الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


!حكاية على هامش الأدب والفن

رندة المغربي

2006 / 6 / 23
الادب والفن


ثبت قلبك على الصورة العظمى""
يأتِ العالمُ إليك
يأتي الجميعُ إليك ، والكل في سلام""
*التاو تي ـ تشينغ
**

أهلا منتصف الليل ..
أهلاً بالذاكرة المحكية ..
أهلاً بك أيها الصمت بوزنك الثقيل على منكبيّ ..
وأهلاً بكِ أيُّهات الرياح المِهْدَاج ، تأتين إلينا بحنين الصوت ..!
وأهلاً بالكتابة !
قلبي يغرفُ من دمه وأنا أولج القلم في رحم الورق و أكاد أجزم في خلوتي بأن لعينيّ آذان تسمع همهمات النور المنسكب من سقف الحجرة محدثة أصوات بليغة لا تلمها لغة ولا ينضّدها لفظ !
ألاحق رأسي بالأسئلة الواخزة ، منذ بدأت أعالج مصطلح الرؤية في بدايات مراهقتي في ثورة الشباب في البلاهات التي اجترحتها لأدمي تقليدية الغير و عرفهم بشبقي للخروج على المألوف
و الاعتداد بالأنا ..!
بالبحث عن سر وجودي عن مصطبة تليق بالأنا ، و يا لهذه الأنا كلما أوغلتُ فيها اكتشفت حجم تفاهتها ! تبدأ بإنفجار لتراوح بين غفلة وإفاقة و تترى عليها الأزمنة لتفضح أكذوبة وجودها لتعري رغباتها البدائية حتى تتضاءل فيأتي الموت منجداً يصعدُ بها لتسمو وترتقي!
لقد تعلمتُ فناً عريق لم نتعلمه على مقاعد الدراسة ولم يحك لنا عنه أسلافنا إلا اللمم
فن التصالح مع الموت وتسليم أجسادنا وأفكارنا له كهدية فاخرة بطيب نفس .. فجميل أن نموت برضى
أن نغمض الإغماضة الأخيرة بسلام و انتظار لا يشوبه تخبط و بحث عن قشة الغريق ..
أن نقول وداعاً بابتسامة وديعة على وجوهنا مطمأنين بأن هناك رؤى أخرى تنتظرنا
هناك حين ينكشف عنا الغطاء ليستحيل البصر حديد فالرؤية لا تنعدم بالموت والرؤية لا تقف حدودها على عتبة مقلة ، فالأعمى يرى وإن لم تصطبغ رؤاه باللون و تلمع بالضوء ، هو يرى
حين صنع من يديه مآقي ومن أذنيه محجرين تدور فيهما حبات العيون بتصالح مع ألق الفكر .
أتدرون كم ميتة نموت ؟ صدقوني ليست واحدة ولست ممن يوثقون وينافحون عن مصطلح العبثية و العدم ، فقلبي مطمئن لحقيقة تعدد الميتات يتلوها حيوات أخرى حتى انسلاخ الروح عن الجسد هو موت يليق بصاحبه فالموت عادل لا يظلم أبداً فهو من ينجو بأصحاب الحناجر الماضي عليها حد السكين من حشرجة التشبث بحياة نرجوها عبثا من يد لا ترحم .
وهو من ينجو بالقلب الذبيح وهو يتفطر ألماً لغياب مباهجه ..
الموت واحد لا يتجزأ يأتي ليسمو بصاحبه فوق عالم يغدو حشرة يدوسها بقدمه الراحل ويصعد!
وهنا لا أتحدث فقط عن موت تقليدي ترتعدُ لها فرائصنا ولا أريد أن أغمس القلب العامر بالأمل في أسود الألم ..
هنا أريد أن أدافع عن حق لي وللآخرين بالموت والإنبعاث من جديد ..
فقد قص لي أخي قصة حقيقية قد تبدو تافهة للمتلقي في باكورة الحكاية لكنها حتماً ستتعاظم بأهميتها لتغدو هاجساً مريح يهجس به الحصيّف الباحث عن مخرج لمأزق تشعُب الطرق والوجهات أمامنا ونحن نضرب بعصانا يمينا شمالاً علّنا نجد مخرج ..!
هو رجل فقد بصره في الستينيات من عمره ..
تاجر أقمشة في أحد أسواق الرياض القديمة له حانوت صغير يربض على أحد الأزقة الضيقة وبآخر الزقاق داره ، لم يسبق وخرج من محيطه لم يخط خطوة واحدة نحو قلب العاصمة الحديثة ..
الزمن يوازيه من الحانوت إلى الدار وبالعكس .. ألف ملمس الأقمشة وتعودت عيناه على الألوان المنسكبة من أمتار القماش المتهدلة بين يديه ، مركز الكون له هو زقاقه وجدران حانوته و حجرات داره حتى أتته يوماً دعوة قلبت حياته!
دعوة إلى المنطقة الشرقية في السعودية لحضور حفل زفاف حيث رمل الصحراء يتدرج بملحه من ملح قفر إلى ملح شاطيء بحري للخليج العربي فزم هذا الرجل "بقجته" و سافر لأول مرة نحو الشرق وبعد حفل الزفاف ذهب مع الأصدقاء لرؤية البحر في صبيحة يوم فاصل في حياته!
هل هذا هو البحر ؟ يبدو كأمتار من القماش الأزرق اللامتناهية يموج .. يموج ويتهدل على أطراف أصابعه ،هنا قد يقضي عمرا وهو يقيس بذراعه هذا القماش الأزرق ليقصه بمقصه و يطويه بين يدي الزبون ، هنا للقماش حفيف مزمجر و هدأة لون مغرية وملمس عميق .. عميق .. عميق !
هنا ، على طرف قماش البحر المتموج تحت قدميه وأقدام الأصدقاء دافع بقوة عن مدينته القديمة عن خصوصية البيئة التي خرج منها عن أفضليتهم على الغير /الآخر
هنا عرف لأول مرة الصدام مع الغير وهو الغريب بينهم.. بالعادة يصطدم بالأخر وهو في مدينته فيكون الآخر غريب مآله العودة من حيث أتى ..
لكنه اليوم يدافع بحذر و يفخر متحاشيا الشجار طالما المثل يقول : دارهم ما دمت في دارهم وأرضهم ما دمت في أرضهم !
عاد صاحبنا بعد رؤية البحر إلى زقاقه ومركز كونه متشبثاً بخصوصيته و متحمساً لهويته
عاد ليقص لأهله ما رأى واستهجن من قاطني المدينة الأخرى وغفى مطمئناً بأن الأنا
هي الأفضل وبأن الوطن زقاق و حصباء طريق ألفها تحت قدميه وعُرف يسترخص دمه بالذود عنه . لم يكن على دراية بأن صباحه الجديد يحمل له موتاً للبصر موتاً يشل وجهته و يتلاعب بمهنته كتاجر قماش احترف قلب الألوان دراهما بين يديه!
لقد أستيقظ أعمى !
فهل جربتم أن تستيقظوا عميان؟ تفتحون وتغلقون أجفانكم عشرات المرات وما من ضوء أو لون يترجمه العقل ؟
أن تتلمسوا أجفانكم لتتأكدوا بأنها مفتوحة فتفجعون من جل الخطب؟
أي شهقة ؟ أي صرخة ؟ أي فزع سيسعف العقل حينها! .. فلو كنتم الآن مثلي تسمعون صوت الكتابة ستدركون ماذا يعني صباح لا نور فيه!
وهذا ما دفع به للركض صوب أول طبيب عيون عله يداويه ..
بدأ الطبيب يسأله فاحصا عينيه عن الأيام الفارطة فروى له ما حدث وأين كان وكيف أصبح
فلم يكن تشخيص وعلاج الطبيب له إلا قطرة عيون عادية وراحة مصحوبة باسترخاء وأن يعيد مراجعته بعد أسبوع ..
وبالفعل بعد يومين لا أكثر أستيقظ أيضا ذات صباح على الضوء الوديع ينسج له اللون كيفما دارت مآقيه! فهرع إلى طبيبه مبشراً وخائفاً من عمى آخر وموت آخر يدهمه في غفلة !
لم يجد الطمأنينة إلا حين شرح له الطبيب أن علاجه لم يكن بقطرة العين بل بالمصالحة مع الأنا والغير بالإسترخاء وإعادة التأمل ناهلاً من الذاكرة لحظات عاشها في محيط الغير ..
فالعمى الذي أصابه لم يكن إلا نتيجة حتمية للعين التي ألفت الأفق الضيق والمساحات المحدودة
للرفض الغريزي بداخلنا للمتغير والوافد علينا بالخوف من الإنصهار في بوتقة تلم أطياف ونسق متعددة بالنظر بعيداً ومعانقة الآفاق المشرعة للجميع .
وهذا ما دفعني أن أعزز إيماني بحقنا في الموت و الرفض كنتيجة طبيعية تسبق حياة جديدة بها وعي ورؤية متفهمة للآخر للأنساق والآفاق العديدة من حولنا .. بأن نتفهم رفض الآخر للتغيير ونتأكد بأنها مرحلة لن تدوم وبأن الموت يخضع لحتمية البعث !
لا أدري كيف فهم هذا الرجل ما ألمه لكن أخي أحب أن ينهي قصته بنهاية سعيدة فأخبرني بأن هذا المسن أصبح يذهب من وقت لآخر للبحر ليتصالح مع الأفق و الآخر المختلف عن الأنا
وألف الأزرق اللامتناهي أمام عينيه بل عشقه أيضاً كوطنه كزقاقه كالقماش المدبوغ بالأزرق يذكره بموت مؤقت للبصر و بعث أبدي لرؤية لا تأتي إلا من صاحب بصيرة يرحب بالموت كمرحلة لا أكثر!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي