الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خريف الرسام

وسيم بنيان

2020 / 6 / 21
الادب والفن


نظر من نافذة غرفته رمادية الجدران، وما زالت اللفافة التي تناسى أن يواصل احراقها،
خامدة بين فكي سبابته ووسطاه.
 كانت الغيوم تجري متسارعة فوق الهضاب، الممتدة خارجا،من سياط النفخات الرياحية المجنونة،وكأنها تصر على الإطاحة بباب الكوخ التي اخذت تختض بشكل مخيف، وتعالى أزيزها منسابا بين عزف المزلاج، وإيقاعات طبول النافذة بائسة الإحكام. استفاق لحظة من ذهوله، وحاول ان يتذكر من اين التقط عبارة :(الغيوم على اشكالها تتمرد)،فلم يفلح.اعاد نظره إلى داخل الحجرة التي تغطت أرضيتها بلوحات ممزقة وأخرى لم تكتمل بعد،وقد تناثرت على الحواف وفي الزوايا.رفع رأسه نحو الجدار الوحيد الناجي من الانفطار، وتكريما لاستثنائية تحمله، وشحهُ بلوحته التي ظلت زمنا طويلا خارج شهوة التغير.انتصفت فيها تلك العجوز طاعنة السن بملامحها المرعبة، حيث نقشت بتجاعيد وجهها الخريطة المأساوية للتاريخ البشري.اتشحت بالسواد وترصعت سحنتها بقشرة رمادية باهتة، افترشت تراب الأرض بينما اثنت قدميها ممسكة بإصرار عنيف عود ثقاب، توقف شرار لهبه امام فوهة لفافتها.
 سمر وجهه مجددا امام لوحته المستقبلية، منذ أيام طويلة وهي ساكنة فوق محملها بوداعة الحمل الوليد.تنبه إلى لفافته مجددا، وكأنما سمع استغاثتها وتوسلهـــــــــا بإنهاء وظيفتها، فعاود إشعالها من جديد. سحب المنفضة القريبة أليه فتهاوت الاعقاب إلى الأرض من شدة الازدحام. وهبت فجأة ريحاً عاتية تسللت من بوابة ونافذة الكوخ بسهولة، طايرت معها كميه كبيرة من موقده الذي لم يوقد منذ أسابيع رغم البرد القارص.اصر على التكاسل وليس في نيته اختراق وحدته وصمته،من اجل أن ينزل من صومعته  الجبلية لإحضار الحطب واستجلاب الدفئ.
توقفت الرياح عن نفخها مستعيضة بالأمطار المنهمرة بعنف،هيج جنون البرق والرعد، اللذان فشلا في إخراج الرسام من نضوب مخيلته المتحجرة،بعد تصحر طويل فرض عليه أن يشعر بثقل وجوده الذي لا يحتمل.  اشاح بوجهه  مجددا نحو النافذة، مغيراً اتجاه الجهة المنظورة.كانت الشجرة التي تقع في أقصى اليمين منزوعة الأوراق بالكامل، وقد انكسر غصنا صلبا جديدا منها بفأس الرياح العاتية.نظر إلى اسفل جذعها فرأى الأوراق المصفرة الذابلة،وقد التاثت بالطين وعلى جانبها كان كلبه المحتضر متهاوياً داخل بيته الخشبي الصغير.بينما انطرحت قطعة من اللحم اليابس قبالته منذ أيام، وابتدأ الآن يصدر نباحا يدل على مرض ثقيل الوطأة.حاول أخيرا كسر طوق الصمت داخل تهاوي اشيائه،رفع فرشاته المتيبسة منذ ايام، حل شعراتها بالماء وامسك تشكيلته اللونية الجافة أيضا ودعك يبوستها بيبوسة فرشاته، محاولا استعادة بقايا حياتها.وبذهن شارد ووجه يصعب تفسيره شرع يلطخ القماشة بالأسود الغامق، وبضربات مشتتة، وكأنها قطرات مطر عابثتها الرياح.ملأ بعدها الفراغات بأشرطة متعرجة داخلها.ثم خط خطا  بمساحة إصبعين عرضا في أعلى اللوحة، تخللته نقط حمر.وبنفس المسافة باللون الأصفر  فالرمادي،حتى لامست أخر هذه الخيوط اللونية سطح أول البقع السود. غمس أخيرا فرشاه باللون البني وظل يضرب بتوتر فوق الأشرطة.
كان الجرح الذي نقش في أعلى فخذه الأيمن، نتيجة ضربة فأس طائشة وهو يحاول الاحتطاب قبل فترة طويلة،قد التهب نتيجة الإهمال.إذ اكتفى بلفه بخرقه بالية جفت الدماء فوق سطحها وتوسع الجرح تحتها، فلا يند عنه خلا التغافل التام لعالم أشيائه.تمادى كثيرا في الكسل وحاول أن يطرد بأسه وسأمه بسأم الأشياء البشعة التي تحيط عالم حجرته، واستغنى عن الاستحمام لأن البرد اكثر من أن يحتمل داخل حيز جدرانه.وعلى الرغم من تدثره ببطانية غالبا الا ان البرد لم يتركه ابدا.ومع كثرة اللفافات التبغية التي يستهلكها اصبح صدره يعزف ألحانا سعالية مرعبة مزدوجة البرد والدخان.ولخنق اخر أنفاس النشاط اعد لنفسه صحيفة معدنية، استخدمها سابقا بصفة مخزن صغير للمادة التبغية،ومع نفاذ التبغ صار يستخدمها لقضاء حاجته،كي لا يضطر للذهاب إلى بيت الكنيف القذر.حيث سدت آلته التي تصرف المواد  ذات الرائحة الزنخة، واصبحت حينها الرائحة لا تطاق.فشعر بأن  الصفيحة انظف منها، وتوفر له الجهد والوقت كذلك. لكنها اخذت تعبق بدروها برائحة عطنة، وقد زادت الآن لأنه استخدمها قبل قليل.
سمع نبحة مرتجفة من كلبه الهرم،تبعها بنبحة اكثر ارتجافاً،وبدأت نباحاته تتباطأ رويدا رويدا نحو هاوية الفراغ.أصاخ سمعه قليلا وعاد ناظرا من النافذة.كانت الأمطار قد توقفت خارجا ولف فضاء الحجرة سكون رطب.يبدو ان البوابة تعبت من الرقص فقررت انهاءاهتزاها،وكذلك فعلت النافذة.قال في نفسه بعد عدم سماعه لنبحة جديدة : وداعا يا صديقي الوفي لقد آن لك أن تنفق فوق ضفاف بحر الحياة،بشراع الموت.
عاد محدقا في عمق لوحته،شعر بذهول عجيب،فقد الاتصال تماما بعالم أشيائه.اراد أن يضع إطارا للوحته غريبة المحتوى،حرك فرشاته دون أن ينظر أليها لاستغراقه في اللوحة. ومن غير أن يشعر غمسها بالصحيفة  ولون،فنتأ حولها اطار خرائياً،وبعد ان انهى رسمته بالغ في شد بطانيته،وغط امامها في نوم عميق.ان خطر لشخص ما ان يمر بجوار كوخه اليوم،فسيسمع بالطبع شخيره...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس


.. كلمة أخيرة - المهرجانات مش غناء وكده بنشتم الغناء.. رأي صاد




.. كلمة أخيرة - -على باب الله-.. ياسمين علي ترد بشكل كوميدي عل


.. كلمة أخيرة - شركة معروفة طلبت مني ماتجوزش.. ياسمين علي تكشف




.. كلمة أخيرة - صدقي صخر بدأ بالغناء قبل التمثيل.. يا ترى بيحب