الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بضعة أعوام ريما: الفصل الثاني عشر/ 3

دلور ميقري

2020 / 6 / 17
الادب والفن


كان من الصعب على صالح إقامةُ سهراتٍ، يتم فيها تبادل الأنخاب على وقع الألحان المنبعثة من الحاكي أو الراديو، وذلك بوجود والدته. إذ مع نضوج ثمار شجرة المشمش البلدي في حديقة الدار، قررت السيدة شملكان زيارة ابنتها في مزرعة البيطارية، ثمة أين يخدم رجلها كوكيل أعمال عند الإقطاعي المعروف، حسين بك إيبش. سيارة الفورد، التي قادها صالح، حملت أيضاً علاوة على شقيقه الكبير، شبه الأبله، كلاً من ريما وابنتها الرضيع. لولا سوء الطريق، وضرورة تجنب الحفر فيه، لكان من المفترض بالسيارة أن تصل إلى المزرعة خلال ساعة بالكثير. لكن مناظر الطريق، حيث الطبيعة تزدهر في هذا الفصل، جعلت من السفر نزهةً ممتعة. قائد السيارة، كان بحاجةٍ للرحلة على خلفية مشاكل عائلية، جدّت في الفترة الأخيرة: للمرة الثانية، رمى يمينَ الطلاق على امرأته مليحة بسببٍ يُحيل إلى أساس علاقتهما الزوجية. في حين لجأت هذه إلى دار والدتها، فإن المسكينة حواء ـ وكان طلاقها بائناً في نهاية المطاف ـ احتارت إلى أين تمضي. هنا تدخلت ريما، لتحمل البطريرك الغاضب على السماح لطليقته باتخاذ القسم التحتاني من المنزل مسكناً لها ولولديهما.
منزل موسي في المزرعة، كان يقع بالقرب من قصر مالكها، الإقطاعي الكبير. هذا الأخير، بحَسَب ما علمه صالح من صهره، كان آنذاك يستعد لإحدى رحلات الصيد في أفريقيا. تحت إلحاح صهره، وافق على البقاء إلى الغد. كونه أتى في ساعة مبكرة من النهار، استغل الوقت للقيام بجولة طويلة في المزرعة. مثلما سبقَ وعلمنا، فإن صالح كان من المغرمين بأزهار الحدائق والبرية على حد سواء. في هذا الوقت، كان موسم الحصاد في أوجه، والطيور تحوم فوق القمح المحصود والمحزوم فتبدو تحت أشعة الشمس الذهبية كشهب نازلة من الفضاء. بمجرد ارتقاء إحدى الروابي الخضراء، لاحت السبخة لعينيّ الرجل الجوّال كأنها قطعة من الأفق الأزرق. موسي، وكان يُرافق صهره في الجولة، ما لبثَ أن نظر في ساعته، ليقول بنبرة فخمة: " حان موعد الغداء، وسنتناوله بمعية حسين بك، بناءً على طلبه ".

***
حسين بك، كان متصدراً بعظمة طاولة الطعام، ملقياً نظرةً ثابتة على السماط الأبيض، المرصوف فوقه أنواع اللحوم المشوية وسلطات الخضار. لكن صالح لم يكن الضيفَ الوحيد، ما لو حسبنا وكيل الأعمال جزءاً من عائلة السيد الإقطاعيّ. فإلى يمين الطاولة، جلسَ رجلٌ عليه قيافة فرنجية، وجهه الأسمر يتميز بعينين لهما نظرة ثاقبة ولحية خفيفة. المضيف، قدّمَ الرجلَ لصالح بالقول في لهجة فخمة: " الأمير جلادت بك "
" صالح، ابن حَميّ "، بادر وكيلُ الأعمال بالتعريف مخاطباً الضيف. ثم أردفَ موسي، مبتسماً: " ولو تذكُر، يا أمير، أنني أعلمتك مرةً بأن حَميّ أطلق على ابنه اسمَ صالح، تيمناً باسم ابن صديقه البدرخانيّ ". أحنى الأميرُ رأسه قليلاً، ثم علّقَ بالقول: " صالح بدرخان، توفي في خلال الأسر بجزيرة رودس بعدما وقع بأيدي قوات الإنكليز في الحرب "
" رحمه الله "، تمتمَ صالح وهوَ ينظر بتهيّب نحو الأمير ذي الهيئة الأرستقراطية. في خلال تناول الطعام، تبادل هذا الأخير الحديثَ مع موسي ومعلّمه حول التطورات السياسية الدولية غبَّ استلام هتلر للحكم في ألمانيا. فاتفقت آراؤهم على أن الحرب ستقع مجدداً في أوروبا، وأنها ستمتد بشكل طبيعي إلى المشرق بسبب سيطرة الفرنسيين والإنكليز على عدة دول فيه. مع أن صالح من النوع الزاهد في مناقشة الأمور العامة، وجد نفسه يعقّب بالقول: " لا أرانا الله الحربَ من جديد، نحن مَن خبرناها ونجينا من آثارها بأعجوبة ". ذكريات الحرب، وكانت ومضت مثل شريط سريع أمام عينيه، سلّمته لصورة أقرب عهداً؛ صورة السيدة عايدة، التي قارب عُمرها الآنَ عتبة العقد السادس، فصار جسدها المثير هزيلاً ووجهها الآسرُ استطالَ، فغارت فيه العينان الرائعتان وراء الأخاديد والتجاعيد.

***
في عصر اليوم التالي، عاد صالح من البيطارية بسيارته. حسّه العمليّ، جعله يأخذ طريق الصالحية علّه يحظى بزبون. كمألوف عادته في خلال الفترة الأخيرة، تنهّد بحزن حينَ مر بالقرب من منزل السيدة عايدة. بعد بضعة عشرة متراً، إذا به يلمحُ شخصاً يعرفه. كان رجلاً ثلاثينياً، بقيافة سلاح الدرك الأنيقة. أوقفَ صالح السيارة، ثم نادى الرجل: " أخي حمدي، تفضل لكي أوصلك "
" آه، الشكر لك أخي "، قالها الرجل وهوَ يركب في مقعد السائق. ثم أردف: " طلبتُ من سائق السيارة العسكرية أن ينزلني هنا، كي أشتري بعض الأشياء من سوق الجمعة ". هز صالح رأسه، ثم سأله كم قضى من الوقت في الخدمة بحوران. أجاب الرجل: " ستة أشهر متواصلة، لم أحصل فيها على إجازة بسبب عقوبة تافهة. ولكن، كيفَ حال الحارة؟ "
" همّ.. أهلك بخير، بيد أنهم ما زالوا في حِداد على ابن عمك، علي بطة! "، قالها صالح بنبرة أسف. هتفَ الدركيّ بصوت أقرب للعويل: " ابن عمي، علي آغا، ماااات؟ رباه، أي مصيبة هذه ". ثم انخرط في بكاء مرير. أخذ صالح يواسيه، مذكّراً إياه بأن الحياة فانية وغير ذلك من الحكم. بقوا على هذا الحال، لحين وصول السيارة إلى مدخل زقاق آله رشي. جفف الدركيّ عينيه بمنديل، ثم دلف من السيارة شاكراً جاره. ما عتمَ أن التفتَ إلى ناحية رجال يجلسون خارج المقهى، فحياه هؤلاء لما تبينوا شخصه. عاد حمدي وفرك عينيه بالمنديل، ثم نظر ثانيةً: علي بطة، كان متصدراً ثلة الرجال أولئك! عاد وحوّل وجهه إلى ناحية السيارة، وكانت قد بدأت تسير على مهل كي تدخل الزقاق. صرخ بأعلى صوته باسم صالح، ثم لحق بالسيارة شاتماً لاعناً وسط دهشة الأشخاص الحاضرين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال


.. الفنانة ميريام فارس تدخل عالم اللعبة الالكترونية الاشهر PUBG




.. أقلية تتحدث اللغة المجرية على الأراضي الأوكرانية.. جذور الخل