الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا ننادي بعلمانية الدولة

عبدالله المدني

2006 / 7 / 1
ملف - 1 تموز 2006 - العلاقة المتبادلة بين العلمانية والدولة والدين والمجتمع


علمانية الدولة ببساطة شديدة هي أن تقف الدولة موقف الحياد من العقائد و المذاهب التي تدين بها مكونات شعبها، بمعنى ألا تكون في قراراتها و سياساتها و خططها و تعييناتها – بما في ذلك مناهجها التعليمية وسياساتها الإعلامية و الثقافية - منطلقة من مذهب أو عقيدة أو مرجعية دينية معينة و إن كانت عقيدة و مرجعية الأغلبية، لما في ذلك من تهميش لعقائد الآخرين و تمييز ضدهم و إخلال بمباديء المساواة و العدالة و المواطنة.

ومن هنا حرصت البلاد التي انتهجت الديمقراطية الليبرالية الحقة و أقامت الدولة المدنية الحديثة على عدم تضمين دساتيرها ما يفيد بديانة الدولة. و لا يعنى هذا البتة التقليل من شأن الدين و مكانته السامية في النفوس و دوره المؤثر في المجتمع، بل على العكس من ذلك. فالدولة العلمانية بعدم إقحامها الدين الذي هو حزمة من القواعد المقدسة و الأحكام الربانية الثابتة في الشأن السياسي اليومي المتحول أو في اللعبة السياسية المتذبذبة يسارا و يمينا، إنما تحفظ للدين هيبته ومنزلته و تنزهه من السقوط في وحول السياسة التي تتغير قواعدها و آلياتها بتغير الأهواء و الظروف و الشخوص و المصالح.

و خلافا لما هو شائع في البلاد العربية و بعض البلاد الإسلامية، و لاسيما في أوساط البسطاء و الدهماء، فان العلمانية لا تهدد الدين و لا تحاربه ولا تسعى إلى سلخه من أفئدة الناس، بدليل أن المجتمعات التي طبقت علمانية الدولة لا تزال شعوبها كما كانت دوما مؤمنة بعقائدها و ممارسة لطقوسها الدينية بحرية و ماضية في بناء دور عبادتها دون قيود، هذا إن لم تكن درجة النزعة الإيمانية قد زادت بفضل ما هو متاح من حريات دينية أمام أتباع مختلف المذاهب و الطوائف.

أما سبب شيوع الفهم الخاطيء للعلمانية في مجتمعاتنا، فتسأل عنه حركات الإسلام السياسي التي دأبت على تشويه هذا المفهوم مثلما شوهت الكثير من المفاهيم العصرية و الحضارية الأخرى، فجعلتها في أعين البسطاء مرادفة للكفر و الإلحاد و الإفساد و الانحلال و التغريب، و ربطتها بالمؤمرات الاجنبية على الإسلام و المسلمين، دون إبراز أي دليل عملي على ما تقول. و هي في كل هذا لا تنطلق من غيرة حقيقية على الدين و ما في الدين من تبشير بالمساواة و العدالة و التسامح و الإخاء و السلام، بقدر ما تنطلق من رغبتها الجامحة في الهيمنة على المجتمع و إقصاء المختلفين معها، بل من خوفها على تراجع مكانة رموزها و مصالحهم إن طبقت علمانية الدولة.

إن إقامة الدولة المدنية العلمانية وفق الصورة المنوه عنها، باتت ضرورة لإخراج مجتمعاتنا المتخلفة من شرنقة الجدل و حالة اللاحسم حول الكثير من القضايا الصغيرة و الكبيرة التي لا تزال تراوح مكانها بسبب إقحام الدين فيها و بالتالي الاختلاف المرير حولها، فيما المجتمعات الأخرى حسمت خيارها و تجاوزت الجدل العقيم و انصرفت بكل قواها نحو البناء و التنمية و الإبداع.

وعلينا أن نتذكر أن الغرب لم يحقق نهضته الراهنة و لم يصل إلى ما وصل إليه من إنجازات في شتى المجالات الإدارية و الحقوقية و التربوية و العلمية و الصناعية و الاقتصادية إلا حينما تحرر من سطوة مؤسسة الكنيسة و تفسيراتها المتشددة و دورها البطريركي الرهيب – و ليس من الدين نفسه – و أقام الدولة المدنية العلمانية. و لو انه ارتضى بما كان يجرى من قمع لحرية التفكير و حجر على العقول و تدخل في كل قرار دنيوي على يد أرباب المؤسسة الدينية و تفسيراتهم، لكان حاله اليوم مزريا.

لكن لماذا نتحدث عن المجتمعات الغربية ذات الظروف و الخصائص التاريخية المختلفة، و أمامنا مجتمعات شرقية عالمثالثية استطاعت بفضل نهجها العلماني تحديدا أن تحقق ما لم تحقق مجتمعاتنا العربية حتى عشره. لنفكر فقط في شبه القارة الهندية التي انقسمت في عام 1947 إلى كيانين احدهما ديني ممثلا في باكستان و الآخر علماني ممثلا في الهند، و لنسأل أنفسنا أين تقف الأولى اليوم و أين تقف الثانية؟

إن الكثيرين عند حديثهم عن الهند و ما حققته من استقرار و نهضة و قوة في سائر المجالات يشيرون إلى نظامها الديمقراطي الليبرالي فقط، و ينسون أن هذه الديمقراطية ما كانت لتترسخ و تقي البلاد شرور التشرذم و الانقسام و الانقلابات العسكرية و الحركات الانفصالية المنطلقة من منطلقات دينية أو عرقية أو ثقافية، لولا وجود دعامتين يسندانها هما: العلمانية و الفدرالية. وإذا كانت الفيدرالية ضمنت للولايات الهندية أن تدير شئونها بنفسها و بالتالي تشبع طموحات سكانها المتباينة اقتصاديا و اجتماعيا و ثقافيا، فان العلمانية كانت ضرورة للتعامل مع مختلف الأديان و المذاهب التي يدين بها الهنود على قدم المساواة و بالتالي التعامل مع كافة أتباعها كمواطنين لهم نفس الحقوق و عليهم نفس الواجبات، بما في ذلك حقهم في شغل مناصب الدولة الكبرى.

إنها العلمانية وحدها التي اتاحت في الهند لابن صياد فقير (الدكتور زين العابدين عبدالكلام) من الأقلية المسلمة التي لا تشكل سوى 15 بالمئة من إجمالي السكان أن يصل إلى منصب رئاسة الدولة، و اتاحت لرجل من الأقلية السيخية (الدكتور مانموهان سينغ) التي لا يتجاوز عدد أتباعها نسبة 3 بالمئة من السكان أن يتبوأ منصب رئاسة الحكومة المحوري، و اتاحت لسيدة كاثوليكية من أصول إيطالية و لم يمض على حصولها على جنسية البلاد سوى عقدين و نيف من الزمن مثل سونيا غاندي أن تحتل موقع رئاسة الحزب الحاكم أي حزب المؤتمر التاريخي الذي تحقق على يديه استقلال الهند، فيما الأقليات في دولنا العربية اللاعلمانية تجاهد من اجل الحصول على حقيبة وزارية ثانوية يتيمة دون جدوى. و باختصار اتاحت هذه العلمانية لثلاث شخصيات من الأقليات أن تقرر مصير امة غالبيتها الساحقة من الهندوس، دون أن يصدر من هؤلاء اعتراض أو تذمر أو عصيان.

ثم لنسأل لماذا لا نجد هنديا مسلما واحدا على قائمة الإرهابيين الذين زرعوا العالم رعبا و قتلا و تفجيرا في السنوات الأخيرة رغم وجود أكثر من 150 مليون مسلم في الهند و رغم انتشار المدارس و الجمعيات الإسلامية فيها، فيما القائمة ذاتها تحتوي على مسلمين من مختلف الأقطار العربية و الإسلامية دون استثناء؟ الإجابة تكمن في علمانية الدولة الهندية وحدها، و ما وفرته من احترام لكل الأديان و مساواة في التعامل مع رموزها وحريات كاملة لأتباعها في الكتابة و التعبير و العمل و التنافس و التقاضي و الإبداع و تولي المسئوليات العامة.

ومرة أخرى إن علمانية الدولة و ما يتفرع عنها من حقوق المواطنة الأصيلة و بالتالي السؤال حصريا عن ولاء المواطن لبلاده و كفاءته – لا دينه و مذهبه - حين التعيين في الوظائف الرسمية،هي التي أتاحت لجنرال تايلاندي مسلم أن يجلس على رأس قيادة جيش بلاده البوذية، و مكنت شخصية مسلمة من احتلال منصب رئاسة البرلمان في بلد جل سكانه من البوذيين أو المسيحيين مثل سنغافورة.

أما فيما يتعلق بالبحرين، التي تمثل حالة خليجية متميزة بفضل ما بلغه أبناؤها من مستوى تعليمي و ما تحتضنه بالتالي من كوادر مثقفة، و بفضل تاريخها الطويل كمجتمع منفتح و متسامح و وعاء حاضن لثقافات و أعراق و مذاهب متنوعة، فإنها مهيأة أكثر من غيرها لتكون نموذجا للدولة المدنية العلمانية لولا سطوة الإسلام السياسي الحركي الطارئة. و لا أبالغ لو قلت أن مجتمعنا البحريني للأسباب التي ذكرتها آنفا هو علماني بطبعه، بمعنى انه غير متطرف دينيا. و بعبارة أخرى فهو لئن كان محافظا و ملتزما بأهداب دينه الإسلامي، فانه في الوقت نفسه يحترم أتباع الديانات و المذاهب الذين يشتركون معه في المواطنة، و لم يصدر عنه في الغالب ما يشير إلى تبنيه لنزعة اقصائية أو مطالبته بفرض أحكام عقيدته على الآخرين أو تحبيذه لإقامة الدولة الدينية على أنقاض ما هو قائم.

و حينما ننادي بعلمانية الدولة و مدنيتها في البحرين ، فإننا بهذا لا ندعو إلى تهميش الإسلام و دوره في حياتنا بقدر ما ندعو إلى عدم إقحامه في كل صغيرة و كبيرة من الأمور الدنيوية الخالصة. إننا ببساطة لا نريد أن نصل إلى وضع يصبح فيه موضوع مثل تحية العلم الوطني، مسألة جدلية يستدعى رجال الدين للإفتاء بصحتها من عدمها مثلما حدث مؤخرا في دولة مجاورة، أو إلى وضع يتدخل فيه لابسو العباءة الدينية في مسألة مثل أداء الجندي للتحية العسكرية أو مدى صحة دفاعه عن دولته إذا كانت هذه الدولة لا تطبق الشريعة بحذافيرها مثلما حدث في دولة مجاورة أخرى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بالفيديو - فيضانات عارمة تضرب بلدة نواسكا الإيطالية


.. الانتخابات التشريعية بفرنسا.. ما مصير التحالف الرئاسي؟




.. بسبب عنف العصابات في بلادهم.. الهايتيون في ميامي الأمريكية ف


.. إدمان المخدرات.. لماذا تنتشر هذه الظاهرة بين الشباب، وكيف ال




.. أسباب غير متوقعة لفقدان الذاكرة والخرف والشيخوخة| #برنامج_ال