الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسالة إلى أصدقائي البيض

محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)

2020 / 6 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


نحن في فرنسا لسنا عنصريين ولكنني لم أر في ما أذكر رجلاً أسود يشغل لدينا منصب وزير. مع أني أبلغ خمسين سنة من العمر وتوالت عليّ حكومات عديدة. نحن في فرنسا لسنا عنصريين ولكن السود والعرب يشكّلون الأغلبية الساحقة من نزلاء السجون.
نحن في فرنسا لسنا عنصريين، ولكنني أنشر كتبي منذ 25 سنة ومع ذلك لم يستجوبني خلال هذه الفترة كلها سوى صحافي أسود وحيد. وصوّرتني امرأة وحيدة أصولها جزائرية. نحن في فرنسا لسنا عنصريين، ولكن آخر مرة رفض نادل أن يقدم لي المشروب في الفضاء الخارجي من المقهى كنت برفقة عربي. وآخر مرة طلب رجال السلطة هويتي كنت برفقة عربي. وآخر مرة كاد الشخص الذي كنت أنتظره أن يصل بعد مرور القطار لأنه كان يخضع لفحص هوية داخل المحطة، كان هذا الشخص أسود.
لسنا عنصريين في فرنسا، ولكن الأمهات اللواتي شاهدناهن خلال الحجر يتعرضن لضربات الصاعق الكهربائي بذريعة عدم توفرهن على ورقة الخروج التي يستصدرها الناس ذاتيا، لم يكن من ذوات البشرة البيضاء، وكن من سكان الأحياء الشعبية. بينما شوهدنا نحن ذوات البشرة البيضاء خلال هذا الحجر ونحن نمارس الركض أو نتسوق في المقاطعة السابعة. لسنا عنصريين في فرنسا، ولكن عندما أُعلِن بأن معدل الوفيات في حي سين سان دوني Seine Saint Denis هو أعلى بستين مرة من المعدل الوطني، لم نقابل ذلك بشيء من عدم الاكتراث فقط وإنما سمحنا لأنفسنا أن يهمس بعضنا للآخر: "ذلك لأنهم لا يلتزمون جيداً بقواعد الحجر".
أكاد أسمع دوي التغريدات المأجورة تعبر ساخطة عن إحساسها بالإهانة كما تفعل ذلك في كل مرة ينبري فيها أحد الأصوات ليقول كلاماً يخرج عن خانة البروباغندا الرسمية: "يا للفظاعة، ولكن لماذا كل هذا العنف؟".
وكأن العنف ليس هو ما جرى يوم 19 يوليو 2016. وكأن العنف لم يكن احتجاز إخوان آسا تراوري Assa Traoré. في ذلك اليوم (كان يوم ثلاثاء)، شاركت لأول مرة في حياتي بتجمع سياسي ضم أكثر من 80000 شخص ونظمه فريق من غير البيض. ولم تكن تلك الجماهير عنيفة. وفي يوم الثاني من يونيو/ حزيران 2020، تحولت آسا تراوري بالنسبة لي إلى أنتيجون Antigone جديدة. ولكن هذه الأنتيجون ترفض أن تدفن حية بعد أن قالت "لا". أنتيجون لم تعد وحدها. لقد تشكلت جيوش لتناصرها. إن الجماهير تهتف: "العدالة لآداما". 

وحين يقول هؤلاء الشباب بأن مجرد رؤيتك للشرطة ترعبك إذا كنت عربياً أو أسود فهم يعرفون حق المعرفة ماهية ما يقولونه: إنهم يقولون الحقيقة. يقولون الحقيقة ويطالبون بالعدالة. أمسكت آسا تراوري مكبر الصوت وتوجهت إلى من حضروا قائلة "إن اسمكم قد دخل التاريخ". ولم تهتف لها الجماهير لما تتمتع به من كاريزما ولا لكونها تبدو جذابة في الصور. الجماهير تهتف لها لأن القضية عادلة. العدالة لآداما وأيضاً لكل من لا يحمل البشرة البيضاء. ونحن البيض نهتف مرددين الشعار نفسه ونعرف بأن من العار ألا يشعر المرء بالخزي لأن الأوضاع في سنة 2020 ما زالت تستدعي منا أن نردد مثل هذه الشعارات. العار هو أقل ما يمكن.
أنا بيضاء. وأغادر بيتي كل يوم من دون أن أحمل معي الأوراق الرسمية. أمثالي لا يرجعون للمنزل إلا إذا نسوا بطاقتهم البنكية. المدينة تقول لي بأنني هنا في بلدي. إن بيضاء مثلي يمكن لها - خارج فترة الجائحة - أن تتنقل كما يحلو لها في المدينة من دون حتى أن تلحظ أماكن وجود الشرطة. وأنا على يقين بأن الدنيا ستقوم ولن تقعد إذا ما جلس على ظهري ثلاثة من أفراد الشرطة وخنقوني حتى الموت. إن الامتياز هو أن تكون لديك القدرة على الاختيار بين التفكير في وضعيتك أو نسيانها. لقد ولدت بيضاء مثلما ولد البعض رجالاً. لا يمكنني أن أنسى كوني امرأة. ولكن يمكنني أن أنسى بأني بيضاء. هذا ما يمنحك إياه بياض البشرة. أن تفكر فيه أو لا تفكر، بحسب المزاج. في فرنسا لسنا عنصريين، ولكنني لا أعرف شخصاً واحداً، أسود أو عربياً، لديه هذا الخيار.

• صاحبة هذه الرسالة هي الماتبة الفرنسية فرجيني ديبونت Virginie Despentes؛ وقد كتبتها عقب المظاهرة الداعمة لآداما تراوري Adama Traoré وموجهة إلى "أصدقائها البيض ممن لا يفهمون أين هو المشكل بالضبط"، تنتفض ضد إنكار العنصرية وتوضح كيف أن "بياض البشرة" يمثل امتيازاً. 
وفرجيني ديبونت هي من أهم الأقلام الروائية الفرنسية في الوقت الراهن. أما أداما تراوري، فهو شاب فرنسي من أصول أفريقية توفي أثناء مطاردة رجال الشرطة له في إحدى ضواحي باريس بتاريخ 19 يوليو/ تموز 2016.( نقلها عن الأصل الفرنسي عزيز الصاميدي و نشرها في موقع العربي الجديد:https://www.alaraby.co.uk/blogs/2020/6/13/%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A3%D8%B5%D8%AF%D9%82%D8%A7%D8%A6%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%B6 )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استمرار تظاهرات الطلاب المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمي


.. وفد مصري إلى إسرائيل.. ومقترحات تمهد لـ-هدنة غزة-




.. بايدن: أوقع قانون حزمة الأمن القومي التي تحمي أمريكا


.. رغم التضييق.. اعتصامات مفتوحة مستمرة في كبرى الجامعات الأمري




.. خلال زيارة ماكرون.. طلاب جامعة السوربون الفرنسية يدعمون غزة