الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لوحة گلگامش التي ستهزّ العالم

حامد تركي هيكل

2020 / 6 / 24
الادب والفن


يبدو الضجيج المعهود للشارع من أصوات باعة قناني غاز الوقود و الخضروات وأبو العتيق اليوم أقلَّ من أيِّ وقت مضى. بل لا ضجيج أبداً.الصمت يخيّم على الشارع، فقد تم تمديد حظر التجوال. يجلس وليد الناصر في بيته منذ أشهر، لم يصل إلى مرسمه الذي يبعد عن بيته منذ أن أُعلن عن تفشي فايروس كورونا.

وليد الناصر رسام تشكيلي يبلغ من العمر ستين عاما. لم ينجز الكثير، لكنه كان دائما يؤمن أن مشروعا عظيما سوف ينجزه في وقت ما، وسيرفع ذلك المشروع اسمه عاليا في الوسط الفني. وليد الناصر فنان معروف وقد اشترك بعدد من المعارض الفنيّة، ولديه معارض شخصيّة أيضا. لوحاته تُباع بأسعار جيدة، لديه أسلوب مُميَّز، وقد أنجز عبر مسيرته الفنيّة رغم الصعوبات الكثيرة التي اعترضتها أكثر مما حققه أقرانه. تملكته فكرةٌ منذ زمن بعيد، أو طموح، أو حلم. وهو أنه سيرسم ذات يوم لوحةً سيكون لها صدى واسع وسيُعرف بسببها عالميا. لوحة تعالج هموم الأنسان و معاناته.
مرت السنون، وما زال ذلك الحلم يراوده، حتى قبل شهرين فقط، عندما تفشت كورونا، واضطر للبقاء في البيت. فقد نهض فجرا كعادته، ووجد أن فكرة اللوحة الحلم قد ارتسمت في مخيلته بوضوح، بكل ألوانها وتفاصيلها وحجمها. حتى أن اسمها كان موجودا أيضا، (گلگامش).
منذ ذلك اليوم وفكرة لوحة (گلگامش) تسيطر عليه وتتضح معالمها أكثر فأكثر. بات يخططها بالقلم الرصاص على ورق، ويطور فكرتها وتفاصيلها ونسبها ومضامينها. لم يعد قادرا على التفكير بشيء آخر، فقد نسي مواعيد أكله ونومه، ونسي تلفونه بدون شحن، وانقطع عن العالم، وتوحّد كليا مع (گلگامش) اللوحة.

منذ أن تفشت كورونا، وسمع وقرأ عن علاقتها بالجهاز التنفسي، اتخذ قرارا خطيرا ومفاجئا، قرارا طالما كان يرفض مناقشته، فقد أقلع عن التدخين. كان مدخنا شرها، وكان لا يعرف كيف يفكر ولا كيف يرسم من دون أن تكون السجارة قريبة منه. ولكنه قرّر أن يواجه المرض في حال تعرضَّ له برئتين قويتين، أو بأفضل ما يستطيع أن تكون عليه رئتيه. لا لشيء بل ليتمكن من تنفيذ حلمه. ولكن كيف له أن يرسم من دون تدخين؟ هذا سؤال ظل جوابه مؤجلا حتى ساعة وصوله إلى مرسمه، والتي لا يعلم متى ستكون.
بدا وليد الناصر قلقا، وخائفا من أنه لن يتمكن من إنجاز (گلگامش). هل جاءت (گلگامش) بوقت غير مناسب؟ هل بقيت تعده بالمجيء طيلة عمره كله، ولكنها لم تأتِ إلّا متزامنة مع كورونا؟ هل ستمتد مدة الحظر؟ هل سيصيبه المرض ويموت من دون أن يعلم أحد بفكرة (گلگامش)؟
وحيدا، وقلقا، وخائفا، ومليئا بطاقة وبشحنة لم يكن بمقدوره كبتها دون أن يحولها إلى مساحات لونية بالزيت على القماش. كان يقضي الليل والنهارمع تلك الظنون والهواجس والعواطف والرؤى.
كانت تتسلل إلى مخيلته بين الحين وإلّاخر صور قديمة قد تكون مرتبطة بالخوف، وبالقلق، و بالمشاريع التي لم تكتمل، والمشاريع التي لم تر النور. وأفكار أخرى مرتبطة بخسارة أشياء جميلة.
تراءى له وجه تلك الصبيّة التي أحبَّها منذ أن كان حدثا. كان يراها كل يوم، وكانت تمنحه ابتسامة عريضة واعدة. سنوات دون أن يقول لها شيئا. لأنه كان يحلم بالرسم، وبالفن، وبمشروع عمل فني عظيم يرفعه إلى مستوى جواد سليم. مثل وليد الناصر هذا لا يمكنه أن يتوقف في بداية الطريق، كان عليه أن يمض. وقد نفذ صبر الصبيّة، ذات يوم قالت له (أحبك). ولكنه ابتسم خجلا وابتعد إلى إلّابد.

تراءى له وجه رئيس العرفاء وهو يأمره بالتقدم، زخفا على بطنه وهو يحتضن بندقيته، كان عليه أن يتقدم بضع خطوات تحت جنح الليل، ليسحب زميله الجندي الذي سقط شهيدا للتو أمام الساتر الترابي. تقدم! صرخ به رئيس العرفاء. في تلك اللحظة شعر أنه سيموت، ولن يكون بإمكانه تنفيذ حلمه الذي طالما كان يراوده، مشروع العمل الفني الكبير الذي سيكون مثار إعجاب العالم.
تراءت له تلك اللحظات التي مرت كأنها ساعة وليست ثواني عندما كان لمّا يزل طالبا في الإعدادية، عندما فلت فرونده الذي يحمله وهو أعلى نخلة القنطار يملأ قفة رطبا. كان يفكر وهو يهوي إلى الأرض لتتحطم عظامه، أنه إن نجا من تلك السقطة فلن يكون قادرا على دراسة الفن، ولن يتمكن من رسم تلك اللوحة التي ستهز العالم. ولكنه لم يصب باذى!

تراءت له تلك الرحلة التي لم تفارق ذهنه أبدا. فمنذ أن كان طالبا في الصف الأول في أكاديمية الفنون الجميلة، إشتاق لبيته، انتظر عطلة نصف السنة بفارغ الصبر. كان يسكن القسم الداخلي رقم 8، وفي كل ليلة كان يحلم باليوم الذي يعود فيه إلى بيته الذي يغفو وسط بستان نخيل على ضفة نهر خضابوه. ذلك البيت المربع ذو الطابوق الأصفر كأنه الذهب. يحلم أنه سينهي آخر امتحان ظهرا، وسيعود إلى القسم الداخلي ليرتب حقيبة سفره، وينطلق إلى ساحة النهضة بعد الظهر، سيركب (النيرن) أو أي باص متوفر لا يهم، والذي سينطلق إلى البصرة عصرا أو قبيل المغرب، ستستغرق رحلته سبع ساعات متواصلة، سيشعر بالبرد، ولكنه سيقضي الليل حالما ببيته. يتخيل كيف أنه سيكون قلقا من أنه قد لا يستطيع تحديد النقطة التي ينزل فيها من الباص لتكون قبالة قريته. فالظلام دامس، والبرد شديد، ولكنه ظل متحفزا ومتيقظا بعد أن اجتاز الباص مدينة القرنة. فقريته تقع على الطريق شمال البصرة. سوف يصيح بأعلى صوته (نازل)، وسيتوقف الباص، وسينزل، تماما في النقطة الصحيحة. وسوف يخترق البساتين المظلمة وحيدا، سيجتاز بستان بالي، وسيعبر القناطر القلقة المتأرجحة فوق الأنهارحذِرا، سيعبر وحشة الدرب الوسطاني، وسيجتاز أكثر المناطق خطورة قبل الفجر وعندما يكون الظلام حالكا. تمنى إلّا يوقظ الطنطل الذي يتربص بالمارّين في تلك الدروب ليلا. وتمنى إلّا يزعج مرورُه المتأخرُ جدا الجنيَّ الغاضبَ المكلفَ بحراسة السدرة المعمّرة التي تسكنها الأرواحُ. وأمل ألّا يجد أن المدَّ قد أطاح بالجسر الخشبي أو جرفه بعيدا، ما يضطره إلى أن يعبر النهر سباحةً في تلك الليلة الباردة من منتصف شباط اللبّاط، أو أن ينتظر عند جذع نخلة حتى الصباح الباكر ليتمكن أحدٌ ما من نقله إلى الضفة الأخرى ببلم.

وتصوَّر تلك اللحظة ، حين يتلمس بالظلمة باب البيت الخشبي الكبيرذا المصراعين، المصنوع من خشب الجاوي المصبوغ بلون كحلي. تصور كيف سيمرر أصابعه في الظلام يتحسس تفاصيل الباب التي حفظها عن ظهر قلب. ثمة قوسين ناتئين على الباب أحدهما على اليمين والآخر على اليسار، يستند كل منهما على قائمتين بارزتين. يتوسطهما عمود ناتيء أكبر من قائمتي القوسين، عند التقاء المصراعين. وثمة تاج عمود يعلو هذا العمود. على التاج زخارف نباتية محفورة. بإمكانه أيضا أن يتحسس مكونات الباب، ألواح عُشِّقت مع بعضها دون مسامير، مستطيلات وألواح أفقية وأخرى عمودية.زوايا مدوّرة. أفضل الأجزاء هي تلك المطرقة النحاسية التي ثُبتت على الباب. تكوين عجيب، متناسب مع قبضة اليد، كأنها نهد، لونها مائل للخضرة في النهار، ولكنها في تلك الساعة لن يكون بمقدوره رؤية لونها، سيتحسسها فقط، سيجد أنها باردة جدا. سيرفع المطرقة ويسقطها على المسطرة النحاسية المزخرفة المثبتة على الباب تحتها. سوف يسمع صوت اصطدام النحاس بالنحاس، وسوف يشعر باهتزاز الباب. وسوف يسمع بعدها أباه وهو يصدر صوته المعتاد، أحم أحم. من؟
بعد ذلك ستكون كل الأحداث معروفة، وستنتهي رحلته تلك إلى غرفته التي مازالت حرارة شمس العصرتنتظره فيها، عند سريره الدافيء، تحت لحافه البرتقالي المائل إلى الحمرة، الموشى بأزهار بيضاء صغيرة. حيث تتكور القطة نائمة عند قدميه تصدر صوتا من ضلوعها تعبيرا عن الرضا. سينام ما تبقى من تلك الليلة، ولن يصحُ إلّا عند الظهر، أو العصر، أو المساء، أو حتى عند صباح اليوم الثاني.

كل تلك الخطوات التي رسمها بخياله حصلت تماما كما تخيّلها إلّا شيء واحد. ذلك لأنه عندما تلمس طريقه إلى موقع الباب، مدَّ يده ليلمسه، ولكنه لم يجد إلّا الفراغ. فقد أُقتلع البابُ من مكانه، ثم اكتشف أيضا أن الجدران هي الأخرى قد أختفت. مرَّ كالمتخبط بين أنقاض الطابوق والتراب مباشرة إلى ما كان يوما حوش الدار، وصرخ صرخةً مكبوتةً لم يتردد صداها، إذ لم يكن هناك جدران تعكس الصدى. جثى على ركبتيه، وبكى بكاءً مؤلما مثل طفل. في تلك اللحظة كان يخشى أن تلك الحادثة سوف تحول بينه وبين تحقيق حلمه في رسم تلك اللوحة التي سيتحدث عنها العالم.
بعد كل ذلك الإنتظار لا تأتي (گلگامش) إلّا في زمن الوباء! شعر أن صدره يؤلمه، وأن قواه بدأت تخور. ساوره قلق في أن يكون قد وقع ضحية للوباء هو أيضا. نظر إلى مخططات (گلگامش) الفحميّة وشعر بسريان دفق من العزيمة والإصرار في جسده. ابتسم، وتمتم بصوت خافت، ولكنه واثق، سوف أنجز (گلگامش)، وسوف تهزّ العالم.

ِ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس


.. كلمة أخيرة - المهرجانات مش غناء وكده بنشتم الغناء.. رأي صاد




.. كلمة أخيرة - -على باب الله-.. ياسمين علي ترد بشكل كوميدي عل


.. كلمة أخيرة - شركة معروفة طلبت مني ماتجوزش.. ياسمين علي تكشف




.. كلمة أخيرة - صدقي صخر بدأ بالغناء قبل التمثيل.. يا ترى بيحب