الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مكابدات الرحّال/ الجزء العاشر

سعد محمد موسى

2020 / 6 / 18
الادب والفن


الهدنة القصيرة

تغيرت أفكار الرحال ومواقفه كثيراً بعد الرحلة القاسية وخروجه من السجن.
فلم تعد الافكار الرومانسية التي تأثر بها سابقاً قريبة من قناعاته اليوم حول تغير العالم ولم يعد الشعر والفن قادران على وقف بشاعة الحروب في مجتمعات تسحقها العجلة العسكرية ورعب همجية السلطة وما بين استبداد التحريم والمنع لحرية الجمال والابداع وكم الافواه ووأد أي حلم جميل ممكن أن يزعج القبح والشر، وكذلك تعززت واقعيته حين أدرك بان ليس كل مغامرة يمكنها أن تحقق الحرية والمبتغى.
هادّن الرحال الواقع المتناقض وهو يحاول ترتيب هزائمه وخيباته متصالحاً مع الحياة ساعياً أن يعيش حياة رجل عادي وواقعي.
بعد شهر من رجوعه الى مدينته البصرة تزوج الرحّال من إمراءة بسيطة هادئة الطباع، كان جّل إهتمامها لا يتجاوز المطبخ ورغبة في تكوين أسرة!!
لكن الرحال أخبر الفتاة قبل الزواج أن موضوع انجاب الاطفال يبقى مشروع مؤجل حالياً حتى نهاية الحرب إذا قُدر له أن ينجو من الموت.
كذلك فضل العريس أن تقوم مراسيم الزفاف دون ضجة وقد حضرها أهل العروس وبعض من أصدقائه أضافة الى أخته الوحيدة المتزوجة في قضاء أبو الخصيب، وقد تم الزواج في الدار البسيطة الواقعة في قرية "نهر خوز" التي توارثها مع أخته بعد وفاة الوالدين.
كانت الزوجة تستوعب صمت الرحّال وقلة كلامه وغرائبية سلوكه أحياناً وتمنحه الحرية في عزلته دون إرباك تأملاته في غرفته التي تحتوي على مكتبة رفدها بالكثير من الكتب المتنوعة بيما كانت الجدران تزينها بضعة لوحات معلقة لكن تبقى إحدى اللوحات القريبه من روحه هي التي أهداها صديقه الرسام الراحل السالمي اليه أثناء دراسته الفن، فكان الرحّال كثيراً ما يتأملها بعد أن يشعل سيجارته ويعوم في فضاءها وفي ملامح الوجوه التعبيرية المشحونة بمشاعر الترقب والحزن والصراخ المكبوت من وراء نافذة، بينما يترآى هنالك ثمة ضوء ينعكس على النافذة وعلى الوجوه ربما أراد بها الفنان أن يمنح دلالة الامل وسط عتمة الليل للوجوه المحاصرة من وراء النافذة.
قضى الرحال شهرين هادئيّن في بيت الزوجية ومع الحياة الجديد، وبعد نهاية أجازته التي منحت لمدة ثلاثة أشهر بعد خروجه من سجن ابو غريب.
كان يحتم عليه بعدها أن يلتحق مجدداً الى وحدته العسكرية القديمة، التي إنتقلت من القاطع الشمالي الى القاطع الجنوبي في البصرة.
في نهاية عام 1987 عاش الجندي الرحّال ويلاّت الحرب الرهيبة مرة أخرى بعد عودته للجبهة.
بعدها جاء أمر التحاق الوحدة العسكرية التي يخدم بها الرحّال للمشاركة في معركة "الفاو" الرهيبة والتي كانت تعد من أعنف المعارك التي حصلت في العصر الحديث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لتحرير شبه جزيرة الفاو بعد أن أحتلها الجيش الايراني لمدة سنتين.
كان الرحال يخدم كجندي مشاة حمل بندقية الكلاشنكوف التي بصق عليها قبل هروبه في القاطع الشمالي وقد شاهد وعاش جحيم إبادة قتل جماعي من الطرفين لا تستوعبها منظومة العقل البشري.
فكانت المذابح المرعبة تدور رحاها بينما الجثث المثقبة بالرصاص والاشلاء الممزقة تزدحم فوق أرض المعركة.
ودويّ المدافع والراجمات وغارات الطائرات التي لاينفك صداها عن التوقف. بينما كانت رمال المعارك العطشى تمتد بكل شراستها دون أن ترتويّ من امتصاص الدماء.
بعد تحرير الفاو ببضعة أشهر انتهت لعبة حرب الثماني سنوات في الثامن من شهر آب عام 1988، دون ان ينتصر بها أحد باستثناء تجار الحروب والأسلحة والسماسرة وأوغاد الفتن والطائفية.
كانت حرب عبثية حمقاء خلفت أكثر من مليون قتيل من الطرفين المتنازعين وأعداد مرعبة من الجرحى والمعاقين والاسرى إضافة للدمار الفظيع الذي شل إقتصاد البلدين والبنية التحتية والاسوء من ذلك الانهيار الاجتماعي.
غادر الجنود الخنادق من أقاصي جبهات الموت والمحارق ومن بوابات الجحيم ومن سواتر الموت نحو مدن وقرى كانت تنتظر معانقة عودة الجنود الناجيّن من الحرب الضروس.
أضاءت الأعيرة النارية سماوات المدن بينما صراخ الأطفال كان يتعالى مع الأهازيج إحتفاءاً بنهاية تلك الحرب العبثية الطويلة والنسوة يوقدنَّ الشموع على ضفاف الأنهر فرحاً بعودة الغائبين وهُنّ يغمسنّ أصابعهن بحناء النذور ويرسمنّ فوق الاضرحة ومزارات الائمة وأصحاب الكرامات وعلى بوابات المعابد الخشبية الطلاسم المقدسة بمراد الامنيات.
كانت روائح البخور والصندل تعج أيضاً من جديد في ثنايا البيوت التي غادرها الفرح منذ زمن بعيد.
نصبت الزوجات الكللّ-( الناموسيات) فوق سطوح البيوت تحت سماء صيف آب.
أما الرحّال ذلك الجندي العائد من عفن الخنادق وروائح البارود أخذ يلقي بملابسه الرثة فوق ضفاف شط العرب واستحم بالماء البارد ثم نشف جسده وإرتدى دشداشة حريرية بيضاء كانت زوجته تحتفظ بها منذ ليلة الدخلة.
جلس الرحّال على ضفاف الشط وهو يتأمل الصيادين في الليلة المقمرة بينما غناؤهم يصدح مع زعيق النوارس التي تتعقب مراكب الصيد المضاءة بالفوانيس والسفن الكبيرة المحملة بالبضائع القادمة عبر الخليج.
راقب الرحال القمر الذي بات جزءاً من ذاكرته في إرتحالاته وعذاباته وسجنه في معتقل الجبل حين كان يحاوره من كوة في أعلى الجدار بينما المحتجزين كانوا يغطون بالنوم وبالكوابيس. لكن في هذة الليلة كان بدر الرحال يتأمل القمر بانطباع مختلف وهو يعكس بضوئه المتلألأ فوق سكينة شط العرب.
"يتبع"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع