الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سارة

زين اليوسف
مُدوِّنة عربية

(Zeina Al-omar)

2020 / 6 / 20
حقوق مثليي الجنس


لا أعلم حقاً من أين أبدأ..مر أسبوعٌ تقريباً على اغتيال سارة و منذ ذلك الحين ما زلتُ عالقةً في دوامة الصمت المُطبق سواءً في فضاء السوشيال ميديا أو حتى على الصعيد الواقعي..قرأت رسالتها الأخيرة عشرات المرات و بعد كل مرةٍ منها كان يزداد صمتي و ألمي و بالتأكيد اكتئابي..كنت أرى صورها المنتشرة في المواقع الإخبارية المختلفة فأجد أمامي شابةً في مقتبل حياتها تبتسم دائماً بكل براءة..طفلة..مجرد طفلةٍ تسكن جسد شخصٍ بالغ..ذلك كان انطباعي الأول و الأخير عنها..فكيف سُحقت روحها إلى هذا الحد!!..ما الذي دفع تلك الإنسانة إلى حافة الحياة لتنهي حياتها شنقاً و هي الوسيلة التي تُعبَّر عن الإصرار على التخلي عن أي احتمالية للنجاة؟؟.

خلال الأسبوع المنصرم قرأت كل ما تمكنت من إيجاده حول تفاصيل حياتها..إنسانةٌ أُجبرت على ارتداء حياةٍ ليست بحياتها كمعظم الفتيات في العالم العربي..إنسانةٌ خُنقت بالحجاب كمعظم الفتيات في الأسر التقليدية المسلمة و في لحظة قرار ألقت بقطعة القماش تلك لأنها لا تتناسب مع ميولها الفكرية و الجنسية..إنسانةٌ كانت أقصى أحلامها أن تعبَّر عن تلك الأفكار و الميول دون أن يتقدَّم موعد القيامة عن موعده القدري كما يؤمن أتباع الأديان السماوية..إنسانةٌ بسبب قطعة قماش ألقتها عن رأسها و قطعةٍ أخرى رفعتها في حفلٍ غنائي انتقلت من الجحيم إلى جحيمٍ أشد..إنسانةٌ بين الإجبار و القرار تم اغتيالها.

كنت أراقب تعليقات الآخرين حول اغتيال سارة بنوعٍ من الصدمة الأخلاقية..فأن تتخيل حدوث أمرٍ ما يختلف كثيراً عن رؤيته يحدث بطريقةٍ تثبت لك بأن خيالك كان بريءٌ جداً و لا يكاد يصل إلى هذا الحد من افتراض التوحش في الآخرين..فخلال الساعات الأولى التي أعقبت وفاة سارة تأكدت بأن هذه المجتمعات من الاستحالة أنها تمتلك الحد الأدنى من الاتزان النفسي..مجتمعاتٌ "مُتدعشنةٌ" حتى النخاع و لكنها تجيد ممارسة التُقية أمام الجميع فقط لتأتي مثل هذه اللحظات القاسية لتُسقط عنها ذلك القناع..مجتمعاتٌ تمقت المختلفين و تستمتع بتساقطهم موتاً إما بالاغتيال النفسي أو الجسدي لا لشيء إلا لأنهم لم يسيروا معهم خاضعين في ركب قافلة النفاق..تلك المجتمعات التي تصل لمرحلة التبول رعباً من حكامها تجدها تصرخ بكل ما تملكه من توحشٍ حقيقي و شجاعةٍ مزيفة عندما تصادف إنساناً تمكن من التصالح مع ميوله الفكرية و الجنسية و فرَّ بنفسه من مستنقع زيفهم الأخلاقي و استشرافهم الديني ليقولها بصدق:"أنا هكذا".

تأملت كثيراً صورة ذلك الخط الأنيق في رسالة الانتحار المشؤومة و تساءلت:"كيف يستمتع أي شخصٍ على وجه البسيطة بنهش جثة شخصٍ آخر؟؟..كل ذلك الألم الذي كان يقطُر من كلمات رسالتها المقتضبة كيف لم يحرك به مشاعر التعاطف و الألم تجاه من دفعها التعذيب النفسي و الجسدي و الاعتقال إلى آخر حدود مقاومتها؟؟"..البعض كان يردد بسخريةٍ شديدة و بتشفٍ أشد و بجهلٍ يفوق كليهما بأن وجودها في بلدٍ غربي يمنحها جميع حقوقها الإنسانية لم يمنعها من الانتحار..و كأن سارة توفيت منذ أسبوعٍ واحدٍ فقط!!..سارة لم تُنهي حياتها مؤخراً بل اُغتيلت إنسانيتها منذ اللحظة التي انزلقت فيها من رحم والدتها إلى غياهب مجتمعٍ مسلمٍ عربي.

ذلك المجتمع الذي يرتدي مسوح الرهبان تجاه المغتصبين و البيدوفيليين السائرين بكل ثقةٍ في شوارعه و أزقته..ذلك المجتمع الذي يفقأ كلتا عينيه كي لا يبصر ذلك الكم الهائل من جرائم "انعدام" الشرف تجاه الإناث فيه..ذلك المجتمع الذي يشرِّعن الدعارة منذ بدء خليقته تحت أسماءٍ و مصطلحاتٍ دينيةٍ متعددة..تلك المجتمعات التي تردد دوماً أنها مجتمعاتٌ متدينةٌ بطبعها و مسالمةٌ بسبب أديانها ما هي إلا مُعتقلٌ كبير يُمارس فيه التعذيب النفسي تجاه الجميع و خاصةً تجاه الفئات المستضعفة فيه..و لهذا حتى تلك الجثة الباردة التي وجدت مُعلقةً في الحمام لم تسلم منهم كما لم تسلم منهم أي أنثى حاولت أو تحاول أن تقرر ما ترغب به في حياتها..في حياتها هي لا في حياة الآخرين.

عندما كنت أقرأ التعليقات التي يغلب عليها التوحش و التشفي لموت سارة لا أعلم لماذا تذكرت إكرام..تلك الطفلة التي تم اغتصابها من رجلٍ ناهز الأربعين من عمره قبل عدة أيامٍ أيضاً..إكرام تم إطلاق سراح مُغتصبها و قبول تنازل والدها عن القضية و كأنها نعجةٌ تم دهسها عرضاً في الطريق..و بعد أن حدوث ضجةٍ إعلامية على قرار المحكمة الصادم ذك تم اعتقال المُغتصب من جديد..و لكن لم يتساءل أي شخص كيف حكم القاضي من الأساس بأن وحشاً في الأربعين يغتصب طفلةً في السادسة يستحق العفو من القانون و المجتمع؟؟..هل لأن ذلك الاغتصاب كان بالنسبة إلى ذلك القاضي مجرد إعادةٍ لسيرة الأولين؟؟..لا أعلم حقاً..و لكن هذا القضاء الذي أصدر قراره ببراءة مغتصب هو ذاته الذي اعتقل و عذَّب إنساناً بسبب قطعة قماشٍ ملونة..تختلف أسماء البلدان العربية و لكن المُحرِّك للتشريعات القانونية فيها واحد ألا و هو سحق الإناث منذ الطفولة حتى الممات.

عبارة سارة الأخيرة كانت أنه بالرغم من قسوة هذا العالم معها فإنها تسامحه..أؤمن أن صاحبة تلك الابتسامة الرقيقة البريئة كانت صادقةً جداً و هي تمسك بقلمها للمرة الأخيرة لتخط تلك العبارة..و لكنها لم تعلم أنها بتلك البراءة الشديدة و الغفران الأشد جعلت العالم أجمع يرى حقيقة ما كانت تعانيه..فذلك العالم العربي المسلم الذي منحته الغفران بنُبلٍ نفسيٍ تُحسد عليه قابل تصرفها بموجةٍ كراهية لم تنتهي حتى الساعة..فكان ما حدث هو الصفعة الأخلاقية الأخيرة التي وجهتها سارة -عن غير قصد- لتلك المجتمعات التي حتى لو منحتها الضحية الغفران فلن تتردد في كيل المزيد من التعذيب تجاهها و لو كانت قد أصبحت جثةً هامدة..فأي مجتمعاتٍ لئيمةٍ أنشأ العرب و المسلمون و عن أي أديانٍ متسامحةٍ مع اختلاف الآخرين يتحدثون!!.

سارة كانت تبعد عني مسافة عدة ساعاتٍ فقط بالسيارة و لكن لم يعلم أحدنا بوجود الآخر في هذه الحياة إلا بعد الموت..و لا أعلم لماذا تعذبني هذه الحقيقة كلما تذكرتها..ربما لأني أشعر بأن لا أحد يستحق أن تُسحق روحه جداً بسببهم دون أن يكون هناك من يقف بجانبه ليمنحه بعض القوة ليستمر في المقاومة..و لكني الآن لا أملك أن أقول لروحها إلا:"عُذِّبتِ كثيراً بينهم و بسببهم و لكن الآن سيُدفن جسدك في مكانٍ طاهر ستكونين فيه مطمئنة و بعيدة عن أراضيهم العفنة و أرواحهم الموبوءة".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Students in the USA are protesting in support of Palestinia


.. إسرائيليون يتظاهرون قرب منزل بيني غانتس لعقد صفقة تبادل أسرى




.. برنامج الغذاء العالمي يحذر من المجاعة في شمال قطاع غزة... فك


.. مظاهرات واعتقالات في الولايات المتحدة الأمريكية.. حراك جامعي




.. الأمم المتحدة: هناك جماعات معرضة لخطر المجاعة في كل أنحاء ال