الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جبل الحياة أو أنشودة الصدى

مصطفى الفاز

2020 / 6 / 15
الادب والفن


قصة قصيرة
..وكانت تحس أن اليوم ليس كباقي الأيام ، فيه شيء مختلف ، شيء لا تستطيع تحديده بدقة ، ربما هواجس وآثار جروح غائرة في جب الذكريات تمزق كيانها،صرخات صامتة ترقص بداخلها، لم تستسلم يوما لهمهمات الماضي الأليم أو إنها تبدو كذلك وهي تكابر وتعاند وتتحايل أحيانا على أمل أن تعيد بسمة الشروق لحياتها من جديد.
نظراتها ثاقبة ، واثقة، لكنها حزينة يشع وميضها الوارف خلف نافذة الحافلة يشعرك أنها لا ترى أو لا تراك، سيل قحاف من المعاني والأسئلة والأماني والرجاء تحسه متفجرا من ينبوع الحدقة مخترقا كل الحواجز.
ما أجمل نسيم الصباح الباكر ونفحات الهواء البحري المتسلل عبر المحيط بمدينة آكدير وممارسة رياضة المشي على طول الكورنيش، هكذا ترنو الكبيرة إلى اقتحام علبة ذكرياتها فقط القريبة مذ سكنتها هذه المدينة.
لأول مرة تتعجل السفر ، انطلقت حافلتها صوب مسقط رأسها ,فيلاج إيغود ، طويلة ومتعبة ومملة هذه المسافة اللعينة التي تجترها الحافلة كما تجترها الكبيرة في منامها كل ليلة، ثلاث ساعات كيف ستنقضي؟ ومتى؟ ليتها حذفت من عمر الزمن. لم تكن الكبيرة ترغب في السفر كانت تبعت في طلب والدتها السيدة فضمة كلما اشتاقت إلى حنانها ، لكن هده المرة الأمر مختلف ، رغم التزاماتها كأستاذة جامعية لبت دعوة أمها ، ربما عثروا على والدها الذي تبحث عنه حتى إنها لا تعرف ملامحه إلا من خلال بعض الصور.
الكبيرة الفتاة الهادئة الطموحة لم تتوقف لحظة عن البحث والسؤال لمعرفة حقيقة اختفاء والدها السيد البشير ، يتملكها إحساس خجول أنها ستجده في مكان ما بالفيلاج.
أمضت ما تبقى من ليلة أمس في جمع حقيبتها الصغيرة وحرصت على وضع مستلزمات الرحلة ترتبها ثم تعيد الترتيب بعناية كلما شعرت بتعنت الزمن ، فرشاة أسنان وكتاب وخصوصا البوم الصور، كل شيء يحتل مكانا في جوف الحقيبة حتى يتلاشى الفراغ، يكفي أنها عاشت حياتها تنتظر .. قاتلة دهاليز الانتظار، موحشة وكئيبة.
عينان نافدتان ناقدتان ناطقتان تقاومان الانتظار مرة وهما يصوبان سهام السؤال والقلق عبر نافذة الحافلة ومرة ينبلج منهما نور فياض يكتسح شاشة هاتفي وأنا اقرأ رسائلها الالكترونية.
الحياة قصيرة فعلا لكن قصرها تلفه عباءة الانتظار فتجعلها طويلة , هذا ما تعتقد الكبيرة وهي تتأمل هذا الطريق الأشمط ذو الاتجاه الوحيد ، ينتهي إلى ما قبل التاريخ ، منطقة تنتمي إلى العصور الحجرية ، لم نكن في الطفولة نمل اللعب فوق روابيها ونقطف من أزهار جنيناتها ، وعندما يزحف المغيب يأخذنا نسيم الهواء الرطب إلى نبع العين الولادة مياها سائغة ، تنساب عبر مجاري بهلوانية نحاكي تموجاتها جريا وقفزا حتى نبلغ المنبع لنرتوي ونعبئ قواريرنا ,وعندما نتطلع إلى الأفق محاولين توسيع دائرة استحواذنا على أريج الفضاء ، يصطدم فضولنا الطفو لي بكومة صخرية هائلة ,جبل هلالي قابض بذراعين مفتولتين محتضنا المكان ، بسرعة تمتد ظلال المغيب ، يغزو شحوبها السفوح فتزيد المروج هدوءا ، وبسرعة أيضا يمتطي صهوة الهلال قرص أحمر يطلق سهامه المضيئة مخترقة شقوق البيوت الطينية والنوافذ والأبواب الشبه مغلقة معلنة نهاية السكينة.
ولا تزال الحافلة تمتح تربة ألحمري المتناثرة على الطريق ,اهتزازها وتمايلها يحدثان ضجيجا يوقظ هجع الأفكار ، ضجيج يذكر الكبيرة باستيقاظ الجبل وفتح ذراعيه ليوزع نعم الحياة على شعبه, أفواج العمال من مختلف الأعمار تصعد الأذرع ثم تختفي فجأة ،فاذا بدوي رهيب يقع ، تتراقص السنة الدخان عبر فوهات المغارات المنتشرة وسط الصخور الضخمة ، هنا كان يعمل السيد البشير ردحا من الزمن إنه المكان الوحيد للعمل والاستمرار في الحياة ولكنه كومة تراب تأخذ كما تعطي ، لابد من القرابين حتى تستمر الحركة.
لم يستحمل السيد البشير العيش تحت رحمة هذا الجبروت ، كان عشقه للسيدة فضمة عميقا ودافئا لن تقوى على فقدانه ، لكنها سمحت له بالمغادرة مهاجرا إلى مدينة الدار البيضاء ، هناك أدرك أن الدخان والمغارات والدهاليز والأذرع ممتدة ومنتشرة في كل مكان ،وترسخ يقينه عندما عاد إلى قريته شبه عاجز بسبب ضربات تلقاها على الرأس يوم 20 حزيران سنة 1981.
احتضنته أرضه الصغيرة سقاها عرقا وكدا حتى صودرت منه ثمنا لنشاطه وتحريضه العمالي. قاوم لكمات الجبل إلى أن اختفى نهائيا قبل ولادة الكبيرة بشهر واحد .
الجبل يكره المارقين ، يغرس أنيابه في الأجسام النحيفة ويمزق أوصال من تجرأ على التمرد . انتقامه ابدي إنه اله المكان والزمان ، رددت صداه مستحاثات المعادن المستخرجة من باطنه . "بنت الحرام الكبيرة .. الكبيرة بنت الحرام " صار الصدى نشيدا للقرية وكابوسا مزعجا يقض مضجع الفتاة التي أضحت بلا هوية وبدون وطن، طاردها في الأحلام وفي اليقظة واغتصب أنوثتها.
هدير الجبل وصداه يسمع في كل مكان ،بطنه حبلى بالآهات والأنين ،ونظرات الكبيرة لم تبرح عدسة النافذة. مرايا التأمل تلهمها القوة والهدوء والحافلة تمخر زبد الأفق ،سجاد من العمائم البيضاء يستقبل الحافلة ،إنه يوم الثلاثاء ،تتصارع وتتمازج الهمسات والأصوات والهدير ،تدور في عقل الكبيرة كما يدور السنجاب في العجلة "الكبيرة بنت الحرام..الكبيرة..ثلاث ايغود..ثلاث ايغود" سوق أسبوعي يعج بالحجيج ،من كل البقاع قدموا حتى رجال الدرك والقوات المساعدة والمنفذة و الاحتياطية وأساتذة وعلماء وخبراء جاؤوا لاستقبال مولود الجبل ، بقايا هياكل عظمية وجمجمة لأقدم انسان ،ليست لأحد العمال أواحد أفراد المقاومة إنها الأقدم على الإطلاق ،إنها لوالدنا جميعا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى