الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العرب والنموذج الأمريكي

محمد علاء الدين عبد المولى

2006 / 6 / 23
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


أمريكا تكيل بمكيالٍ واحدٍ لا مكيالين !

(( العرب والنّموذج الأمريكي )) هو عنوان كتيّب صغيرٍ جداً للدكتور فؤاد زكريّا . وهو كتيّبٌ يستعيد في هذه الأيام أهميّةً من نوعٍ ما. فهو صادرٌ منذ واحد وعشرين هاماً ... لكنَّه لم يكتب تحت تأثير وقائع راهنة ينتهي الكلام عنها بانتهائها. خاصةً وأن مؤلّفه د. فؤاد زكريّا ذو موقعٍ فكريٍّ هامٍّ في حقل الدراسات الفلسفيّة والفكريّة العربيّة. ويأخذ تحليلُه لظاهرة النموذج الأمريكي طابع القراءة الثقافية العميقة التي تشكّلُ مرجعيّةً لا ينتهي أثرها.
والآن بعد صحوة أمريكا العارمة على موضوع مكافحة الإرهاب، تُستعاد أفكار د. فؤاد زكريّا بقوّة ، مع أن أفكاره لا تصبّ في مفهوم مكافحة الإرهاب، بل هي تدور حول نقد الدّعوة الشائعة، إلى اعتبار أمريكا نموذجاً حياتيّاً وثقافيّاً واقتصاديّاً يجب الاقتداء به والتّمثّل بمغزاه. فهل يمكن الآن أن نتوقّف قليلاً ومن جديدٍ، حول مدى صلاحية هذا النموذج الأمريكي للعالم؟ إذ على ما أظهرت الوقائع، ثمّة من يصوغ تصوّراته وطموحاته على المقاس الأمريكي، سياسةً واقتصاداً ويحشد القوى والاتجاهات خلف هذا النّموذج وكأنّه تحوّل إلى (( منقذٍ )) للعالم من آلامه و ويلاته. وكما نرى، يكشف الموقفُ عن زيفٍ منطقيّ لا غموض فيه. إذ كيف تتخيّل البشريّة أنها ستسلّم نفسها للنموذج الأمريكي لينقذها؟ وهو النّموذج الذي دشّنَ تاريخاً من الحروب والويلات والمجاعات والمجازر الجماعية ضدّ جميع العالم.
وكيف يمكن لدارسٍ في تفاصيل تاريخ أمريكا أن يصدّق الشعار الكبير المرفوع الآن من قبل الإدارة السياسية والعسكريّة، والثقافية، الأمريكية، والذي فحواه: أن أمريكا تقود حرباً ضدّ الإرهاب ؟ هل مُسخت ذاكرة البشر ؟ هل غُسلت أدمغة النّخب السّياسية والثقافية في العالم، وفي الوطن العربي، حتّى يشاركوا في تعميم هذه الكذبة الجديدة: أمريكا تكافح الإرهاب؟. إن هذا نتيجة من نتائج الانبهار بأمريكا، وتحصيل حاصل لمسألة رفع أمريكا إلى مرتبة الشّريك النّزيه أو الرّاعي الأول لعملية السّلام، المطلوب منه أن يكون حياديّاً ويقف مع الحقّ ..
يقوم إذاً د. فؤاد زكريّا بنقد هذا النّموذج الأمريكي. ليكشف التناقضات القابعة في أذهان من يلهثون وراء النَّمط الأمريكي في جميع مناحي الحياة. فيذكّرنا في البداية بنقطة اكتشاف أمريكا عبر التاريخ. حيث تمّ العثور على قارّة جديدة غنيّة بالثروات والامكانيات الهائلة، حتى أنها الأرض البكر التي لم يكتشفها أحد بعد. كان ذلك في الوقت الذي كان في (( العالم القديم قد استُهلك منذ ألوف السنين، ونضبت موارده عبر الحضارات التي تعاقبت عليه )). فكانت أمريكا – والحالة هذه – كنزاً لا يقدَّر بثمنٍ. ستتهالك عليه قوى الغرب ومصالحه ليتقاسموا الجنّةَ الجديدة. ولكنهم تقاسموها بمنطق القتل. والإبادة. حيث كان سكّان الأرض الجديدة قبائل معزولةً عن العالم وما يجري فيه. فلم يكن لديهم اللغة العسكريّة الفتّاكة التي يمتلكها الفاتحون العظام. الذين رأوا أن لا مهرب من إبادة السكان الأصليّين لاعتبارهم خارج التّاريخ، ولاصطدام مصالحهم العظمى معهم. فالفاتحون لا وقت لديهم للتّحاور مع هؤلاء الهنود الحمر.
إنهم عقبةٌ أمام الحضارة، تعوّق تقدّم السيد الأبيض الذي جاء مدجّجاً بأصناف الأسلحة. (( وكان هذا التّفوّقُ في التّسلَّح أي في صناعة القتل، هو العامل الأول لانتصار المستعمرين الأوربيين على أصحاب الأرض الأصليّين. ومن المؤكد أن أميركا ظلَّتْ دائماً تدرك بوعي تامّ أهمية التفوّق في التّسلّح )) كما يقول د. فؤاد زكريّا، وكما هو واقع الحال فعلاً. فقد تشكَّلتْ هستيريا التفوّق في الذّهنيّة العسكريّة الأمريكية. والمهمّ أن د. فؤاد يقارن بين تعامل الفاتحين مع الهنود الحمر وتعامل الصهاينة مع الفلسطينيين. وهذا ناتجٌ طبيعيّ من كون (( إسرائيل )) انتفاخاً أمريكيّاً – أوروبيّاً، امتداداً سياسيّاً ومصلحيّاً لهم، وتعبيراً من تعبيراتهم الثّقافيّة. فالفلسطينيّ هو هنديّ أحمر، كما كان الفيتناميّ هنديّاً أحمر، والياباني في ناغازاكي وهيروشيما هنديّاً أحمر ... ويدعونا د. فؤاد إلى عدم المفاجأة من دعم أمريكا لإسرائيل ... فالأمريكيُّ يبرمج نفسيَّته على أساس أن صاحب الأرض الأصليّ عليه أن يذهب للجحيم ليترك المجال للقويّ ليعرف كيف يستخدمها ويعمل فيها ... هكذا أبيد الهنود الحمر ليخلوا الجوّ للأمريكيّ المتحضّر ... فلماذا لا يدعم الأمريكي إسرائيل ؟. إنها مرآته التي يرى فيها نفسه. وإذا لم يدعمها فذلك لأمرٍ يتعلّق بخللٍ طارئ سرعان ما يعود إلى الوضع الطبيعي.
فما يعلنه الصَّهاينة ، وما يفعلونه الآن تماماً، هو نسخةٌ إسرائيليَّةٌ عمَّا يعلنه الأمريكيّ ... إن عقدة التفوق انتقلت من الآلة العسكرية إلى الآلة الاقتصادية، أو هما تزامنا معاً لدى العقل الأمريكيّ. وهذا خلق مناخاً من الشعور بالتّفوق في كل شيء. وهكذا تتصرَّف أمريكا على أنها سقف العالم، سدرة منتهاه ولا شيء بعدها. هي تضع وثيقة حقوق الإنسان، (( الإنسان الأبيض طبعاً )) كما يذكّرنا د.زكريّا . وهي التي توزّع الحريات على شعوب العالم. ومفهوم الحريّة طبعاً مفهوم يخالف كل مفاهيم البشرية، كما هو متمثَّل في الذهن الأمريكيّ. لماذا لا يقفون مع حرية شعوب العالم الثالث؟. لماذا لا يتحدثون عن انتهاك حقوق الإنسان في الأنظمة الحليفة لهم ؟ ويفطنون بحقوق الإنسان لدى دولٍ تعارض السياسة الأمريكية ؟ . هل الوقوف مع، أو ضدَّ أمريكا هو من يحدّد حقوق الإنسان؟ هكذا تعلن أمريكا الآن:
(( اختاروا : إمَّا مع أمريكا أو مع الإرهاب )) ... لماذا يفاجأ الآخرون بهذا ؟ . إن لم يقل بوش هذا فهذا يعني أنه منشقّ عن النَّهج الأمريكيّ ... ليس هذا وحسب، بل إن أمريكا تحوّل في غمضة عين أشدّ الأعداء إلى أقرب الحلفاء لها، وبالعكس. وهذا ليس تناقضاً أساسيّاً في بنية السياسة الأمريكيّة . بل ذلك أعلى درجة من درجات الانسجام مع النَّفس ...
يشير د. فؤاد في مكان آخر من كتابه إلى أن الاقتصاد الأمريكي ليس صالحاً ليكون مثالاً للآخرين. فظروفه التاريخية ظروف فريدة لم تتح لدولة أخرى... فأمريكا دولة لم تمارس ضدّها حروب حقيقيّة. ولم تستنفذ مواردها المادية والبشرية كما حدث لجميع بلدان العالم ... ويصل من ذلك إلى أن (( أمريكا ظاهرة فريدة لا تتكرر وأن مجموعة العوامل التي تضافرت لكي تجعل أميركا أقوى وأغنى دولة في العالم كانت بالفعل عوامل لم يتح مثلها لأي بلد آخر )). لذلك من حقّ الأمريكي في الدّاخل أن يربّي ذهنه على التّفوّق، واحتقار الآخرين واعتبارهم لاقيمة لهم. نبيدهم بالحروب وندمّر اقتصادهم ونستنزف بترولهم وماءهم فلا حاجة لهم به. ولكن لماذا يوجد فقراء في أمريكا ؟ . مع كل هذا الثّراء والتفوّق ؟. ولماذا تنتشر البطالة عندهم ؟ حتّى أن ظاهرة مثل البطالة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من بنيان الحياة الأمريكية .. إن ذلك يكمن سببُه في طبيعة النّظام الاقتصادي القائم على (البيزنس) ! حيث ليس هناك في أساس هذا النظام قيمة للإنسان . إنه نظام لا إنساني يسقط من حسابه الإنسان. ولا يرى في البشر أناساً، بقدر ما يرى فيهم أرقاماً تعلو وتهبط في البورصة . و إذا كانت هذه هي النظرة للإنسان داخل أمريكا، فكيف ستنظر أمريكا إلى كوبا وليبيا وفلسطين وسوريا والعراق؟ . ويشير د. فؤاد إلى أن المفارقة هي في (( أن العقل الأمريكي هو الذي اخترع علماً اسمه العلاقات الإنسانية )). ولكن عندما يبحث في جوهر هذه العلاقات يكتشف أنها علاقاتٌ تتَّصلُ بكيفية التأثير في العملاء الاقتصاديين وكيفية إدارة التَّنافس فيما بين رؤوس الأموال وصانعي القرار الاقتصادي ولا يدخل البشر الحقيقيون في هذه العلاقات... لذلك لا يرى د. فؤاد من تسمية هذا العلم بعلم العلاقات اللاإنسانية . كيف لا، وفي ظلّ هذا النّظام، وهذا العلم تمارس الجريمة المبرمجة بأرقى أدوات التكنولوجيا والسلاح ؟ هكذا تتباهى أفلام أمريكا بتقنية الجريمة في مجتمعها ... إن الجريمة في أمريكا كما يرى د. فؤاد (( لصيقةٌ إلى أبعد حدّ بالمجتمع الأمريكي ذاته )) ... لذلك ... لا يحقّ لمثل هذا النّظام أن يدّعي الحرص على أيّ حق من حقوق أي إنسان ... ولا يخدعنّ أحدٌ بما تنزله الآن طائراتُ الإغاثة والمعونة من أكياس الدّقيق والرزّ على عشرات آلاف الأفغانيين المشرّدين ... فهؤلاء ضحايا من صناعة أمريكا نفسها التي تريد أن تتاجر بالعطف عليهم وتحويل الموقف إلى لحظةٍ دراميّةٍ، لكن على طريقتها ... أمّا ذلك الدولار الذي طالب به بوش أطفال أمريكا، فهو جزء أساسيّ من اللّعبة الحقيرة التي تديرها أمريكا. لأن ذلك يعني فيما يعنيه، إيهام الآخرين بأن أمريكا هي الكليّة القدرة، تعطي الخير والحرب معاً ... إنها قضاء وقدر بخيره وشرّه ... والمشكلة أن الأنظمة العربية أكّدت عبر تحالفها مع أمريكا أنها مؤمنة بهذا القدر الأمريكي الذي لا رادّ له. لذلك نسمع الخطاب السياسي العربي المتآكل يدعو أمريكا التي تزوّد إسرائيل بأسلحتها المتطورة من أجل قتلنا، بالتّدخل لدى إسرائيل والضَّغط عليها ... وهذا مع الأسف نوع من أنواع الغباء السياسيّ الذي لم يعد ينطلي حتّى على الشّارع ..
حيث يشير د. فؤاد زكريّا إلى أننا لا يمكن نكون مع أمريكا ضدّ إسرائيل. لأن أمريكا – ببساطة – مع إسرائيل . وهي معها وعليها (( أن تقف إلى جانب إسرائيل على طول الخط وأن تحافظ على وجودها كما لو كانت ولاية أمريكية )) ... ويمكن أن نشير هنا إلى أن أمريكا في ذلك لا تكيل بمكيالين أبداً، فليس لأمريكا غير مكيالٍ واحدٍ هو أمريكا ومصالحها. نحن من ننظر إليها على أنها يمكن أن تقف معنا ولا تقف مع إسرائيل.
نحن من يأمل من أمريكا أن ترفع الحصار عن العراق وليبيا والسودان والضفة الغربية ونطلب منها أن تتدخل في الشاردة والواردة والساخنة والباردة ونتمنى منها أن تتلطف معنا وترحمنا بأقدارها... كيف يمكن أن نصدّق ذلك بعد أن أعلنت أمريكا بنفسها أنها لا وقت لديها لتمتلك مكيالين، إنها تقول بوضوح: إمّا مع أمريكا أو مع الإرهاب ... فمن الذي يكيل بمكيالين بعد هذا ؟!.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا وراء استئناف الخطوط الجوية الجزائرية رحلاتها الجوية من


.. مجلس الامن يدعو في قرار جديد إلى فرض عقوبات ضد من يهدّدون ال




.. إيران تضع الخطط.. هذا موعد الضربة على إسرائيل | #رادار


.. مراسل الجزيرة: 4 شهداء بينهم طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزل




.. محمود يزبك: نتنياهو يريد القضاء على حماس وتفريغ شمال قطاع غز