الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاريخ الأوبئة(8) الأزمات الوبائية ومحنة العقل

عبد المجيد السخيري

2020 / 6 / 24
ملف يوم المرأة العالمي 2021: التصاعد المرعب في جرائم العنف الأسري في ظل تداعيات وباء كورونا وسبل مواجهتها


في كل مرة يتم فيها تغييب العقل بضغط من أزمة طارئة أو كارثة، يتم البحث عن مسؤول متآمر أو أسباب غير طبيعية علوية أو سحرية. هذا بالتحديد ما حدث مع تفشي الأوبئة والجوائح عبر التاريخ، ومع كل الأزمات الحادة والمفاجئة، حيث يجد الناس راحتهم في التوسل بنظرية المؤامرة، أو اللجوء بكل بساطة لتفسيرات تربط المصائب بوجود عقاب إلهي للبشر أو لجماعة معينة منهم بسبب ما يقترفونه من مظالم ومفاسد في الأرض عسى أن يعتبروا ويعودوا إلى رشدهم، وهي تفسيرات تنتشر أكثر في المجتمعات التقليدية والمحافظة حيث يفقد الناس ثقتهم في العلوم والعقل نتيجة سياسات التجهيل وتخلف نظم التعليم، فضلا عن استغلال الدين من قبل الشيوخ والجماعات السياسية لإحكام السيطرة على "العوام" وتدجينهم ليتسنى توظيفهم في معارك وصراعات داخلية، أو الحصول على أصواتهم الانتخابية وتجييشهم عند الضرورة لضرب الخصوم وإضعافهم. وإن ردود الفعل اللاعقلانية، سواء جاءت في شكل تصرفات غير محسوبة وخوف مرضي وهلع جماعي في مواجهة الأزمات الصحية على وجه الخصوص، أو الكوارث الطبيعة المدمرة، أو في شكل تفسيرات يروجها بعض من ينصبون أنفسهم دعاة أو رعاة الأمن الروحي للناس من رجال الدين أو غيرهم، أمر يستدعي الانتباه، وقد لازم كل الأزمات العظمى على مر التاريخ واستمر إلى يومنا، وربما سيظل ملازما للبشر إلى أمد بعيد، رغم تقدم العلوم والعقلانية التقنية.
وربما لم تنتشر نظرية المؤامرة مثلما يحدث في عصرنا، إذ عند كل أزمة مفاجئة أو كارثة تنتشر التفسيرات اللاعقلانية للأحداث، ويلجأ العقل الكسول في الغالب إلى نظرية المؤامرة لإعفاء نفسه من أي جهد في البحث والتدقيق، حتى ولو وجدت فعلا مؤامرات في غير قليل من الحالات في شكل مصالح سياسية أو اقتصادية مقنعة، أو تخطيط سري لتحقيق أهداف محددة من قبل قوى وجماعات تسعى إلى نيل مكاسب غير مشروعة أو احتكار مصالح أو تعزيز النفوذ والزيادة في القوة. فوجود المؤامرات لا يسوغ الهرولة إلى "نظريتها" كلما حلت أزمة أو طرأت مصيبة لا يتمكن الناس من معالجتها فوريا، أو يجدون صعوبة في تفسيرها بأسباب واضحة أو معلومة، نظرا لطراوتها أو بسبب تعقيدها، أو أيضا لتزامنها مع أحداث اجتماعية أو سياسية ومعينة تبعث على الشك والريبة.

سوابق من التاريخ

لعل أسوء مثال لما نتج عن استغلال نظرية المؤامرة في تاريخ الأوبئة والجوائح ما اقترن بانتشار الطاعون في أوروبا في العصر الوسيط من موجة كراهية وعنف استهدفت اليهود المتهمين بنشر المرض عن طريق تسميم الآبار، بحيث تتحدث بعض الروايات عن مذابح واسعة ارتكبت في حق هؤلاء بموافقة السلطات، كما حدث بنهر الراين بفرنسا، بينما سُجل للبابا أنه سعى إلى تهدئة الموقف من خلال التأكيد على أنه من غير المعقول أن ينشر اليهود مرضا ويكونوا في نفي الوقت من ضحاياه، وهو أمر نادر الحدوث في تاريخ الكنيسة في علاقتها بهؤلاء. ومثلما حدث مع جائحة كورونا، فقد ذاعت نظريات المؤامرة أيضا في تفسير تفشي موجات الكوليرا في القرن التاسع عشر التي تزعم أن انتشار الوباء تم بفعل فاعل يريد تقليص أعداد الفقراء قبل أن تتراجع مع ثبوت الأسباب الشائعة لتفشي المرض التي اكتشفها العلماء، وتبينت القدرة على السيطرة عليه بفضل تحسين ظروف العيش والبيئة والتغذية السليمة ومعالجة المياه الصالحة للشرب. والغريب أن اليهود تحملوا وزر مصائب وكوارث كثيرة عبر التاريخ ودفعوا ثمنا غاليا من جراء ذلك حتى صاروا الجماعة الأكثر تعرضا للاضطهاد الديني والوصم بين جماعات عرقية وإثنية مضطهدة أخرى، قبل أن تحول الصهيونية منذ أواسط القرن الماضي شتاتا منهم إلى جماعة مضطهدة(بكسر الهاء) وعنصرية وغاصبة.

الغرب المتغطرس

غالبا ما تفقد الأزمات المفاجئة والكوارث حكام الغرب ونخبه المتعجرفة توازنهم العقلي وتدفع بهم إلى التطرف العنصري والتهجم على الشعوب التي تختلف عنهم، إما تحت تأثير خدر الأزمة والخوف من السقوط، أو بغاية الابتزاز العاطفي لشعوبهم وامتصاص غضبها المحتمل من تدبير سياسييها الفاشلين. وفي هذا الإطار أيضا يندرج التصريح العنصري المقيت الذي صدر عن الطبيب الفرنسي وفريقه حين ادعى أن اللقاح ضد وباء كورونا يجب أن يجرب بإفريقيا، ما أثار موجة من الغضب والاستنكار وسط الرأي العام العالمي. فمثل هذه التلميحات العنصرية موغلة في نزعة التمركز الأوروبي، وتذكرنا أيضا بما رافق الإعلان عن اكتشاف الفيروس القاتل بالصين لأول مرة من تعليقات عنصرية في الصحف والمواقع الغربية استهدفت تشويه صورة الانسان الصيني، بل وبلغت الوقاحة بمسؤولين سياسيين تسمية الفيروس بالمرض الأصفر، قبل أن يداهم معاقلهم ويصابون بالخرس والهزيمة في مواجهة موجات الفتك بأرواح مواطني بلدانهم، ويعري ضعف نظامهم الصحي وعدم قدرتهم حتى الآن على التدخل الفعال، على نحو ما فعلت الصين بإمكانياتها الذاتية في مواجهة وباء جديد حين أدركت خطورته وتمكنت في تحديد طبيعته المعدية واستنفار كل طاقاتها وخبراتها المحلية للسيطرة على الوباء وحصره في موطنه الأصلي، رغم كل ما تواجهه من انتقادات حقوقية بسبب صرامتها في تطبيق إجراءات الحجر الصحي والمراقبة وغياب الشفافية على مستوى الوصول إلى المعلومة ..إلخ.
وجدير بالذكر أنه عندما ظهر مرض السيدا في الثمانينيات من القرن الماضي وجد الأفارقة أنفسهم أكباش فداء بشيوع معلومة في الغرب تفيد أنهم السبب في ظهور الفيروس لأنهم يتزاوجون مع القردة، قبل أن تُلقى اللائمة على المثليين فيما بعد.

(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأرمن في لبنان يحافظون على تراثهم وتاريخهم ولغتهم


.. انزعاج أميركي من -مقابر جماعية- في غزة..




.. أوكرانيا تستقبل أول دفعة من المساعدات العسكرية الأميركية


.. انتقادات واسعة ضد رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق لاستدعائها




.. -أحارب بريشتي-.. جدارية على ركام مبنى مدمر في غزة