثائر البرغوثي، أحد مغني الانتفاضة ومعه فرقته الموسيقية.
غنى ابتهاجاً بعودتي. ورقص على أنغام فرقته عشرات الشباب، رقصاً لم تألفه من قبل، القرية التي عبرت فيما مضى عن فرحتها، بالسحجة والدبكة وأنغام الشبابة والناي (إذن، ثمة تغير هنا!). وجاء مراسلو الصحف، فالتقطوا لي صوراً مع العائلة، وأجروا معي حوارات، حول مشاعري وأنا أعود للوطن. بعض الصحافيين الراغبين في الخروج عن المألوف، حولوا أمر العودة إلى ما يشبه الفيلم الميلودرامي بنوعية الأسئلة التي طرحوها، والصور التي رغبوا في التقاطها لي وللأهل، لنشرها في صحفهم.
وما زال بيت العائلة الذي عشت فيه طفولتي وشطراً من شبابي يصارع الزمن. ورغم حيطانه الكالحة، وهيئته المتطامنة، فإن الزخرفات التي رسمها داخله، ذلك الدهّان الذي أحضره أبي لهذه الغاية قبل عشرات السنين، ظلت محتفظة ببعض بهائها. كان الدهّان أسود البشرة، محباً للمسرات. وقد أخبرني أبي بعد ذلك بسنوات، أنه كان يأخذ منه النقود، لقاء عمله في بيتنا الذي استمر وقتاً غير قليل، فيذهب إلى خمارة في القدس، يشرب فيها العرق حتى درجة السكر، ثم يعود لمواصلة العمل من جديد ببطء وإتقان. أحضر لي الدهّان من المدينة قلم رصاص، فلم أترك حائطاً في البيت إلا حاولت الخربشة عليه، حتى بادرت أمي إلى نزع القلم من يدي، فلم تكتمل فرحتي.
أما غرفة أختي أمينة، فقد ظهر صدع خطير في حائطها الشرقي.
بناها أبي لها عام 1964 كي تسكن فيها بعد زواجها من أحد أبناء العشيرة، وهو زواج دفعناها إليه دفعاً، دون أن نترك لها فرصة للتعبير عن رأيها فيه، فلم تنبس ببنت شفة احتراماً لنا. ماتت بعد زواجها بعام واحد، فاستخدمتُ الغرفة للاجتماعات الحزبية، ولاستضافة بعض الأصدقاء فيها، حتى أصبح اسمها "الصومعة". ثم قمنا بهدمها بعد عودتي إلى الوطن، كي لا تسقط على رؤوسنا في غفلة من ليل أو نهار. كان مشهدها وهي تتهاوى أمام الضربات، مثيراً للأسى. أمينة لم تسكن في هذه الغرفة يوماً واحداً، لأن زوجها أخذها معه إلى مدينة الزرقاء.
كنت متعباً جرّاء رحلة العودة، وها أنذا أنام ليلتي الأولى في البلاد.
ثمة نسمات هواء عذبة رخية تتسلل إلي من النافذة، وثمة هدوء لا يعكره سوى نباح الكلاب المتقطع المنبعث من أمكنة متعددة (تتجاور أنماط معيشة بدوية وفلاحية ومدنية في هذا الحي، ما يجعل للحيرة والالتباس فرصة للظهور في بعض سلوكيات الناس). نمت نوماً عميقاً، وفي الصباح المبكر، استيقظت على صياح الديكة، ونهيق حمار يقتنيه الجيران. كان نهيقاً له حضوره المدوي، ولم يخفف من وطأته سوى التغريد الرشيق لعصافير الدوري التي تتقافز على أغصان الأشجار المحيطة بالبيت. كانت جوقة الأصوات تشتبك معاً معلنة عن مكان أليف أعرفه. استمتعت بذلك، وأنا أستعرض في ذهني شريطاً طويلاً من الذكريات، ثم غرقت مرة أخرى في بحر النوم.
بعد أسبوع، جاءت دورية عسكرية. طلب الضابط الإسرائيلي منا إنزال العلم الفلسطيني الذي كان يرفرف على سطح البيت، احتفاء بعودتي. تولى أبي مهمة التفاوض مع الضابط، محاولاً التصرف بمرونة معه، لأنه لم ينس بعد تنكيل جنود الاحتلال بشباب الانتفاضة في هذا الحي وفي غيره من الأحياء. وعده بإنزال العلم بعد انصرافه، فانصرف.
وبالفعل، تم إنزال العلم.
يتبع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-